ما الذي يفترض أن يحصل حين تستغرق في النوم؟ تنخفض درجة حرارة الجسم، بينما تسخن القدمان واليدان، ويُرجح أن التغييرات الطارئة على درجة الحرارة تساعد على مزامنة الساعة البيولوجية في سائر الجسم. حيث يتدفق الميلاتونين مرسلا إشارة للدماغ بأن الوقت قد حان ليسكن. فينخفض ضغط الدم ويتباطأ كذلك معدل نبضات القلب، وينتظم التنفس. حينها تغط في النوم.
هذا هو الوضع المثالي على أية حال. إلا أن الخلود إلى النوم ليس عملية يسيرةً على الدوام، ومن الجلي أنها تزداد إشكالا في السنوات الأخيرة، وهو ما أدركته من خلال سلسلة من الحوارات، حين التقيت ببعض الرواد من خبراء النوم للاطلاع على أبحاثهم الجارية حول طبيعة النوم.[1]
وفقًا لتشارلز تشايسلر، رئيس قسم اضطرابات النوم والساعة البيولوجية في مستشفى بريغهام والنساء، فقد انخفض متوسط مدة نومنا أيام العمل، خلال العقود الخمس المنصرمة، بمعدل ساعة ونصف، أي من ثماني ساعات ونصف إلى أقل من سبع ساعات. كما أن 31% منا ينام أقل من ست ساعات ليلا، و69% أشاروا إلى أنهم لا يحصلون على القسط الكافي من النوم. وحين بحثت ليزا ماتريشياني، الباحثة في النوم في جامعة جنوب أستراليا، في بيانات النوم المتاحة التي تتناول الأطفال من عام 1905 إلى عام 2008، وجدت بأنهم يخسرون دقيقةً تقريبًا من وقت نومهم سنويًا، وبالتالي فإن مشكلة النوم ليست ظاهرةً تقتصر على عالم البالغين. نحن، كمواطنين، ننام الآن بمعدل أقل من أي وقتٍ مضى.
إن مجمل الإشكالية لا يتمثل في أننا نستيقظ أبكر من ذي قبل. الكثير من هذا التغيير يرتبط بالوقت الذي نختار فيه الذهاب إلى الفراش، و بالكيفية التي نقرر بها إتيان ذلك. إليزابيث كليرمان، رئيسة وحدة التحليل والنمذجة في قسم اضطرابات النوم والساعة البيولوجية في مستشفى بريجهام والنساء كذلك، يتتبع بحثها الكيفية التي تؤثر بها الفروقات الفردية المتنوعة على إيقاعنا اليومي، وكذلك قدرتنا على الاستغراق في نوم عميق بسهولة. تقول «إن الوقت الذي تخلد فيه إلى فراشك له أثر على طول المدة التي قد تنامها، بصرف النظر عن مدى تعبك».
نغط في النوم أسرع حين نمارس الرياضة ونتناول وجبات طعام منتظمة؛ فتناول الطعام في وقتٍ متأخرٍ جدًا أو الإسراف في تناوله يجعل النوم أكثر مراوغةً.
تحدد منظومة واسعة من العوامل مدى سرعة استغراقك في النوم متى ما قررت ذلك. ولتحديد أهميتها النسبية، وفصل الأمور ذات التأثير الحقيقي عن الأمور غير الضرورية البتة، تقوم كليرمان بدايةً بتقييم عادات الأشخاص وتاريخهم؛ تاريخ نومهم واستيقاظهم، وروتينهم المعتاد، والمشاكل التي سبق وواجهوها، إلى جانب الأدوية التي استخدموها، وإذا كانت أي منها موجهة للمساعدة على النوم. ما إن تجمع كليرمان هذه البيانات، حتى تحضر الأشخاص إلى المختبر، وتراقب نومهم في بيئة محكمة، وتحدد الكيفية التي يؤثر بها كل عامل من هذه العوامل المتنوعة على قدرتهم على الاستغراق في النوم.
جزء من مدى سهولة استغراقنا في النوم مرتبط بجيناتنا: حيث إن الكثير من اضطرابات النوم، المتراوحة بين الأرق واضطراب الساعة البيولوجية، ذات ارتباط جيني كبير.[2] في حال كنت «خارج الطور» أي غير منتظم في وقت النوم المعتاد نتيجة اضطراب الساعة البيولوجية، على سبيل المثال، تكون مستويات الميلاتونين لديك معطلة: وبالتالي فإن الهرمون الذي ينبغي أن يشعرك بحاجتك لأن تخلد للنوم لا يُنتج بالقدر الكافي، أو إن المستقبلات اللازمة مفقودة. وبينما لا يزال الفهم الكامل للطرق الدقيقة التي تؤثر فيها جيناتنا على نومنا كبشر متعذرًا، فإن أخصائية البيولوجيا العصبية، دراجانا روجولجا، التي تبحث الانتقال من الصحو إلى النوم لدى ذباب الفاكهة، قد شرعت في الإجابة عن هذا التساؤل عن طريق حيوانات أخرى. حيث أشارت إلى أن العديد من الجينات المتعلقة بالنوم، محفوظة عبر الأنواع. وأن أنماط النوم عند الذباب مشابهة لتلك الموجودة لدى البشر بدرجة كبيرة. إذ إن طفرة جينية معينة لدى الذباب قد تؤدي إلى «عجزٍ في بدء النوم». يمكن أن تقربنا تنحية هذا الجين وتتبع آلية عمله خطوة من فهم الكيفية التي يعمل بها عجزٌ مماثل عن النوَّم لدى البشر.
ورغم ذلك، فإن جيناتنا لم تتغير فعليًا خلال القرن المنصرم. ومن غير الممكن أن يفسر الاستعداد الوراثي لمَ بدأ يعاني الكثير منا من مشاكل مرتبطة بالنوم. جُلّ ما في الأمر مرتبط ببيئتنا. حيث تعد «عادات النوم الصحي» الجيدة، جوهرية حين يتعلق الأمر بالنوم، وذلك وفقًا لما أشارت له العديد من الدراسات؛ والأكثر من ذلك يتمثل في تغلبها على بعض الاستعدادات الوراثية السيئة. وبالمقابل، فإن عادات النوم السيئة قد تعادل، في أثرها، بعض الاضطرابات الوراثية الأكثر إشكالا.
إن بعض عناصر عادات النوم الصحية هي في الأصل ممارسات صحية جيدة. فالنيكوتين والكافيين والكحول تؤثر جميعها سلبًا على النوم، ويزداد هذا التأثير كلما استهلكناها في وقت قريب من موعد نومنا. نغط في النوم أسرع حين نمارس الرياضة ونتناول وجبات طعام منتظمة؛ فتناول الطعام في وقتٍ متأخرٍ جدًا أو الإسراف في تناوله يجعل النوم أكثر مراوغةً. (التأثير تبادلي هنا: فاضطراب النوم وثيق الصلة بزيادة الوزن). اخلد إلى فراشك وأنت جائع، وسيتفلت النوم منك كذلك. واقعيًا، يؤدي أي تغيير في مواعيد النوم إلى نقص القدرة على النوم: خلصت روزاليندا بيكارد، مديرة مجموعة أبحاث الحوسبة العاطفية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا والمديرة المشاركة لمبادرة تعزيز الرفاه، إلى أن تقلبات النوم تمثل أهم العوامل المحددة لمدى جودة نوم المرء: من الأفضل الخلود إلى الفراش في وقتٍ ثابت عوضًا عن محاولة السهر طول الليل ومن ثم «تعويض» ذلك غدًا. كما أن النوم المنتظم يضمن تحقيق معدل تراكمي وحالة مزاجية أفضل.
غير أن الجانب الأشد أهمية فيما يتعلق بالنوم الصحي مرتبط بالضوء، الذي غدا بالطبع أكثر تفشيًا في غضون القرن الفائت، بصورة خاصة ليلا. لقد تطور البشر بصورة جعلتهم شديدي الحساسية لأبسط التغييرات الدقيقة للضوء من حولنا. وفي واقع الأمر، تحتوي العين على مستقبلاتٍ ضوئية محددة تستجيب لتغيرات الضوء والعتمة، تستخدم هذه المستقبلات بصورة حصرية تقريبًا لضبط توازن ساعتنا البيولوجية. مستقبلات الميلانوبسين هذه ذات ارتباط مباشر بالجزء المنظم لساعة الجسم الداخلية. كما أنها تؤدي وظيفتها لدى مكفوفي البصر: فرغم عدم قدرتهم على الإبصار ورؤية أي شيء، إلا أن أجسادهم ما زالت تعرف كيف تضبط ساعتهم البيولوجية لكي يحافظوا على ساعة منتظمة. إن الضوء يعين الجسم على التكهن بالمستقبل: فهو مؤشر يدل على الكيفية التي ستتغير بها البيئة من حولنا في غضون الساعات والأيام القادمة، وبالتالي تتهيأ أجسادنا للتعامل معها. بحسب ستيفن لوكلي، عالم الأعصاب المختص بالساعة البيولوجية في هارفارد، «لقد تطورت ساعتنا البيولوجية بحيث أصبحت تتوقع الغد».
عند قضائنا وقتًا نستخدم فيه أجهزة باعثة للضوء الأزرق، فإننا نؤخر الإشارة التي تخبر أدمغتنا بأن وقت النوم قد حان، حين نؤجل «الظلمة تدريجيًا نتيجةً لهذه الإشارات الضوئية الكاذبة، فإننا نحصل على دفقة من الطاقة عوضًا عن إفراز الميلاتونين المرجو».
لكن رغم ذلك، فإن نظام التنبؤ الطبيعي هذا عرضة للخطأ على الدوام. والمشكلة غير مقتصرة على الإضاءة الصناعية بالعموم. فنحن محاطون بالضوء قصير الموجة بصورة متزايدة، أو بـ«الضوء الأزرق»، الطيف الضوئي الذي يفسره نظامنا البيولوجي بوصفه ضوء النهار. يبعث الضوء الأزرق من حواسيبنا والتلفاز وهواتفنا وأجهزة القراءة الإلكترونية؛ حيث يستخدم 90% من الأمريكيين أجهزة القراءة الإلكترونية الباعثة للضوء الأزرق. وعند قضائنا وقتًا نستخدم فيه أجهزة باعثة للضوء الأزرق، فإننا، في الحقيقة، نؤخر الإشارة التي تخبر أدمغتنا بأن وقت النوم قد حان. (يتساءل تشارلز تشايسلر «ماذا فعلنا بالظُلمة؟»). حين نؤجل «الظلمة تدريجيًا نتيجةً لهذه الإشارات الضوئية الكاذبة، فإننا نحصل على دفقة من الطاقة عوضًا عن إفراز الميلاتونين المرجو».
وجد تشايسلر بأن الضوء الصناعي بمقدوره إحداث تغيير في ساعتنا الداخلية لحد يصل إلى أربع أو حتى ست مناطق زمنية، وذلك وفقًا لوقت تعرضنا له. طلب تشايسلر وزملاؤه، في دراسة سبق نشرها هذا العام في مجلة PNAS، من الناس أن يقرأوا كتابًا مطبوعًا أو كتابًا إلكترونيًا ينبعث منه الضوء قبل أربع ساعاتٍ من موعد نومهم تقريبًا، لخمس ليالٍ متتابعة. كان تأثير ذلك وخيمًا. إذ كان إفراز الميلاتونين لدى أولئك الذين قرأوا كتبًا إلكترونية أقل وكان شعورهم بالنعاس أقل من أولئك الذين قرأوا كتبًا عادية؛ حيث تأخر إفراز الميلاتونين لمدة تزيد عن ساعة ونصف، وتعرضت ساعتهم البيولوجية إلى تفاوت زمني. واستغرقوا وقتًا أطول لكي يغفو. وفي صباح اليوم التالي، كانوا أقل يقظة. إن التأثيرات التي تؤدي إلى إعادة ضبط الساعة البيولوجية يمكن ألا يقتصر حدوثها نتيجةً للقراءة المطولة بل نتيجةً لتعرضٍ واحد لهذا الضوء. لاحظ لوكلي في مختبر النوم خاصته حدوث ذلك بعد تعريض أشخاصٍ إلى ضوء ذي موجات قصيرة لمدة تقل عن 12 دقيقة.
يلجأ الكثير ممن لا يستطيعون النوم إلى أدوية تساعد على النوم. وللأسف، قد لا تكون المستحضرات الدوائية الموجودة كافية بصورة فعالة للتصدي للمؤثرات البيئية مفرطة التنبيه. شتان بين النوم الحاصل نتيجةً للأدوية الموجودة والنوم الطبيعي، وقد لا يكون بالفعالية التي نظنها. يشير مات بيانشي، رئيس قسم طب النوم ورئيس مختبر معلوميات النوم في مستشفى ماساتشوستس العام، بأن الأشخاص الذين يستعينون بالعقاقير التي تساعد على النوم، ينامون في المتوسط ثلاثين إلى أربعين دقيقة فقط أكثر من أولئك الذين لا يستخدمونها. لا تحاكي أي من العقاقير المتوفرة في السوق الصيرورة الطبيعية للنوم بالضبط. وعوضًا عن ذلك، يعيق العديد منها حركة العين السريعة (REM) ونوم الموجة البطيئة، وبالتالي، كما كتب بيانشي، قد «يفسد القيمة التصالحية للنوم». قد تؤدي الأدوية التي تساعد على النوم إلى خطر الإصابة بالخطل النومي، مثل القيام بسلوكيات من قبيل تناول الطعام أو مغادرة المنزل أثناء النوم، دون تذكر ما حدث حينها. كما أنه لا ينصح عادةً بتعاطي تلك الأدوية لمدةٍ تزيد عن أسبوع في كل مرة.[3]
غير أن هناك طرق لا دوائية لتسهيل النوم أيضًا. إذ طور لوكلي وتشايسلر نظام إضاءة، لاستخدام وكالة ناسا، يساعدنا للنشعر بالنعاس في الوقت المناسب. يستخدمون الأطوال الموجية عينها التي تمنعنا من النوم لتجعلنا أكثر يقظة في الصباح الباكر. ومن ثم تتحول ببطء إلى أطوال موجية أكثر طولا و«دفئًا» لتتهيأ أجسادنا للنوم. (ثُبتت في محطة الفضاء الدولية في أكتوبر 2016؛ أما فيما يتعلق بالمستهلكين، فهناك مرشحات للضوء الأزرق بالإمكان وضعها على معظم الأجهزة الإلكترونية)، وهناك مسالك أكثر سلوكية.
توصي سوزان ريدلاين، الباحثة في مجال النوم في كلية الطب في هارفارد، بالعلاج السلوكي المعرفي. تقول إن «العلاجات العقلية-الجسدية» الأخرى، مثل التاي تشي واليوغا والتأمل قد تكون ناجعة كذلك. كما تعمل الآن على تطوير تدخل باليوغا لسكان بوسطن من ذوي الدخل المنخفض الذين يعانون من مشاكل في النوم. العمل يستند إلى دراسات سابقة تشير إلى أن الناس ينامون بصورة أفضل بعد ممارسة اليوغا. هناك أيضًا محاولة برازيلية، يقودها بيدرو هالال، وهو باحث في جامعة بيلوتاس الفيدرالية، تعمل على توفير أندية رياضية عامة مجانية في مناطق ذوي الدخل المحدود؛ وهو أمر ذو أثر مبشر على النوم.
إن البحث عن حلول أمرٌ بالغ الأهمية: لقد أصبحنا نحن، كمجتمع، نعاني مشقةً أكبر في النوم، كما أننا لا نقوم بمجهود حقيقي لمواجهة هذا التدهور. لكن لمَ ينبغي علينا أن نهتم بذلك، ولماذا يكون النوم القليل إشكاليًا لهذا الحدّ، وما الفائدة المرجو تحقيقها من النوم، بينما يعرف الباحثون المزيد عن ماهية ما يحدث أثناء النوم، فإنهم يدركون، المزيد والمزيد، عن مدى أهميته فعليًا.
-
الهوامش
[1] يُسرت اللقاءات من قبل زمالة الإعلام في كلية الطب بجامعة هارفارد.
[2] كتبت إليزابيث كولبيرت مادة عن الأرق لهذه المجلة، في 2013.
[3] كتب إيان باركر عن عقار أمبين وخلفائه المحتملين في 2013.