«أنا عيونك»: ما الذي يعنيه أن تربي طفلًا كفيفًا؟

الأحد 30 حزيران 2024
تصميم: أنات العلّان.

«وضعهم ممتاز، وأمورهم ممتازة»، بهذه الكلمات غادرت ميرفت (52 عامًا) المستشفى مطمئنة على وليديْها التوأم جاد وجواد، بعدما أجريت لهما الفحوصات الطبية وقضيا في الخداج الفترة اللازمة إثر ولادة مبكرة في الشهر السابع، لتصير ميرفت بقدوم التوأم أمًا لتسعة أبناء وبنات، اثنتان منهن متزوجات.

بعد شهرين، أصيب التوأم بنزلة برد، وقد لاحظ الطبيب عند فحصهما وجود نقاط فضية لامعة في عينيْ جواد، وأن «تركيز جاد أفضل من تركيز جواد»، وهو ما أثار قلق ميرفت. حينها كانت جائحة كورونا في أوجها، فانتظرت الأم بفارغ الصبر انقضاء الحظر الشامل يوم الجمعة لتذهب بجواد إلى أخصائي عيون، والذي أخبرها أن لدى جواد انفصالًا في شبكية العين، «بتعالج يا دكتور؟» سألت، فطمأنها الطبيب بإمكانية العلاج طالبًا منها التوجه إلى طبيب مختص آخر. لكن «قلبي ما كان مرتاح» تقول ميرفت.

تنقلت الأسرة بجواد بين عدة أطباء، ليتبيّن أخيرًا أن جواد كفيف البصر، وأن فرص علاجه تكاد تكون معدومة. مع ذلك، ظلوا يلاحقون أي بصيص أمل داخل الأردن أو خارجه، لهذا سافرت ميرفت مع التوأم إلى الضفة الغربية -حيث تقيم عائلتها- لعلاج جواد وإجراء عملية جراحية له في الداخل المحتل علّه يستردّ بصره، وقد رافقها اثنان آخران من أولادها لمساعدتها خلال رحلة العلاج التي استغرقت ثلاثة أشهر.

يعمل والد جواد (53 عامًا) سكرتيرًا في إحدى المدارس الحكومية، ومنذ ظهر الشك بوجود مشكلة في بصر جواد صار مضطرًا للحصول على الكثير من الإجازات والمغادرات من عمله من أجل المراجعات الطبية، ثم تولى رعاية الأطفال خلال سفر الوالدة إلى الضفة الغربية، وقد شكلت تكاليف السفر وإقامة الوالدة والأبناء في الضفة عبئًا ماليًا اضطره للاقتراض البنكي ومكابدة عناء السداد بعد ذلك.

لم تنجح العملية في استعادة بصر جواد. وهكذا صارت تربيته ورعايته تتطلب جهدًا خاصًا لم تعهده ميرفت مع أي من أطفالها الآخرين. دفعَ هذا الوضع بشقيقة جواد، جنى (16 عامًا)، للمساهمة في رعاية إخوتها الصغار خصوصًا عندما يتوجب على ميرفت قضاء مشاوير ضرورية: «تحملت المسؤولية بسرعة، بتطعمي إخوانها الصغار، وبتغيّرلهم، ولما يكون عندي مشوار بخليهم عندها وبقضيه».

اليوم يقترب جواد من إتمام الرابعة من عمره، وقد بدأ منذ أشهر تطوير مهارات حركية، كمدّ يديه أثناء المشي مثلًا، ما يمكّنه من المشي في أنحاء المنزل دون الاصطدام بالأثاث من حوله: «تعلمها لحاله، ما علمناه إياها، إحنا بنتعلم منه كيف نتعامل معه»، تقول ميرفت. مضيفة أن جواد يتمتع بذاكرة قوية ويحفظ آياتٍ من القرآن الكريم، لكنه بالمقابل -وخلافًا لشقيقه التوأم جاد- لا يقبل استخدام الحمّام لوحده، كما أنه شديد التعلّق بها، ويصعب عليه الابتعاد عنها. حتى في بعض المشاوير خارج المنزل، كثيرًا ما يبدي رغبته بالعودة إلى المنزل سريعًا، تقول شقيقته زين (10 أعوام): «لما نروح على الحديقة ما بينبسط، باجي أقعده على السحسيلة أو المرجيحة بصير بده ماما وبدّه يروّح وبظل يعيّط».

في هذه الحال، كانت ميرفت محتارة كيف لجواد أن ينفصل عنها ويدخل الروضة مثلًا، وكيف لها عمومًا أن تتعامل معه بالطريقة الأمثل، باحثةً عن جهات معنية برعاية الأطفال المكفوفين لعلها تحصل وجواد على دوراتٍ تدريبية متخصصة، أو أن تجد لديهم على الأقل إرشادات وإجابات على أسئلتها: «كنت أدوّر على حد أسأله عن الشغلات اللي بمر فيها»، ليقودها البحث في النهاية إلى جمعية خيرية تدعى «أمهات النور» لدعم وتأهيل أسر المكفوفين، وكانت جمعية حديثة تأسست قبل ميلاد جواد بعامين فقط. 

أنشئت الجمعية على يد إسراء داود (40 عامًا) التي كانت تعمل سابقًا في مجال التربية الخاصة، وهي أمٌّ لعدد من الأطفال أكبرهم فتى اسمه إسلام (18 عامًا)، وهو الذي سيخوض تجربة ألهمت والدته تأسيس مجموعة على تطبيق واتس آب تجمع عددًا من أمهات أطفال مكفوفين قبل أن تتحول هذه المجموعة إلى جمعية خيرية مسجّلة رسميًا تقدّم خدماتها لأكثر من 200 أسرة.

كان إسلام فتى نشيطًا، كثير الحركة، «ضحوك ونغش» كما تصفه إسراء: «أول حفيد بالعيلة، والكل بحب حركاته، بس شخصيته تغيّرت فجأة». عام 2016 صار إسلام، وهو في العاشرة من عمره آنذاك، هادئًا وخاملًا، يفضل الانسحاب من جمعات الناس. راجعت إسراء مدرسة إسلام للسؤال عما إذا كان قد تعرض إلى حادثة أو اعتداء ما، وهناك عرفت أن المعلمين لاحظوا أيضًا تغيرًا في وضعه.

إلى جانب ذلك، ظهرت على إسلام أعراض أخرى، أبرزها فقدان التركيز، حتى أنه مرة كان برفقة والده فارتطم أثناء الدخول إلى أحد المحلات بالواجهة الزجاجية. وصف أحد الأطباء لإسلام جرعات من فيتامين بي-12، لكن دون فائدة، إذ بسرعة بدأت تظهر أعراض جديدة، وتراجعت -خلال أسبوعين فقط- حالته الصحية بشكل ملحوظ، فإضافة إلى الخمول والكسل، أصابه ألم في الرأس واستفراغ متكرر، وارتفاعات في درجة الحرارة، وتبول لا إرادي أحيانًا، كما صار يعاني ثقلًا في النطق وصعوبة في الحركة: «كانت الدنيا رمضان، بتطلع عليه بعد الإفطار، كان بترنح، لا كلامه مفهوم ولا حركته سليمة»، تقول إسراء.

ذهبت الأسرة بإسلام إلى طبيب آخر، ولما نظرت إسراء إلى وجهه بعد فحص إسلام «عرفِت إنه في إشي كبير». أخبرهم الطبيب بوجود مشكلة في الدماغ والأعصاب، طالبًا إجراء صورة رنين مغناطيسي، ليتبيّن وجود ورمٍ كبير في دماغ إسلام. توجهت الأسرة إلى مستشفى متخصص للحصول على استشارة إضافية، وهناك أخبرهم الطبيب أن إسلام بحاجة إلى عمليتين طارئتين؛ الأولى من أجل سحب سائلٍ تشكل بفعل ضغط الورم على حجيرات الدماغ، والثانية لأخذ خزعة من الورم واستئصال ما يمكن منه.

استيقظ إسلام من العملية الأولى لسحب السائل، لكنه كان مصابًا بهلوسةٍ بصرية؛ يرى ألوانًا على وجه والدته، أو دمًا على يده، أو سحلية على الحائط، أو أشخاصًا ليسوا موجودين في الغرفة فعليًا. هرعت إسراء إلى الأطباء تسألهم عن حالة إسلام، قال لها أحدهم إن هذه آثار التخدير، فيما تهرب طبيبان آخران من أسئلتها. ثم بعد ساعات أخبرها أحد الأطباء: «إنتِ ما عرفتِ؟ ابنك انعمى».

انهارت إسراء. لكنها سرعان ما تماسكت، وبدأت منذ اليوم التالي بإخفاء مشاعرها حرصًا على إسلام وزوجها: «صحيح إنه كانت تيجي علي لحظات أسكّر على حالي الباب وأقعد أعيط، بس اضطريت إني أمسك العيلة حتى ما الكل ينهار». كان الورم في رأس إسلام يطفو فوق العصب البصري، وعندما سُحب السائل ارتكز الورم على العصب، ففقد بصره، وما الخيالات التي رآها إلا صور من الذاكرة استرجعها الدماغ بسبب العجز عن الإبصار.

في تلك الفترة، كان لإسلام شقيقة في السابعة من عمرها، وشقيق رضيع. ومن أجل التوفيق بين رعاية الرضيع، والعناية بإسلام خلال إقامته في المستشفى، تناوبت إسراء ووالدتها على المهمّتين؛ نهارًا تكون إسراء في المستشفى، فيما الجدة في البيت عند الرضيع، ثم يبدّلن المواقع ليلًا. ورغم ذلك، كانت إسراء أكثر انشغالًا بإسلام: «وجودي مع إسلام بالمستشفى وانشغالي خلى الاعتماد الكبير في تربية البيبي وسام على إمي وزوجي، وأنا حرفيًا نسيت هذا الطفل، وما تذكرته إلا بعد سنتين». 

خضع إسلام للعملية الثانية لاستئصال ما أمكن من الورم. ثم عاد إلى المستشفى من أجل فك الغرز، ومعرفة نتائج الخزعة المأخوذة من الورم. تبيّن أن الورم حميد، وأن هناك حاجة لجلسات بالعلاج الكيماوي لأن جزءًا من الورم تبقى في الدماغ. أما البصر فصار إسلام قادرًا على إدراك وجود إضاءة ما في محيطه، دون رؤية الأشياء حوله: «أكثر من هيك مش رح ترجع تشوف»، قالت الطبيبة، طالبة منهم بعض التحاليل الطبية، مشى إسلام حابسًا دموعه، وعند باب المختبر سأل أمه منهارًا: «يعني أنا مش رح أرجع أشوفكم؟ مش رح أرجع أشوف أخوي الصغير؟ مش رح أشوف الألوان؟ طب كيف بدي أدرس؟»، فردّت عليه إسراء: «أنا عيونك».

كانت السنة الأولى بعد فقدان إسلام بصره هي الأصعب، خضع خلالها لـ15 جلسة علاج كيماوي، وكانت تنتابه أحيانًا نوبات غضب وصراخ كلما أغرق في التفكير بحاله. وبعد إجراء العملية الأولى بدأت الأسرة فورًا إرشاد إسلام وتدريبه على مهارات الاعتماد على نفسه، والتعرف على منزله من جديد، حتى يشكل له خارطة في ذهنه مستعينًا بحاسة اللمس وحدها هذه المرة، من ذلك أن يقف إسلام عند باب الغرفة، ويحدد مقبض الباب كنقطة مرجعية ينطلق منها رافعًا إحدى يديه لتحسس الأشياء من حوله، فيما يرفع الأخرى ليحمي بها وجهه من أي صدماتٍ محتملة.

لذا، كان لزامًا أن يظل شكل البيت ثابتًا ما أمكن بحسب الخارطة التي شكلها إسلام في ذهنه، فتظل قطع الأثاث والأغراض واللوازم المنزلية والشخصية في أماكنها المحددة، من ذلك مثلًا أن يُعلق معجون الأسنان في مكانه الدقيق، وكذلك الشامبو وسوائل الاستحمام وأن تكون دومًا بأحجامها التي يميزها إسلام. أما الأكل فيوضع في صحن مقسّم لأجزاء يوضع في كل منها صنف واحد من الطعام، حتى يعتاد على تناول الطعام دون مساعدة من أحد، وهو ما حققه إسلام، حتى صار يميّز الطعام في صحنه من خلال الملمس أو الضغط بخفة على مكونات الأكل. وهكذا، شيئًا فشيئًا، صار يستقل في الأكل، والتحرك داخل المنزل، واستخدام الحمام، وحتى ترتيب غرفته.

أكثر من ذلك، أرادت الأسرة أن تعوّض إسلام عن بعضٍ مما كان يفضله سابقًا من الألعاب الحركية أو ألعاب الفيديو للبلايستيشن، فصارت إسراء تكلّفه بنشاطات تعتمد على اللمس، كأن يفصل العدس عن الأرز مثلًا، أو أن يستمع للفيديوهات ويلعب بالليغو مع شقيقته الأصغر، راما، بعد أن تربط شالًا على عينيها كي تخوض معه التجربة نفسها. حتى أبو إسلام حاول تجربة ذلك مرة: «جربت أفوت على الحمام وأنا مغمّي على عيوني، ما قدرت أتحمل عشر ثواني».

كان أبو إسلام (49 عامًا) يمتلك مكتبة تعيش الأسرة منها، لكنه مع بداية ظهور الأعراض على إسلام عام 2016 صار كثيرًا ما يضطر لإغلاقها من أجل المراجعات الطبية لإسلام، أو الاهتمام بحاجات إخوته عند انشغال إسراء. ثم بسبب هذه الإغلاقات المتكررة اضطر لبيع المكتبة: «من كثر ما وقفنا البيع وقت انشغالنا انكسرنا، وبعدها انكسرنا كمان مرة لما أجت كورونا، قررنا نسكرها. وهسة بعمل في توصيل الطلبات». لكن هذه الظروف، لم تفقد الأسرة عزيمتها ولا جعلتها تتوانى عن توفير الاحتياجات اللازمة لتسهيل حياة إسلام، بما فيها مثلًا أنظمة هاتفية ناطقة للمكفوفين، عرفوا عنها بالصدفة عند زيارتهم لقريب كفيف يعمل أستاذًا في جامعة: «حبيت أخلي إسلام يزوره عشان يكون عند ابني نموذج ناجح بعمله، ومتزوج وعنده أطفال (..) هالزيارة فتحتلنا أبواب من الأمل»، إذ إن التحديات لم تقتصر على ما هو داخل المنزل، بل خارجه كذلك.

في أول عطلة صيفية بعد فقدان إسلام لبصره، وكان حينها ما يزال يخضع للعلاج الكيماوي، أرادت إسراء أن تملأ الفراغ الذي كان يشعر به، فبحثت عن إمكانية انضمامه إلى نوادي الأطفال أو مراكز تحفيظ القرآن، لكن أيًا منها لم يقبل بانضمام إسلام نظرًا لوضعه الصحي وخشية من تحمل المسؤولية. وسعيًا منها للبحث عن دعم نفسي وإِشراك إسلام في أنشطة تفاعلية وبرامج تدريبية للأطفال المكفوفين اتجهت إسراء إلى جمعيةٍ تعمل على تحسين أوضاع المكفوفين، لكنها لم تجد غايتها هناك، حيث إن الجمعية لا تقدم الدورات التدريبية للأطفال، إنما للمكفوفين فوق سن 21 عامًا.

«نفسي الناس طريقة تفكيرها تتغير اتجاه الفاقد لبصره، فهو إنسان لا يعاني من المشاكل إذا تم تأهيله، ويمكنه الوصول إلى الاعتماد على الذات والاستقلالية المادية في حال حصوله على الدعم المناسب ووجوده في البيئة المراعية لاحتياجاته»

مرّت العطلة الصيفية، وبدأ عام دراسي جديد، فسجلت إسراءُ إسلامَ في أكاديمية حكومية تُعنى بتعليم المكفوفين، واضطرت لمرافقته خلال الشهر الأول لتعريفه جيدًا على المكان، فتأخذه إلى كل زاوية في مبنى الأكاديمية حتى يألف الممرات والمرافق، ويتجنب الارتطام ببعض الأعمدة أو التعثر ببعض الحجارة في الساحة. وجدت إسراء في مبنى الأكاديمية بعض المشاكل الهندسية التي قد لا تلائم المكفوفين، لكن الأهم أن دورها كان يقتصر على الجانب الأكاديمي فقط، ويهمل المهارات التي يحتاجها المكفوفون للاعتماد على أنفسهم في الحياة اليومية و«الوعي بنظافتهم الشخصية وصحتهم الجنسية، خاصة للطلاب بمرحلة البلوغ، لما مر إسلام بمرحلة البلوغ ما كنا عارفين مين نسأل عشان نتعامل معه بطريقة صحيحة، وتطلّب منا كأهل الكثير من البحث».

أكثر من ذلك، كان إسلام متأخرًا بتعلم لغة برايل مقارنة مع نظرائه في السن، وكان عليه انتظار عودة إحدى المعلمات من إجازتها ليبدأ تعلم اللغة. لكن إسراء لم تنتظر، فالتحقت بدورةٍ أعلنت عنها الأكاديمية مخصصة للمعلمين والأهالي فقط، فتعلمت لغة برايل ثم درستها بنفسها لإسلام.

مرّ عامان على تركيز إسراء معظم جهدها في تدريب إسلام وتعليمه، وكانت خلالهما قد أنجبت طفلة من حملٍ غير مخطط له، «ولما صارت تكبر وتبلش تحكي، انتبهت على أخوها وسام اللي أكبر منها، وانتبهت إني كنت مشغولة عنهم، وللأسف وسام كان عنده تأخر لغوي». فحاولت جهدها أن توازن بين أطفالها، دون أن تنقطع عن الزيارات الدورية لأكاديمية المكفوفين. وفي إحدى هذه الزيارات، أثارت واحدة من المعلمات الحاجة إلى تأهيل بعض أسر المكفوفين للتعامل مع أبنائهم، «وهون لمعت الفكرة في راسي ليه نستنى حد يعمللنا دعم، ليش ما نبدأ الفكرة من عنا؟».

طلبت إسراء من الأكاديمية قائمة بأرقام أهالي الطلبة المكفوفين، ثم تواصلت معهم هاتفيًا، قبل أن تؤسس عام 2018 مجموعة على واتس آب من 20 أمًا كن مهتماتٍ بتبادل النصائح ومشاركة خبراتهنّ في تربية أطفالهن المكفوفين، «أحيانًا البعض من أمهات النور يشعرون بي أكثر من شقيقتي، لأنهم يمرون بنفس تجربتي ويشعرون بنفس معاناتي»، تقول إسراء.

مع الأيام، تزايد عدد الأمهات الملتحقات بالمجموعة، ثم كان اللقاء الوجاهي الأول في أحد دواوين عمّان، حيث اجتمعت 70 أمًا مع أطفالهن المكفوفين، إضافة إلى ضيوف من المكفوفين يمثلون قصص نجاح بالنسبة للأطفال، فضلًا عن مشاركة متطوعات في تنفيذ أنشطة تفاعلية، وكانت هذه المرة الأولى التي يلتقي فيها إسلام بزملائه خارج أسوار الأكاديمية. وُزعت الهدايا، وتبادلت الأمهات الأحاديث حول تجاربهن، «كان في أم أول مرة تطلع مع ابنها من البيت (..) وهلأ بعد أنشطة كثيرة من هالنوع، انطلق لسانه وصار اجتماعي، وهو أكثر حدا حسيت إنه أثرنا فيه، لإنه أمه كانت حاسة حالها ضايعة ومش لاقية حدا يساعدها».

في العام نفسه، سُجلت الجمعية رسميًا وتوسعت تدريجيًا، حتى صارت تقدم خدماتها الآن لحوالي 220 أسرة، بما في ذلك الاستشارات النفسية، والأنشطة الترفيهية، والدورات التدريبية للأمهات والأطفال. كانت هذه الأنشطة والدورات مما تبحث عنه ميرفت -والدة جواد- لمعرفة الطرق الأمثل في التعامل مع ابنها وتخفيف تعلقه بها. فبالإضافة إلى تعرفها على أمهات يشاركن تجاربهنّ معها، حصلت ميرفت في جمعية «أمهات النور» على دورتين حتى الآن، إحداهما تتعلق بتدريب المكفوفين الاعتماد على النفس والاستقلالية في المنزل، وتعلمت في الثانية لغة برايل استعدادًا لتعليمها لجواد عند بلوغه السن المناسب، وهي تخطط الآن لإلحاقه بمدرسة عادية ذات تعليم دامجٍ للأطفال المكفوفين بين الأطفال المبصرين.

أما إسلام فصار قادرًا على تحمل مسؤوليات عديدة والاعتماد على نفسه في تدبير أموره الشخصية، كما يمارس هوايته في كتابة أغاني الراب. وهو يستعد حاليًا مثل غيره من الطلبة لامتحانات الثانوية العامة، ويخطط لدراسة الإرشاد النفسي.

تسعى «أمهات النور» لدعم وتأهيل أسر المكفوفين وفق إمكانياتها، ورغم تكافل الأمهات ودعم إحداهن الأخرى، وتعاون الجمعية مع عدد من مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات المعنية بخدمة المكفوفين في الأردن، إلا أن هذا لا يعوّض النقص في الخدمات المتوقعة من الحكومة، خصوصًا دورها في توفير فرص متكافئة للمكفوفين في التعليم والعمل والنقل، وتهيئة المؤسسات والبنى التحتية ورفع جاهزيتها، فضلًا عن دعم أسر المكفوفين الذين ما يزالون بحاجة إلى جهات تساعدهم على التأقلم مع الرحلة التي يخوضونها مع أطفالهم، تقول إسراء: «نفسي المدارس كلها تكون مهيأة للمكفوفين بدون ما يتكبدوا عناء المواصلات أو السكن الداخلي. ونفسي الناس طريقة تفكيرها تتغير اتجاه الفاقد لبصره، فهو إنسان لا يعاني من المشاكل إذا تم تأهيله، ويمكنه الوصول إلى الاعتماد على الذات والاستقلالية المادية في حال حصوله على الدعم المناسب ووجوده في البيئة المراعية لاحتياجاته».

اليوم تستذكر إسراء جملة قالها لها إسلام في اللقاء الأول لـ«أمهات النور» بعدما أحسّ بتفاعل أسر المكفوفين وانخراطهم في نشاطات ذلك اليوم: «ماما أنا حاس إنه ربنا صابني بالمرض حتى أكون سبب لسعادة غيري».

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية