نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة أيون في 27 شباط 2025.
في العام 1955 كتب أستاذ علم النفس البلجيكي روبرت مايستريو: «الطفل الأسود ليست لديه ألعاب. لا يجد حوله أي فرصة تحفز عقله. الطفولة المبكرة للطفل الأسود تجري دائمًا في بيئة أدنى فكريًا من أي بيئة يمكن تخيلها في أوروبا، يبقى الطفل الأسود غير نشط لساعات طويلة، مما يؤدي إلى تقلص مرعب في حجم دماغه، من الصعب التعافي منه. المراكز العصبية في قشرته الدماغية، التي يجب أن تُستخدم عادةً في التمرين، لا تتلقى المحفزات اللازمة لنموها».
عندما كتب مايستريو هذه الكلمات لوصف الأطفال الأفارقة، لم يكن يفعل شيئًا غير عادي. كلماته أكدت ما كان المستعمرون الأوروبيون يرغبون في سماعه آنذاك: أن الشعوب المستعمَرة تعاني القصور المعرفي وتحتاج إلى إنقاذ من نفسها. دعمُ «العلم» هذا الرأي لم يؤدِّ إلا إلى منح مزيد من الشرعية للمشروع الاستعماري. وفي خمسينيات القرن العشرين لم تكن الادعاءات العلمية التي تربط بين نقص النمو العقلي والرعاية غير الكافية للأطفال محل جدل كبير.
في تموز 2024، ظهرت على غلاف مجلة الإيكونوميست صورة لكوكب ذهبي على شكل دماغ على خلفية وردية. وكان العنوان الرئيسي: «كيف نرفع معدل الذكاء في العالم؟»، حيث تناولت المجلة قضية تحسين نمو أدمغة الأطفال على مستوى العالم من خلال التغذية المُحسّنة والتحفيز الذهني. تضمّن العدد أبحاثًا حول سوء التغذية، والرعاية التفاعلية، وتطور الدماغ. ولكن أي قراءة متأنية لن تستغرق وقتًا طويلًا قبل أن تدرك أن «العالم» المذكور في العنوان لا يمثل فئة إنسانية مُجرّدة وعالمية، بل يشير إلى جزء معين من العالم هو الجنوب العالمي.
نادرًا ما تركز الإيكونوميست على قضايا الطفولة، ولذا يمكن القول إنه عندما تركّز مجلة مثلها على مسألة نموّ الدماغ فإن الموضوع قد بات شائعًا للغاية.
من المستعمِرين في الماضي إلى الاقتصاديين اليوم، يبدو أن الهوس بدماغ الأطفال -وخاصة أدمغة الأطفال الفقراء من ذوي البشرة السمراء- لا يزال مستمرًا. بل لقد ازداد فعليًا بشكل ملحوظ، وذلك بفضل الشعبية المتزايدة لعلم الأعصاب وتقنيات تصوير الدماغ. ويتجلى هذا بوضوح في مجال تدخلات تنمية الطفولة المبكرة (ECD)، وهي صناعة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات. فلم تعد هذه البرامج تقتصر على ضمان الصحة الجسدية فحسب، بل وتهدف بوضوح لتحسين تطور الدماغ، كما توضّح منظمة اليونيسيف: «لا يزال العديد من الأطفال يفتقدون إلى العناصر الأساسية التي يحتاجها دماغهم للنمو: الغذاء، واللعب، والحب».
إلى جانب البنك الدولي، ومنظمة الصحة العالمية (WHO)، والمؤسسات والشركات غير الحكومية، جعلت اليونيسف التطور الأمثل لدماغ الأطفال جدول أعمالها. عام 2018، أطلقت هذه المنظمات «إطار الرعاية الحاضنة»، الذي يهدف جزئيًا لتنفيذ تدخلات لتحسين نمو أدمغة الأطفال في الجنوب العالمي. وتشمل هذه التدخلات تقديم المشورة وتدريب الآباء على ممارسات رعاية الأطفال التي يُعتقد أنها تسهم في التطور العاطفي والمعرفي الأمثل، أو بعبارة أخرى، في تطوير دماغ مزدهر.
تعتمد هذه التدخلات على فرضيتين بسيطتين. الأولى هي أن سلوك الوالدين في السنوات الأولى من حياة الطفل يمكن أن يُغيّر البنية الأساسية لدماغه. وكما تؤكد حملة «اللحظات الأولى» لليونيسف: «في هذه المرحلة التكوينية من الحياة، بوسع دماغ الطفل أن يشكل أكثر من مليون رابطة عصبية جديدة في كل ثانية، وهو معدّل لن يتكرر أبدًا لاحقًا في الحياة». الفرضية الثانية هي الاعتقاد بأن نوعًا معينًا جدًا من رعاية الأطفال – يوصف بأنه «رعاية حاضنة» – يؤدي إلى بناء دوائر دماغية قوية. وتوضح سلسلة من البطاقات الإرشادية التي أصدرتها منظمة الصحة العالمية واليونيسف ما يتضمنه هذا النهج: التحدث والغناء (حتى قبل الولادة)، واللعب بين الوالدين والطفل، والتواصل البصري المتكرر، وما إلى ذلك.
ليست هذه النصائح مفاجئة أبدًا، فهي نفسها التي يجدها الآباء حول العالم على الإنترنت، وفي المجلات العلمية الشعبية، وفي وسائل الإعلام الرئيسية، وحتى على مدونة إحدى الشركات متعددة الجنسيات مثل نستله.
يبدو أن منطق التدخلات المبكرة في مرحلة الطفولة في الجنوب العالمي بسيط: تحسين أساليب تربية الأطفال سيؤدي إلى تحسين أدمغتهم، مما سيساعدهم على النجاح أكاديميًا، وأن يصبحوا بالغين منتجين ومتكيفين اجتماعيًا. وإذا تم تحسين أجيال من الأطفال بهذه الطريقة، فقد تتمكن دول بأكملها من تحقيق النمو الاقتصادي والسلام والديمقراطية. يعبر شعار اليونيسف «بناء الأدمغة، بناء المستقبل» عن هذا المنطق بوضوح.
ما يجعل هذه التدخلات في التربية أكثر جاذبية هو أنها تبدو كوسيلة بسيطة وفعالة من حيث التكلفة لتعزيز التنمية في الجنوب العالمي. على سبيل المثال، تقدر مجموعة البنك الدولي أنه «مقابل كل دولار يُنفَق على تدخلات تنمية الطفولة المبكرة، يمكن أن يصل العائد على الاستثمار إلى 13 دولارًا». أو كما يعبر عنه «إطار الرعاية الحاضنة» بلمسة شعرية: «إذا غيّرنا بداية القصة، فإننا نغير القصة بأكملها».
ولكن، ما الخطأ في تغيير بداية القصة إذا كان سيؤدي لنتائج أفضل للأطفال والمجتمع؟ من يمكنه الاعتراض على تعليم الآباء اللعب مع أطفالهم والتحدث معهم أكثر والاستجابة لحاجاتهم العاطفية؟ لماذا لا نساعد الأطفال، خاصة في البلدان الفقيرة، على تحقيق إمكاناتهم الكاملة، وتطوير أدمغتهم، وبالتالي الحصول على مستقبل أكثر إشراقًا؟ يبدو الأمر بديهيًا.
ومع ذلك، فإن هذه الأسئلة لا تكون منطقية إلا إذا انطلقت من افتراضين مترابطين. الأول هو أن هناك خطأ جوهريًا في طريقة تربية الآباء في الجنوب العالمي لأطفالهم. والثاني هو أن قضايا مثل الفقر، وانخفاض الدخل، والبطالة، وعدم الاستقرار السياسي أو الحروب يمكن إرجاعها بطريقة ما إلى عيوب فردية. وهكذا، فإن هذه الأسئلة لا تكون منطقية إلا إذا قبلنا، كما اعتقد مايستريو وزملاؤه في الخمسينيات، أن مشاكل الفقراء في الجنوب العالمي هي خطؤهم. أو في هذه الحالة، خطأ أدمغتهم نفسها.
هذه الافتراضات بالكاد تكون مخفية في الأدبيات العلمية حول هذا الموضوع. على سبيل المثال، تُقدّر دراسة نُشرت في مجلة ذا لانسيت عام 2022، حول تنمية الطفولة المبكرة (ECD)، أن 74.6% من جميع الأطفال الصغار في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، و92.1% من الأطفال الصغار في إفريقيا جنوب الصحراء، وحتى 99.5% من الأطفال في تشاد، لا يتلقون «الحدّ الأدنى من الرعاية الكافية». وفقًا لهذه الإحصاءات المذهلة، يكاد لا يوجد في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء من هو قادر على توفير رعاية مناسبة لأطفاله. وتقدر دراسة مؤثرة أخرى في المجلة نفسها أن حوالي 200 مليون طفل دون سن الخامسة في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل «يفشلون في بلوغ إمكاناتهم التنموية». هؤلاء الأطفال سيعانون في المدارس، مما يؤدي لاحقًا إلى انخفاض الدخل وارتفاع معدلات الإنجاب، وتقديم رعاية ضعيفة لأطفالهم، وبالتالي الإسهام في انتقال الفقر من جيل إلى آخر. من الناحية النظرية، يمكن للتدخلات الوطنية في التربية أن تخلق جيلًا يكسر هذه الحلقة من الفقر العابر للأجيال.
لا يحتاج المرء لأن يكون فرانز فانون ليرى أوجه التشابه بين هذه المقولات والسرديات الاستعمارية، لكن هذه المرة وبدلًا من ردّ العجز للعرق يتم ردّه للفقر.
هذه قصة جذابة بلا شك. يمكن للطبقات صاحبة الامتياز شمال العالم وجنوبه أن تجد العزاء في فكرة أنها بالكاد تتحمّل المسؤولية عن التفاوت الاجتماعي والاقتصادي. فإن كانت الرعاية السيئة للأطفال وضعف تطور أدمغتهم من العوامل الرئيسة المساهِمة في الفقر، فإن المسؤولية الحقيقية للتغلب عليها ملقاة على عاتق الوالدين. كما أن العلاقة السببية بين الوضع الاقتصادي والقدرة الدماغية يوحي بأن أصحاب الامتيازات مدينون بازدهارهم أساسًا إلى أدمغتهم المتطوّرة بشكل مثالي. وأخيرًا، تُقدّم التدخلات المبكرة فرصة للقيام بشيء يُفترض أنه جذري بجهد ومال قليلين نسبيًا.
رغم أن النوايا الحسنة قد تكون دافعًا لهذه الجهود، فإن النظرة المنتشرة التي ترى سكان الجنوب العالمي في إطار العجز لها تداعيات تتجاوز بكثير مجال تنمية الطفولة المبكرة. فإذا كانت العلوم التنموية والمنظمات الأممية المرموقة تنظر لفقراء الجنوب العالمي بوصفهم ميالين للمعاناة من العجز المعرفي، والاختلالات العاطفية والاجتماعية، والإجرام، وارتفاع الخصوبة، فلماذا ينبغي على الدول الأوروبية الترحيب بهم؟ يبدو أن سياسات مكافحة الهجرة الكارهة للأجانب -التي تشهد بالفعل تصاعدًا في بلدان الشمال العالمي- تجد في هذا التفكير شرعيتها.
لكن الأمر لا يقتصر فقط على تصوير الفقراء بهذا الشكل. فهذه النظرة الجوهرانية للعجز تثير تساؤلات جدية حول سياسات التدخلات ومدى متانة الأدلة العلمية التي تستند إليها. وهذا الأمر يزداد أهمية نظرًا للطبيعة التدخلية لهذه البرامج، التي تهدف إلى إحداث تغيير جذري في علاقات الوالدين بأطفالهم.
في الواقع، قبل وقت قصير، استُعملت مزاعم مماثلة لتبرير مشاريع استعمارية وحشية، من بينها ما حصل مع أطفال السكان الأصليين إذ جرى انتزاعهم من عائلاتهم في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بشكل ممنهج وإلحاقهم بمدارس داخلية أو وضعهم مع عائلات بيضاء من الطبقة الوسطى. ظلّت هذه الممارسات قائمة طوال القرن العشرين، وقد أُغلِقت آخر مدرسة ممولة من الدولة في كندا عام 1997. في ذلك الوقت، كان يُنظر إلى هذه المدارس على أنها مسعىً خيري بحت مفيد للأطفال والمجتمع ككل. وكانت الحجة مشابهة لتلك التي تطرحها التدخلات الحديثة في الطفولة المبكرة: بما أن «النساء الأصليات لا يعرفن كيف يعتنين بأطفالهن بشكل صحيح»، كان لا بدّ من تدخل نساء أخريات.
أشارت المؤرخة مارغريت جاكوبس إلى أنه في الغرب الأمريكي وأستراليا، كانت نساء بيضاوات من دعاة الإصلاح يؤمنّ بأن من الضروري فصل الأطفال الأصليين، خاصة الفتيات، عن عائلاتهنّ لحمايتهنّ مما اعتبرنه استغلالًا جنسيًا وإساءة معاملة. وحتى يومنا هذا، لا تزال العائلات السوداء والأمريكية الأصلية تتعرّض لتحقيقات حماية الطفل وحالات فصل الأطفال عن أسرهم أكثر من غيرها من العائلات بكثير.
على سبيل المثال، انتقد المؤيدون لفصل الأطفال استخدام الأمهات الأصليات في أمريكا الشمالية لما يُعرف بلوح المهد (cradleboard)، وهو حامل أطفال بإطار صلب، كما زعموا أن السكان الأصليين لا يوفّرون بيئات منزلية مناسبة لأطفالهم. وكان يُنظر إلى هذا الجهد باعتباره جزءًا من مهمة «تحضيرية» تهدف إلى إنتاج مواطنين «أفضل». كما قال أحد الداعمين لهذا النهج في عام 1890: «لن يرتقي أي شعب غير متحضر حتى يتم الوصول إلى الأمهات. فالحضارة يجب أن تبدأ من المنازل».
اليوم، باتت العواقب العنيفة والمدمرة لعمليات إبعاد الأطفال الأصليين [عن عائلاتهم] معترفًا بها على نطاق واسع، ولكن بالنسبة لآلاف الأطفال والعائلات كان الأوان قد فات.
لا تدعو التدخلات المبكرة في الطفولة اليوم إلى النزع الممنهج للأطفال من أسرهم، ولا تعلن صراحةً عن مهمة «تحضيرية». بل يتمثل هدفها في عبارات بريئة مثل «تمكين الأطفال الصغار من تحقيق إمكاناتهم التنموية الكاملة» أو «ضمان النمو الأمثل للدماغ». وبدل فصل الأطفال عن تأثير آبائهم، تركز هذه البرامج على تحسين سلوك الوالدين. وتدّعي أن مزاعمها تستند إلى أدلة علمية محايدة وحديثة.
ومع ذلك، تتجاهل هذه «الأدلة العلمية» سؤالين جوهريين: من الذي يملك الحق في تحديد معنى الإمكانات البشرية والتنمية الأمثل؟ وكيف تقيّم أساليب التربية وقدرات الأطفال؟
تختلف طريقة رعاية الأطفال عبر الثقافات. فكيفية إطعامهم والتحدث إليهم واللعب معهم وتعليمهم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقيم المحلية والأهداف الأخلاقية. وتتنوع أساليب تربية الأطفال بناءً على السياق الثقافي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي، دون أن يعني ذلك بالضرورة أن شكلًا معينًا من التربية أفضل أو أسوأ من غيره. ومع ذلك، فإن هذه الرؤى التي توصلت إليها الأبحاث الثقافية المقارنة يتم تجاهلها إلى حد كبير في الأدبيات العلمية التي توجه التدخلات في تنمية الطفولة المبكرة. وبدلًا من ذلك، تستند هذه الأدبيات إلى أفكار ومعايير للتنمية الأمثل مستمدة من علم النفس التنموي التقليدي، وهو تخصص يرتكز في الغالب على أبحاث أُجريت بواسطة -وعلى- أشخاص من الطبقة الوسطى الغربية، وخاصة الناطقين بالإنجليزية (المعروفين اختصارًا بـWEIRD: غربيين، ومتعلمين، ومن مجتمعات صناعية، وأغنياء، وديمقراطيين).
تؤدي هذه المقاربة إلى نتيجة حتمية: أي انحراف عن المعيار الغربي يُصوَّر تلقائيًا على أنه سلبي. فلنأخذ على سبيل المثال دراسة ذا لانسيت عن تنمية الطفولة المبكرة، التي زعمت أن الغالبية العظمى من الآباء في الجنوب العالمي لا يوفرون رعاية كافية لأطفالهم الصغار. معظم الدراسة مستند لبيانات مستمدة من استبيان لليونيسيف يقيس جودة التحفيز المبكر والتعلم عبر أسئلة مثل: هل يحضر الطفل برنامجًا تعليميًا منظمًا أو برنامجًا مبكرًا للتعليم؟ وهل يمتلك منزل الطفل على الأقل كتابًا واحدًا ولعبة واحدة؟
صُنّف الآباء الذين أجابوا بالنفي على أحد هذين السؤالين على أنهم يقدمون «رعاية بالكاد كافية». أما أولئك الذين أجابوا بالنفي على كليهما فقد اعتُبروا فاشلين في توفير فرص تحفيز مبكر وتعلم لأطفالهم.
استخدام مثل هذه الأسئلة لتقييم التحفيز المبكر يشبه استخدام اللغة الإنجليزية لتقييم متحدثي اللغات الأخرى. إذ تعكس هذه الأسئلة ما يُعتبر تحفيزًا مناسبًا في بيئة غربية حضرية من الطبقة الوسطى، مما يعني أن من لا يستخدم «هذه القواعد» يُعتبر وكأنه لا يستخدم أي قواعد على الإطلاق.
تكمن المشكلة في أن هذه الأسئلة لا تتيح لمقدمي الرعاية التعبير عن الفرص التعليمية المتعددة التي يختبرها الأطفال في حياتهم اليومية. فالأطفال الصغار الذين لا يلتحقون ببرنامج تعليمي رسمي قد يكونون، على سبيل المثال، منخرطين بشكل روتيني في أنشطة قائمة على الملاحظة والمشاركة (observing and pitching in). وتساعد مثل هذه التجارب الأطفال الصغار على تطوير مهارات الانتباه، والشعور بالمسؤولية، والسلوك التعاوني.
ولو قيّمنا الآباء الغربيين من الطبقة الوسطى بسؤالهم عن عدد المرات التي يشجعون فيها أطفالهم الصغار على الملاحظة والمشاركة في الأنشطة الجماعية، فمن المحتمل أن يحصلوا على تقييمات منخفضة، كما لو أنهم لا يوفرون بيئة تعلم مناسبة.
الأطفال الذين لا يملكون لعبة أو كتابًا في المنزل قد يكون لديهم عالم غني بالاستكشاف واللعب. ففي العديد من المجتمعات، يُسمح للأطفال الصغار بقضاء اليوم بأكمله في الهواء الطلق، يستكشفون العالم الحقيقي بحرية واستقلالية، برفقة إخوتهم وأبناء عمومتهم وأقرانهم. يوفر هذا النوع من التربية تحفيزًا مبكرًا وفيرًا ويساهم في تطوير مهارات اجتماعية مختلفة، بما في ذلك الاستقلالية والشعور بالمسؤولية. في مثل هذه السياقات، لا يحتاج الآباء إلى ترتيب «مواعيد للعب» كما هو الحال في البيئات الغربية (وهو سؤال آخر يُستخدم في استبيان اليونيسيف لتقييم مقدار تفاعل الأطفال مع أقرانهم). ولو قمنا بتقييم الآباء الغربيين من الطبقة الوسطى وفقًا لمعيار السماح لأطفالهم بالتجول وحدهم في شوارع نيويورك، فلن يكون تقييمهم جيدًا.
بسبب تحيز علم الطفولة المبكرة للبيئات الحضرية الغربية من الطبقة الوسطى، فإنه يروّج ضمنيًا لمهارات وسلوكيات هذه الفئة باعتبارها النموذج العالمي الأمثل الذي يجب أن يتّبعه مقدمو الرعاية والأطفال في جميع أنحاء العالم. ووفقًا لهذا المنظور، لا يبلغ الطفل «إمكاناته الكاملة» إلا عندما يفكر ويتصرف مثل طفل غربي حضري من الطبقة الوسطى. في معظم الأدبيات العلمية، يُغفَلُ هذا التحيز الثقافي، وتُقدَّم النتائج كما لو كانت حقائق موضوعية. فإذا لم يتصرف الوالدان كما هو متوقع من نظرائهم الغربيين، يُعتبرون مقدمي رعاية غير كفؤين. وإذا لم يُظهر الأطفال أداءً جيدًا في الاختبارات التي تقيس مهارات ذات طابع أوروبي، معتمدة على معايير مألوفة لأطفال الطبقة الوسطى العليا الغربية، يُصوّرون على أنهم متخلفون في النمو.
هيمنة الطبقة الوسطى الأوروبية والأمريكية على تدخلات الطفولة المبكرة هي انعكاس مباشر لهيمنتها الثقافية والسياسية. وفي ظل هذه الهيمنة، قد يرى البعض أن تعميم هذا النموذج ليس فكرة سيئة. وإن كانت اللغة الإنجليزية هي «اللغة الأهم» في العالم، أفليس من المنطق أن يتعلّمها المرء؟ حسنًا المنطق الذي تعتمده تلك التدخلات هو ذاته. فواحد من أهدافها الرئيسة هو تحسين جهوزية الأطفال للمدرسة. أوليس التحفيز المبكر، والكتب والألعاب التعليمية، والتفاعل اللفظي المكثف بين الوالدين والطفل، استراتيجيات مثالية لإعداد الأطفال للنجاح الأكاديمي؟ ربما تكون الإجابة هي نعم، ولكن في ظروف محددة لا في كل السياقات.
قد تكون هذه الاستراتيجيات فعالة للنخب في الجنوب العالمي، عند أولئك الذين يستطيعون تحمّل كلفة هذا النوع من التفاعل المكثف بين الوالدين والطفل، ولديهم إمكانية الوصول إلى المدارس الدولية الخاصة والفرص لتعليمهم في الغرب. ولكن من المشكوك فيه أن تكون هذه التدخلات فعالة للأسر الفقيرة، التي قد لا تملك حتى مدرسة قريبة تلبي احتياجاتها وتطلعاتها.
ورغم ذلك، فإن القضايا الهيكلية مثل نوعية النظام التعليمي ومدى ملاءمته لا يتم أخذها بعين الاعتبار من قبل مروّجي هذه الأفكار الغربية. فبدل مناقشة ما إذا كان أسلوب التربية الغربي مفيدًا أو حتى ملائمًا في سياقات مختلفة، أو ما إذا كان النظام التعليمي بحاجة للتحسين، يتم الانطلاق من افتراض وجود نقص أصيل في طرق التربية غير الغربية.
ولعل أكثر الادعاءات فجاجة وإهانة هو الزعم بأن سكان الجنوب العالمي بحاجة إلى أن يصبحوا «أكثر ذكاءً». من المفارقات أن التركيز على الدماغ في هذه التدخلات العلمية يأتي رغم أن المزاعم المستندة إلى أبحاث الدماغ هي الأكثر هشاشة علميًا. فلا يوجد دليل علمي يثبت أن الفقراء في الجنوب العالمي يعانون من «أدمغة قاصرة»، كما ادعت الإيكونومست. تستند معظم الأبحاث حول تأثير الحرمان على الدماغ في مرحلة النموّ إلى دراسات أُجريت على الأطفال الذين تم تبنيهم من دور الأيتام الرومانية بعد سقوط نظام تشاوشيسكو عام 1989، والذين عرفوا الحدّ الأدنى من التواصل البشري، وهو أمرٌ لن تعيشه الغالبية العظمى من أطفال العالم.
ومع ذلك، فإن شبح «الدماغ القاصر» يهيمن على المخيال العام، لدرجة أن مجلة الإيكونومست كرست عددًا كاملًا لمشكلة الأدمغة تلك في الجنوب العالمي، دون أن تقدم أي دليل علمي فعلي مستند إلى دراسات دماغية أجريت في تلك الدول.
بدلًا من إطلاق مزاعم فجّة تستند إلى أدلة واهية، ربما يجدر بنا أن نبدأ بما نعرفه بالفعل عن تنمية الطفولة المبكرة في الجنوب العالمي، والحقيقة هي أننا نعرف أقلّ القليل. في الماضي، استخدمت ادعاءات مماثلة غير مثبتة لتبرير تدخلات كارثية بحق الأطفال غير الأوروبيين وعائلاتهم. لا يمكننا تكرار هذه الأخطاء. لذا، يجب التعامل مع العبارات العامة حول «الأدمغة القاصرة» والتنمية غير المثلى بريبة، لا أن تتصدر عناوين الصحف العالمية.
الأهم من ذلك، بدل فرض حلول فوقية وإجراء مسوحات وتجارب تدخلية واسعة ومكلفة، يجب أن تركز تدخلات الطفولة المبكرة على وضع خبرات مقدمي الرعاية المحليين واحتياجاتهم ووجهات نظرهم في صميم جهودها. فالأهل في كل مكان يفهمون احتياجات أطفالهم، وربما لديهم رؤية أوضح حول كيفية تحسين الأمور بناءً على الظروف المحددة التي يعيشون فيها. فلا طريق واحد للوصول إلى «دماغ مزدهر»، ولا تعريف واحد لماهيته. لقد حان الوقت للاعتراف بهذه الحقيقة.