قبل أسابيع، أطلق الدكتور يوسف القسوس، أحد الأباء المؤسسين للنظام الصحي الأردني من على قناة المملكة، نداءً لتوحيد النظام الصحي في الأردن وإصلاحه ضمن خطة وطنية متكامِلة قبل فوات الأوان. وفي السياق ذاته، تابعنا مؤخرًا مبادرتيْن منفصلتيْن تسعيان إلى التعامل مع التدهور الذي يعاني منه النظام الصحي، وهما: مسودة تعديل قانون الضمان الاجتماعي، وتعديلات نظام التأمين الصحي المدني، التي أُقرّت مؤخرًا، وشملت توسيع مظلته وتعديل الأجور المستوفاة. لكن السؤال المطروح اليوم هو هل فعلًا تعالج هذه التعديلات المشاكلَ التي يعاني منها النظام الصحي؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد بداية من تشخيص مقتضب لواقع النظام الصحي الأردني. يعاني النظام الصحي من مشاكل عديدة في طريقة تمويله وتنظيمه وحوكمته. ويمكن تلخيصها في أن النظام، أولًا، غير عادل، حيث تتفاوت الخدمة الصحية في نوعها وجودتها وسعرها بين المنتفعين، وتتفاوت الرواتب والحوافز والفرص بين العاملين في مختلف مكوناته. وثانيًا، أنه غير تكافلي، حيث يعتمد في تمويله على الاقتطاعات من الموظفين الأقل دخلًا بينما يستفيد منها بشكل أكبر الأشخاص الأعلى دخلًا، الأمر الذي ينطبق على مجمل مقدمي الخدمة ومموّليها في الأردن. وثالثًا، أنه غير كَفؤ، حيث أن مجمل الإنفاق الصحي يقارب النسب التي نراها في دول غربية متقدمة بينما مخرجات الإنفاق الصحي شبيهة بالدول الأكثر فقرًا. رابعًا وأخيرًا، أن النظام في شكله الحالي لم يعد قادرًا على الاستمرار وذلك لارتفاع مديونية المؤسسات الصحية من جهة، وتراجع مستوى البرامج التعليمية في الجامعات وبرامج الإقامة من جهة أخرى، وهي الجهات التي تمد هذا النظام بالعنصر البشري.
بناء على هذا التشخيص السريع، فلنراجع ماذا تقدم مبادرتا الضمان الاجتماعي والتأمين الصحي المدني، ولنرَ إن كانت تعالج أيًا من المشاكل أعلاه.
في حالة الضمان الاجتماعي، يسعى التعديل إلى زيادة التغطية الصحية عبر تأمين المشتركين في الضمان من غير الحاصلين حاليًا على أي تأمينٍ صحيٍ، حيث لن يشمل تأمين الضمان المشتركين العاملين في القطاع الخاص المؤمّنين مع شركات التأمين الخاصة ولا المشتركين العاملين في القطاع العام والحاصلين على التأمين الصحي المدني والعسكري. صُمّم هذا التأمين الجديد انطلاقًا من خطأ شائعٍ مفاده اعتبار الحاصلين على تأمين صحي اختياري (خاص) مؤمّنين فعلًا. في الواقع، إن أغلب العاملين في القطاع الخاص ورغم اشتراكهم في التأمين، لا يحصلون على أي تغطية صحية بعد تقاعدهم، أي أنهم يدفعون لشركات التأمين وهم في أعمار لا يحتاجون فيها، في الغالب، للعلاج، ويُحرَمون من التأمين حين يكونون في أمس الحاجة إليه. وكذلك الحال أيضًا حين تتجاوز كلف علاجهم السقف المسموح به، وقد رأينا ذلك خلال موجات الكورونا حين عانت هذه الفئة من تحمّل كلف علاج وصلت في بعض الحالات إلى ثلاثين ألف دينار أو أكثر، دون أن يُغطيهم التأمين الصحي الذي يدفعون له اشتراكاتهم الشهرية.
هذه المبادرات غير المنسّقة ستضر النظام الصحي أكثر مما ستنفعه، إذ ستبقى مشاكل غياب العدالة والكفاءة والتكافل والاستدامة كما هي.
كما تتضمن مبادرة الضمان الاجتماعي مشاكل فنية كثيرة، منها أن العلاج سيقتصر على مستشفيات القطاع الخاص رغم أن الحكومة ستكون أحد مصادر تمويل الخطة، الأمر الذي يطرح تساؤلًا حول أولويات التمويل الحكومي للصحة العامة، فلماذا تحرم المستشفيات الحكومية من هذا التمويل بينما تعاني من نقص الموارد والكوادر؟ ولا تحتوي المبادرة على أي آلية لمراقبة ورفع مستوى جودة الخدمات الصحية المقدّمة مما يعني استمرار جودة الخدمات على حالها، فالمطلوب هو أن تقوم مؤسسة الضمان بتعريف جودة الخدمة ومخرجاتها ومن ثم ربطها بشراء الخدمة الصحية وسعرها، وهذا يتم من خلال مراقبة مؤشرات صحية على مستوى مقدم الخدمة؛ مثل نسب الوفيات ونسب العدوى داخل المستشفيات والالتزام بالبروتوكولات العلاجية عند كل مستشفى أو طبيب معتمد. كما أنها لا تطرح أي آلية لضبط النفقات الصحية مما يعني تكرار مشاكل المديونية التي تعاني منها الصناديق الصحية الأخرى، مثل حصر الإدخالات بتحويلات مراكز الرعاية الصحية الأولية واستخدام آلية مجموعات التشخيص ذات الصلة (Diagnosis-related group) لدفع ثمن الإدخالات، وآلية تقييم التكنولوجيا الصحية لتحديد الأدوية المشمولة بالتأمين وسعرها (Health Technology Assessment –HTA).
إن النتائج المتوقعة من تنفيذ مبادرة الضمان الاجتماعي بشكلها الحالي هو أن ترتفع نسبة التغطية الصحية في الأردن رقميًا على الورق، وهذا إنجاز نظري. فكما أوضحت سابقًا، يُحسَب العاملون في القطاع الخاص (التأمين الاختياري) ضمن المؤمنين دون أن يغطيهم بعد التقاعد أو حين تتجاوز الكلف السقف المسموح، هذا بالإضافة إلى أن المؤمنين في القطاع العام كثيرًا ما يلجأون للعلاج على حسابهم في القطاع الخاص لعدم توفر الخدمة الصحية المناسبة في المستشفيات العامة. في المقابل، فإن النتيجة الحقيقية لهذه المبادرة هي أن يزداد تشظي النظام الصحي مع ظهور صندوق تمويلي جديد يضاف إلى الموجودة حاليًا، ويزداد اتساع الفجوة في العدالة حيث ستتكوّن فئة جديدة من المرضى أغلبهم من ذوي الدخل المحدود تحصل على خدمة صحية وتغطية مختلفة تمامًا عن تلك المتوفرة لدى المؤمّنين في التأمين المدني أو العسكري أو الخاص.
ما يحتاجه نظامنا الصحي هو خطة صحية وطنية تعمل على تحقيق تكامل القطاعات العامة والخاصة من خلال الشراء الاستراتيجي من كافة مزودي الخدمة الصحية دون استثناء لتحقيق العدالة والكفاءة
أمّا تعديلات نظام التأمين الصحي المدني فتسعى إلى أمرين؛ زيادة التغطية الصحية، حيث يسمح التعديل بشمول أوسعٍ لأعضاء من عائلة المشترك في التأمين المدني غير الحاصلين على أي تأمين صحي، ومن بينهم الأبناء العاملون الذين تجاوزوا 25 عامًا. وهو ما يشير بوضوح إلى عدم التنسيق بين مبادرة التأمين المدني ومبادرة الضمان، إذ أن هذه الفئة هي نفسها المشمولة بمسودة تعديل قانون الضمان الاجتماعي. كما تسعى التعديلات إلى خفض النفقات وتحديدًا كُلف الأدوية والتحويلات عبر زيادة الأجور المستوفاة من المريض لكل وصفة أدوية (copayment)، وهذه إحدى الوسائل المتعارف عليها عالميًا لخفض عدد الوصفات الطبية والسيطرة على الإنفاق الدوائي. المشكلة هنا هي أن الإنفاق الدوائي في القطاع العام منخفض أصلًا مقارنة بالمعايير العالمية (17% من كامل الإنفاق الصحي العام في عام 2017)، بينما الهدر والإنفاق غير المنضبط يتركز في عمليات التحويل للقطاع الخاص والجامعات، وكلاهما لن يتأثّرا بالتعديل. بمعنى آخر، فإن تعديل نظام التأمين المدني ستكون آثاره الإيجابية محدودة جدًا، بينما سيؤدي أولًا إلى زيادة كلف الخدمة الصحية على المنتفعين، ممّا قد يحرم غير القادرين على دفع الأجور الجديدة من العلاج، والأهم من ذلك سيزيد من تعقيد المشهد الصحي وتشابكه ممّا سيصعب مستقبلًا اتخاذ الإجراءات والإصلاحات المطلوبة.
هذه المبادرات غير المنسّقة ستضر النظام الصحي أكثر مما ستنفعه، إذ ستبقى مشاكل غياب العدالة والكفاءة والتكافل والاستدامة كما هي، بينما تظهر مشاكل جديدة بسبب هذه التعديلات، يكون النظام الصحي ومنتفعوه في غنى عنها. إن الأوْلى أن نتروى قليلًا قبل المضي بهذه الخطوات، فما يحتاجه نظامنا الصحي هو خطة صحية وطنية كالتي تكلم عنها الدكتور يوسف القسوس، تعمل على تحقيق تكامل القطاعات العامة والخاصة من خلال الشراء الاستراتيجي من كافة مزودي الخدمة الصحية دون استثناء لتحقيق العدالة والكفاءة، وتلعب فيها مؤسسة الضمان دورًا قياديًا ومركزيًا كونها الطرف الأكثر تأهيلًا لتوفير التأمين الصحي الاجتماعي لتضمن بدورها تحقيق التكافل والاستدامة.