عام 2007، وفي يوم بدا اعتياديًا، اتجهت هنادي -وهي أمٌ وأخصائية فحص عيون في الستينيات من عمرها اليوم- برفقة أولادها الثلاثة إلى مركز للسمع والنطق في العاصمة. كان أسامة ابنها الأوسط في الخامسة من عمره حينها، يتلقى حصص نطق بسبب تأخره في الكلام، وبرفقته إخوته زيد وعلاء. يومها، حدّقت إحدى المدرّسات في وجه علاء (والذي كان عمره سنتين وقتها) لمدة طويلة، قبل أن تقول لأمه إن «علاء عنده إشي، لازم تفحصيه». لم تكن هذه أول مرة تعلم هنادي أن علاء لديه مشاكل صحية، ولكنها كانت أول مرة يكون سبب هذا التخوّف ملامح وجهه وحركاته. شعرت حينها أنها لم تنتهِ من معالجة مشكلة نطق أسامة بعد، فكيف لها أن تبدأ بمعالجة علاء في الوقت نفسه، وهي لا تعلم تحديدًا ما المشكلة التي تطرقت لها المدرّسة أصلًا.
كان الحمل بعلاء مختلفًا، تقول والدته، إذ كان متعِبًا وكان الجنين صغيرًا. ليلة الولادة، وبعد فحصه لاحظ الطبيب أن صوت نبضات قلبه لم يكن طبيعيًا، فاستدعى اخصائي قلب. «دكتور القلب قال إنه عنده مشكلة في الصمام». بعد ذلك، أخبرتها طبيبتها النسائية أن تحضر نفسها للأسوأ. تسترجع هنادي تلك اللحظة قائلة «كانت بتقولي بعيش ولا ما بعيش يعني».
بعد خروج علاء من المستشفى، بدأت هنادي تلاحظ اختلافات أخرى في نموه وتطور قدراته الجسدية. «كلشي بصير فيه تأخير، الرضاعة، العضلات والمشي». عادةً، يستطيع الطفل أن يجلس على الأرض بشكل ثابت ومستقل ابتداءً من عمر الستة أشهر، ولكن تقول هنادي إنه علاء «كنت أحطّه يميل ويوقع، أرجعه يرد يميل ويوقع. حجمه مش حجم طفل من عمره، تفاعله كطفل لما يمسك الأشياء بطيء».
للتعامل مع مشكلة القلب، أُجريت لعلاء قسطرة عند عمر السنتين. وقتها أخبر الطبيب عماد والد علاء أن ابنه يعاني من مشكلة جينية، وكانت هذه أول مرة يتم التطرق فيها لهذه الاحتمالية. بعد ذلك، اتجهت هنادي بابنها إلى أخصائيّ قلب أطفال، وفي نهاية الموعد، تستذكر أنه قال لها «ابنك بشبه تاعون الويليام». وهنا بدأت الأم تفهم تعليق المعلمة في مركز السمع والنطق. شرح الطبيب لها ما الذي يعنيه بأن عرض عليها على الحاسوب صور أطفال رأى أنهم يشبهون ابنها. في البداية لم تشعر بذلك، لأن الأولاد غالبًا ما كانوا شُقْرًا بعيون زرقاء، لا يشبهون علاء الأسمر ذا العيون البنية والشعر الأسود. ولكن مع مرور الدقائق، بدأت تلاحظ تشابهات هزّتها، أولها «شكل الأنف وجحوظ العين». نصحها الطبيب أن تراجع طبيبًا جينيًا في أسرع وقت للتأكد من التشخيص تمامًا.
أخذت رنّة هذه التشابهات تتعالى في ذهن هنادي. تصف حالتها بعد ذلك الموعد قائلة «أخذت الكلمة وضليت أراجع فيها. وأنا بقرأ، إيه! كل الأعراض نفس أعراض ابني، فوقتها دغري أخذنا موعد مع دكتور جيني بالمدينة الطبية». قال لها الطبيب إن الاحتمالية الأكبر، بناء على أعراض القلب والظاهر من ملامح علاء، كانت تصب في كفة تشخيصه بمتلازمة ويليام، وهو ما أكدته نتيجة فحص الدم.
متلازمة ويليام هي طفرة جينية عشوائية -غير متوارثة- نادرة جدًا، تصيب طفلًا واحدًا من كل سبعة آلاف إلى 10 آلاف في العالم، وفقًا لإحصائية جمعية متلازمة ويليام الأمريكية. اكتشفت عام 1961 من قبل فريق طبي تحت إشراف طبيب القلب النيوزيلندي جون ويليام، وسببها حذف المعلومات الجينية ضمن الكروموسوم السابع، مما يؤدي إلى بطء في نمو الجهاز العصبي، بالإضافة إلى عدة آثار جسدية وسلوكية. من أبرز الآثار الجسدية مشاكل في القلب وارتفاع في ضغط الدم، وتضيّقٌ في شرايين القلب، تحديدًا في الشريان الأبهر، وهو الشريان الرئيس لنقل الدم من القلب إلى باقي الجسم، أو الشرايين الرئوية. ومن الآثار الجسدية كذلك بروز ملامح وجه معينة، مثل جسر أنف مسطح صغير وفم واسع وأسنان متباعدة وشفتين ممتلئتين. أمّا على الصعيد السلوكي، فيلاحظ لدى المصابين بالمتلازمة قدرة نسبية[1] عالية على استخدام اللغة والاستيعاب الموسيقي وحفظ الوجوه، وضعف نسبي في الإدراك البصري والمكاني، مما يؤثر على قدرتهم على فهم البيئة المحيطة بهم وتحديد مكانهم في الفضاء، وقد يواجهون صعوبة في تقدير المسافات والمواقع وتمثيل المعلومات المكانية ذهنيًا بشكل دقيق.
بعدما تأكد التشخيص أجريت لعلاء عملية لتوسيع الصمام الأبهري ليعود بعدها للبيت، مستغنيًا عن أدوية الضغط، وليستعيد وظائف قلبه بشكل كامل.
متلازمة ويليام هي طفرة جينية عشوائية -غير متوارثة- نادرة جدًا، سببها حذف المعلومات الجينية ضمن الكروموسوم السابع، مما يؤدي إلى بطء في نمو الجهاز العصبي، بالإضافة إلى عدة آثار جسدية وسلوكية.
بسبب بطء نمو الجهاز العصبي يواجه المصابون ضعفًا ملحوظًا في تطور المهارات الحركية، وصعوبات شديدة في حل المشكلات والتعلم التقليدي. ومع أن بطء تطوّر علاء الذهني كان واضحًا منذ ولادته، لم تتفرغ هنادي للتعامل مع ضعفه بالنطق وصعوبات التعلم عنده إلا بعد راحة البال الناتجة عن معالجة مشاكل القلب. كانت العائلة تستصعب التواصل معه مثل إخوته، ولم يبد أنه كان يفهم الإرشادات بنفس الوضوح. لم يستطيع أن يستخدم الكلمات ولا أن يركب جملًا في الثانية من عمره مثل الأطفال عمومًا. يقول شقيقه زيد «مشاكل النطق كانت إلى حد متوقعة بحكم إنه تأخر بالحكي أصلًا ومخارج الحروف مش مزبوطة بسبب ضعف العضلات». توقعت هنادي أن يكون حل المشكلة بسيطًا مثلما كانت تجربتها مع ابنها أسامة، أي أن يتحسن بشكل كاملٍ مع الدروس في مركز السمع والنطق، ولكن على عكس أخيه، كانت مشكلة علاء بالنطق طويلة الأمد.
في السادسة من عمره، سجّلت هنادي علاء في مركز للسمع والنطق كان يرتاده شقيقه من قبل، وحاولت تسجيله في واحدة من مدرستين خاصتين في المنطقة، لكنهما رفضتاه. في الأولى لأن مديرة المدرسة رأت لعابه يسيل بشكل لا إرادي، بحكم ضعف عضلات فمه، وفي الثانية بحجة عدم وجود من يساعده على دخول الحمام أو في الحصص.
في النهاية سجلت الأم ابنها في مدرسة بعيدة عن البيت تستقبل بعض حالات الإعاقات الجسدية والعقلية. هناك تخوفوا كذلك من عدم قدرتهم على مساعدته على قضاء حاجاته الشخصية، إلّا أن آذنة تعمل في المدرسة قالت لوالدته إنها أحبت علاء وشعرت بعطف ناحيته، ولذا اتفقت معها الأم مساعدته يوميًا، والتواصل معها حتى تطمئن، مقابل عشرين دينارًا شهريًا، ليدخل الصفّ الأول.
كان الهدف إدماج علاء اجتماعيًا، حيث يذهب إلى المدرسة مع أقرانه ويشاركهم بعض الحصص، على أن يتلقى المادة التعليمية ضمن برنامج «صعوبات التعلم» أو كما تسمى حصص المصادر. وفي الوقت نفسه
كان يتدرب في مركز السمع والنطق ثلاث مرات في الأسبوع. ولكن لاحظ أهله أن الفائدة التعليمية والاجتماعية التي كان يتلقاها في المركز فاقت تلك التي كان يحصل عليها في المدرسة، حيث إنه بسبب بطء تطوره الذهني، لم يستطيع أن يجاري المادة الدراسية وأقرانه، وكان يعيد الصفوف كثيرًا. لتتحوّل المدرسة لشيء كريه بالنسبة له، ومع الوقت بات يرفض الذهاب إليها.
في المقابل كان يحب مركز النطق، ويحب المدرّسات هناك وكان عنده أصحاب. يقول زيد «كانوا بجلسات المركز يعلموه الحروف والكلمات والأرقام بشكل بطيء وغير مستعجل، وأنا كنت أحاول معه بواجبات المدرسة وكذا. حصيلته كانت إنه صار يعرف الحروف والأرقام وشوية علوم واجتماعيات».
من أوضح أعراض المتلازمة الفرق الملحوظ ما بين العمر الفعلي والذهني، حيث إن العلاقة بين الاثنين غير خطية، وفي اختبار الذكاء الموحد عادةً ما يحصل المصابون بالمتلازمة على نتيجة تعبر عن عمر ذهني أصغر من عمرهم الفعلي بأربع سنوات في فترة الطفولة، وهذا الفارق يأخذ بالتقلّص بعد سن المراهقة، ولكن من الصعب تحديد فرق واضح وثابت بين العمر الفعلي والذهني للمصابين مدى الحياة، لأن الاختلافات بين الحالات الفردية كبيرة، ولأن بعض المهارات، مثل المهارات اللغوية والإدراكية قد تتطوّر، بدرجات مختلفة.
بسبب بطء نمو الجهاز العصبي، يواجه المصابون بمتلازمة ويليام ضعفًا ملحوظًا في تطور المهارات الحركية، وصعوبات شديدة في حل المشكلات والتعلم التقليدي.
تحصل علاء في اختبار الذكاء الموحد على درجات تدل على فرق تقريبي بين العمر الذهني والفعلي بأربع سنوات، ولكن عبر السنين، كانت الفجوة بين العمرين تكبر، حيث إن نتائجه بالفحص وسلوكياته اليومية تدل على فارق متزايد ما بين العمر الفعلي والذهني. ولكن ما يُعقّد الموضوع ويجعل تصنيف القدرات الذهنية لدى المصاب أمرًا صعبًا هو التفاوت في القدرات الذهنية، حيث بعضها يكون شديد التطور وبعضها بطيئًا جدًا.
لعلاء مثل كثير من المصابين بالمتلازمة، علاقة خاصة مع الموسيقى واللغة. ولأن أخاه زيد مستمع شغوف، ويعزف على عدد من الآلات الموسيقية، كان علاء محاطًا بالموسيقى دومًا، وصار يشارك أخاه الغناء والاستماع. وبحسب زيد «كان إحساسه بالإيقاع والنغمة يفاجئني قديش بتحسه بالفطرة زابط بدون أي تدريب». وانبهر زيد أيضًا بقدرات علاء على فهم أنماط استماعه، «صار حتى يميز أشكال الألبومات وألوانهم وحتى علاقتي أنا فيهم، يحكيلي أشياء زي هاد اللي بتسمعه لما تكون سعيد أو هاد الي بتسمعه وأنت حزين». يتساءل زيد لو كان من الممكن تطوير هذه القدرة بشكل أكبر، ولكن كانت العوائق المادية عاملًا رئيسًا في عدم التوجه نحو ذلك. في الأساس، لم تكن العائلة قادرة على دعم هواية زيد الذي عادةً ما كان يستعير الآلات الموسيقية من أصدقائه، ولم يتلقّ أي حصص أو تدريب موسيقي.
بالإضافة إلى ذلك، يجيد علاء الفصيحة السليمة، ولديه معجم واسع من المفردات والأوصاف مع أنه لا يكتب ولا يقرأ إلا بعض الكلمات المألوفة له مثل أسماء أفراد عائلته أو الكلمات التي تم تلقينه اياها خلال أيام المدرسة. ولديه قدرة عالية على حفظ الأشخاص وأسمائهم ووجوههم والقصص التي يسمعها منهم. وعندما يهتم بموضوع ما، يستطيع أن يصل إلي فيديوهات عن الموضوع على اليوتيوب، حيث يدرك أن هناك سلسلة من الفيديوهات التي يجب عليه أن ينقر عليها من الصفحة الرئيسة ليصل إلى الموضوع الذي يهمه، مثل لعبة معينة أو لاعب كرة قدم يحبه، حتى ولو كان يستخدم جهازًا مختلفا، أو إذا ما كانت الفيديوهات المعتادة على الصفحة الرئيسة مختلفة.
هناك عدة نظريات لتفسير التفاوت في التطور الذهني لدى المصابين بالمتلازمة. بعضها يفسر التطور في اللغة المحكية وليس المقروءة والمكتوبة على أنه نتاج لعرضين أساسيين للمتلازمة، أولهما اختلال الإدراك المكاني والحركي، حيث ترتبط الصعوبة بالكتابة والقراءة بصعوبة فهم حروف الجر وألفاظ الظروف المكانية، مثل «على» أو «فوق» أو «تحت». وثانيهما الطبيعة الاجتماعية فوق الاعتيادية حيث تستخدم اللغة كوسيلة للفت الانتباه في السياقات الاجتماعية. تُفَسَر المهارات اللغوية في الشق المحكي أيضًا من مدخل القدرة على حفظ الكلمات بناءً على صوتها لا المعنى أو الدلالة. بمعنى أن الكلمات أو التعابير ذات الوقع المميز تلفتهم وتجذب انتباههم مما يدفعهم نحو حفظها واستخدامها حتى لو كانت تستخدم في غير مكانها، أو بشكل يدل على قصور فهمهم لها. يقول زيد «كان بحكي جمل وتعابير لما كان عمره الذهني [المقدر] أربع سنين والفعلي ست أو سبع سنين أنا وأسامة ما حكيناها لعمر 11 و12 سنة. بس كمان كان في كلمات وجمل معينة بتخليه يضحك أو ينبسط بدون سبب منطقي، بس عشان صوتها، وكان يضل يعيدها ويضحك ويستنانا نضحك معاه».
بداية العام 2020، قررت العائلة سحب ابنها من المدرسة، بسبب انزعاجه منها، وللصعوبات المادية، وفي المقابل قرروا زيادة الأيام التي يقضيها في مركز النطق، لكن مع الجائحة، لم يعد خيار المركز متاحًا، مع أنه لم ينته من تدريب النطق وكان لا يزال نطقه بطيئًا وصعب الفهم.
هنا صار لحياته روتين جديد مرتبط بالمنزل؛ ينام في ساعة متأخرة، ويستيقظ عند الظهر، ويشاهد التلفاز، ويلعب «فيفا»، ويترقب طبخ أمه وجبته المفضلة (الأرز والدجاج)، ويبدو سعيدًا وهانئًا، كأن لا علاقة لتكرار ذلك النمط بمستوى سعادته. تتساءل هنادي حول قيمة التطور الدراسي إذا كانت تجربته اليوم تقول إنه سعيد. مع ابنين يدرسان في الجامعة اليوم، يصعب على العائلة إعادة تسجيل علاء في أي مركز أو مدرسة، ولكنهم يرون أنه من الأنسب اليوم أن يجدوا له مركز تأهيل مهني، كونه أصبح في التاسعة عشر من عمره. ولكن أغلب هذه المراكز التأهيلية خاصة وتكلفتها عالية. أمّا الحكومية منها، فمتاحة ولكن بنطاق أضيق، وحسب بحث هنادي ليس لديهم برامج مخصصة للمصابين بمتلازمة ويليام أو خبرة بالتعامل معها.
تطمح العائلة حاليًا لتسجيله في برنامج مع معالج بأسلوب بديل، مثل الموسيقى والفنون، كونه يحب الموسيقى منذ صغره.
أمّا الأنشطة خارج المنزل فقليلة جدًا، إذ لا يحب علاء المشي حيث يتعب بسرعة بسبب ضعف عضلاته، ويحتاج عند التخطيط لنشاط خارجي إلى تفرّغ من أحد أفراد عائلته، وهو ما لا يتوفر دائمًا إذ إن أمه تعمل، وشقيقاه يدرسان في الجامعة، «بده تقسيم أوقات، لو منقسم وقتنا كلنا من كبير لصغير بعتقد منقدر نغطي جوانب مختلفة. نفسي نخليله وقت يطلع برة البيت، يعني حدائق مثلًا يلعب كرة قدم شوي شوي مع مجموعة ثانية. بس هو بتعب، وكمان هلأ حركته ضعفت أكثر من القعدة بالبيت. يعني بالنهاية إله سنتين ثلاثة بالبيت».
«عندي حلم يصير في شي نحطه بالعصب أو الجين أو النخاع تاعه يعدلّه موضوع الطفرة الجينية»، تقول والدته.
هذا التقرير جزء من زمالة حبر للصحافة الصحية، الممتدة من أيلول 2023 حتى آب 2024، وفيها تنخرط سبع زميلات من خلفيات معرفية متنوعة في إنتاج تقارير صحفية بقوالب مختلفة حول قضايا صحية تتقاطع مع الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
-
الهوامشالأسماء الواردة مستعارة حفاظًا على خصوصية أصحابها.
[1] كلمة «نسبي» تشير إلى مقارنة بالعمر الذهني الإجمالي بناء على اختبار الذكاء الموحد.