ما زال محمد شعبان (31 سنة) يسكن البيت نفسه الذي سكنه والده، عندما جاء عام 1990 من مصر إلى العقبة، حيث كان من المفترض أن يمرّ منها إلى العراق؛ وجهته الأصلية. لكنّها كانت السنة ذاتها التي غزا فيها صدّام حسين الكويت، ونشبت إثر ذلك حرب الخليج الثانية، فبقي في العقبة.
تعرّف الرجل القادم من دمياط الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وكان يعمل فيها صيّادًا، على صيّادي المدينة «وارتاح معهم»، كما يقول ابنه محمد، فقرر البقاء والعمل في الصيد، قبل أن يكتشف سريعًا أن العقبة لا تحتاج إلى صيادٍ آخر قدر ما تحتاج إلى من يصلح شباك صياديها. فعاد إلى مصر، بعدها بسنة، وأحضر زوجته وأطفاله، وأمضى العقود الثلاث التالية، في تصليح الشباك القديمة، وتفصيل الشباك الجديدة للصيادين.
كان محمد في عمر السنتين عندما وصل مع عائلته إلى البيت المكون من غرفتين وممر، والواقع في «البلد القديمة»؛ الحي الذي يشكل نواة مدينة العقبة قبل تمددها، والذي تحوّل الآن إلى تجمعات لبيوت متهالكة يسكن معظمها عمّال وافدون.
يتذكر محمد كيف أمضى طفولته بين أكوام شباك الصيد التي كانت مطروحة في كل مكان في البيت، وكيف كان الصغار يحبون حول أمه وأبيه المنهمكين في العمل، وعندما يغلبهم النعاس كانوا ينامون فوق هذه الشباك. يتذكر أيضًا أن الصيادين كانوا أحيانًا يأتون مساء بالشباك إلى والده بعد رجوعهم من الصيد، ويطلبون منه أن تكون جاهزة فجر اليوم التالي، وعندما يعودون فجرًا يجدون والديه ما زالا مستيقظين لإنجاز الشبكات، لأن التأخر على الصياد يعني أن «خلاص، رزقته راحت عليه».
محمد في ممر منزله يجهّز شبكةً جديدة.
الآن يجلس محمد منهمكًا في عمله، وحيدًا في منزل خالٍ بعد أن توفي والده شعبان قبل سنة ونصف. وكان قبلها بأربع سنوات قد مرض مرضًا شديدًا، فغادر للاستقرار في مصر مع والدة محمد وشقيقتيه الصغرتين، تاركين في العقبة محمد وشقيقه الأكبر، إبراهيم، لمواصلة عمل العائلة. إبراهيم الآن في مصر، فقد ذهب إليها في إجازة، ثم «انحجز هناك بسبب كورونا».
قبل مغادرة عائلته إلى مصر، كان والد محمد وشقيقه إبراهيم هما العاملان الأساسيان في مهنة إصلاح شباك الصيد، ودور بقية العائلة ومنهم محمد المساعدة فقط. لهذا سارت حياته في اتجاه آخر. ففي عمر 12 عامًا، أعيد مع شقيقته الكبرى إلى مصر، ليعيشا مع زوجة شقيقه التي تزوجها في تلك السنة، ولم يستطع استقدامها لتعيش معهم في العقبة. ولم يكن من الممكن أن تعيش وحدها في منزل العائلة في دمياط. كما لم يكن ممكنًا أيضًا أن يعود إبراهيم إلى مصر، فقد كان ذراع والده الأيمن في العمل.
أكمل محمد تعليمه المدرسي في مصر، ودخل الجامعة هناك حيث درس التربية. وبعد أن تخرج -قبل 10 سنوات- عاد ليستقر في الأردن لانعدام وجود فرص عمل ضمن تخصصه في مصر، يمكن أن توفر له الدخل الذي يوفره عمله في الأردن. لم يعمل محمد في الشباك آنذاك لأن حجم العمل لم يكن يتطلّب عاملًا ثالثًا متفرغًا، لذا اقتصر دوره على المساعدة، وهذا ما جعله يبدأ بتعلّم المهنة بشكل احترافيّ حينها.
في تلك السنة بدأ العمل في مطاعم السمك، التي ما زال يعمل فيها، خصوصًا أن العمل في الشباك قد خفّ كثيرًا بمرور الوقت عمّا كان عليه أيام والده، وصار بإمكانه بسهولة أن يعمل فيه بضع ساعات كل يوم بعد عودته من المطعم. هذا رغم صعوبة التعامل مع الفتحات الدقيقة للشباك في الليل تحت مصباح الكهرباء.
في المواسم، عندما يزدهر الصيد، وتتراكم الشباك، يقول محمد إنه يأخذ يومًا أو أكثر إجازة من عمله، ليتفرّغ لإصلاح الشباك، وهي إجازات غير مدفوعة، لأنه يعمل بالمياومة.
عندما التقيناه، كان يجلس على أرضية الممر، يعمل في شبكة ثبّتها بمسامير على عرض الجدار المقابل ليسهل عليه العمل فيها. يقول إنه يجد تحديًا كبيرًا في التعامل مع الشباك الكبيرة التي تبلغ أطوالها عشرات وحتى مئات الأمتار. ولكن إجمالًا يوفر الممر له مساحةً مقبولةً للعمل، كما أن هناك في زاويته مكيف قديم يعمل على الماء، يلطّف الجو الخانق في المكان، على عكس الجو المكتوم للغرفتين المزدحمتين على أي حال بلفائف الشباك من مختلف الأنواع والأحجام.
محمد يجهز شبكة جديدة بالأثقال والطواشات، وتظهر على الأرض لفائف الشباك التي تنتظر تجهيزها.
لقد استأجر والده هذا المنزل بدايةً بمبلغ 25 دينارًا، ثم توالى ارتفاع الإيجار حتى وصل الآن إلى 120 دينارًا. وقد بقي محمد فيه رغم أن العمال المصريين في العقبة يسكنون في العادة بأقل من هذا المبلغ بكثير، إذ يقيم كلّ اثنين أو ثلاثة منهم في غرفة واحدة، ويقتسمون الإيجار فيما بينهم. لكنه مضطر للبقاء في هذا المنزل، لأنه يحتاج المساحة، ولأن لا أحد يمكنه أن يحتمل وجود أكوام الشبك في كل مكان. وهناك سبب آخر لا يقل أهمية؛ فهو يأمل في أن يتمكن من استقدام زوجته. لقد تكرر معه ما حدث مع أخيه، وهو يحاول منذ زواجه قبل ثلاث سنوات استقدام زوجته لتعيش معه في الأردن دون أن ينجح في ذلك.
كان محمد وقت اللقاء منهمكًا في تثبيت كرات فلين، وأسطوانات معدنية في أطراف الشبكة. وشرح لنا أن الفلين يعمل كـ«طوّاشات» تمنع الشبكة من الغرق، وأسطوانات المعدن «ثقّالات» تساعد الشبكة على الهبوط. وكلّ شبكة يجب أن تحوي على الاثنين، لكن بنسب متفاوتة بحسب العمق المطلوب للشبكة أن تصله، والذي يحدد ذلك هو العمق الذي يعيش فيه نوع السمك المراد صيده. فإذا كان المطلوب شبكة تصل إلى القاع لتصطاد الأسماك التي تعيش عند الرمل، تكون الأثقال أكثر بكثير من الفلين. وإذا كان المطلوب هو العمق المتوسط حيث الأسماك التي تعيش على ارتفاعات متوسطة، يتساوى الاثنان. وإذا كان المطلوب شبكات تظل طافية لتصيد الأسماك القريبة من السطح، يكون الفلين هو الغالب.
يتولى بعض الصيادين في العقبة إصلاح الشباك بأنفسهم. لكن العملية، كما أخبرنا العديد منهم كانت وما زالت مهمة تتولاها النساء بشكل أساسيّ؛ وهن زوجات الصيادين وبناتهم. فرغم أن مهنة الصيد في العقبة تقتصر على الرجال الذين لا يصطحبون إلا أولادهم الذكور في رحلات الصيد لإعدادهم للمهنة، فإن العديد من النساء تعملن في خلفية المشهد؛ إذ يخطن الشباك الممزقة، ويصنعن أفخاخ الأسماك المسماة بـ«السخاوي»، ويحضّرن «العِزْبَة» فجرًا للوالد أو الزوج، وهي الدلو الذي يحوي طعامه وشرابه خلال الرحلة.
في اعتقاد محمد، فإن الفرق الذي أحدثه والده، هو أن عمله كان أكثر حرفية، وهذا ما جعل له اسمًا في أوساط الصيادين. فقد ساعده احترافه الصيد، وهضمه لمتطلبات كل نوع صيد، على فهم ما يريده الصيادون بشكل دقيق، دون أن يحتاجوا للشرح، لا من حيث حجم الشبكة، ولا وسع فتحاتها، أو نوع خيوطها وسماكتها. كان يكفي مثلًا أن يأتي صياد ويقول «بدي شبك بخّة»، فيجهز له شعبان ما يريده.
تصنع الشباك من النايلون أو الكتان، ويأتي محمد بالشباك الجديدة من مصر، ومن عمّان حيث تستورد من الصين وألمانيا وغيرها. وهي تباع بالوزن، ويختلف السعر بحسب جودة الخيط وسماكته. فكلما قلت سماكة الخيط، يقول محمد، يزيد عدد الأمتار التي يعطيها الكيلو الواحد. وقد تحتاج الشبكة الواحدة خمسة كيلوات أو 10 أو 20 أو أكثر. ويعرف الصيادون بالخبرة كم كيلو يحتاجون لكل شبكة من كل نوع. وتتراوح الأسعار بين سبعة دنانير إلى 20 دينارًا للكيلو الواحد. وهذا يعني أن شباك الصيد مرتفعة الثمن، ويمكن أن يتعدى ثمن الواحدة منها 400 أو 500 دينار. وهي معرضة دائمًا للتمزق أثناء محاولة السمك الخلاص منها، أو عندما يسلّك الصياد السمك منها بعد إخراجها من البحر. ومن هنا تبرز أهمية مهنة إصلاحها.
يقول محمد، إن ما يحدد ما يتقاضاه هو حجم التمزقات في الشبكة، والجهد الذي يبذله فيها. فقد يأخذ خمسة دنانير أو 10 أو 20 وأحيانًا أكثر، أو قد لا يتقاضى شيئًا، إذا كان الصياد زبونًا، والمزق بسيط. لكن بعد عدة عمليات إصلاح، لا يعود من المجدي اقتصاديًا للصياد إصلاح الشبكة القديمة، ويكون عليه أن يشتري شبكة جديدة، لأن القديمة تكون قد أزعجت الصياد إلى درجة «بكون هو زهق وزهّقني معاه».
لا يفكر محمد بالعودة للاستقرار في مصر. لا عمل هناك سيوفر له إمكانية النهوض بالحمل الثقيل الذي يحمله، فإضافة إلى مسؤوليته عن زوجته، هناك أيضًا مسؤوليته وشقيقه عن معيشة والدته وشقيقتيه اللتين تبلغان 19 و17 عامًا. يضاف إلى ذلك أن الفتاتين اللتين أنهتا تعليمها المدرسي، سيأتي عما قريب نصيبهما للزواج. وتكاليف الزواج في مصر مرتفعة كما يقول محمد، إذ يتكفل العريس بإحضار الشقة، وبـ«الخشب»، أي بالأثاث الذي يشمل غرفة النوم والكنب، والكراسي وما شابه، وكامل ما تبقى يكون على أهل العروس. كل هذا، كما يقول، هو ما يبقيه في الأردن. «أنا بشتغل عشان اللي بمصر يقدروا يعيشوا».