«اللي بعيش بيبني»: مشاهد العودة إلى شمال غزة

الخميس 23 كانون الثاني 2025
نازحون عائدون إلى جباليا يسيرون وسط ركام المباني المدمرة في شارع الصفطاوي. تصوير عمر القطاع.

طوال الشهور التي سبقت التهدئة، كان أهالي محافظة شمال غزة يشاهدون بيوتهم من بعيد وهي تتحول إلى سحب كبرى من الدخان والرماد مع كل تفجير. كانوا يشاهدون مقاطع مصورة من الجو نشرها جيش الاحتلال، لكن مذاق الحسرة في المعاينة الحية أشد مرارة. حسرة تنعكس على وجوه الأهالي الذين لم يطيقوا البقاء في الأحياء التي كانوا يسكنونها سوى بضع ساعات، قبل أن يعودوا من حيث أتوا، شعثًا غبرًا، بملامح ذابلةٍ واجمة وعيون دامعة وهيئات مصبوغة بلون الخراب، كأن أمواج الركام الهادرة ابتلعت ما حملته ملامحهم من بِشرٍ وحنين، وهم يحثون الخطى مع ساعات الصباح الباكر إلى الديار.

لا بد أن يمرّ طريق العودة إلى مخيم جباليا بحي الصفطاوي، البوابة الغربية لمحافظة شمال قطاع غزة التي تضم ثلاثة مدن، هي جباليا البلد وبيت لاهيا وبيت حانون، إلى جانب مخيم جباليا. في «الصفطاوي» تعطيك البنايات التي تحوّلت إلى هياكل متداعية انطباعًا عن حجم الخراب المنتظر، لا سيما أن الحيَّ لم يكن بحد ذاته هدفًا للعملية البرية، بل كان خط النار الديمغرافي الذي يفصل بين أحياء الشيخ رضوان وجباليا النزلة المكتظة بالنازحين، والمناطق التي يتوغل فيها الجيش ويحاصرها. 

«إذا الصفطاوي وهيك عملوا فيه، كيف معسكر جباليا وبيت لاهيا وبيت حانون .. حِزن»، تحكي إحدى العجائز العائدات مع نفسها. أمّا الطريق إلى مفترق أبو شرخ ومشهد العائدين عبره صعودًا إلى حي الفالوجا، فلا شيء سوريالي في العام 2025 مثله. 160 ألف نازحٍ شقوا الطريق الذي طحنته جرافات «دي ناين» الإسرائيلية، ثم فرشته بمادة ترابية تثير غبارًا كثيفًا حين يدوس عليها أحد.العائدون تحوّلوا إلى ظلالٍ تتبدى حين ينجح شعاع الشمس في التسلل إلى أجسامهم المتثاقلة، تظهر الأجساد المنهكة ثم تغيب في الغبار الكثيف. 

قطع الأهالي العائدون إلى الخراب ساعات من المشي في الطرق المدمرة والمقطوعة بالركام والآليات الإسرائيلية المتفحمة، وبجثامين الشهداء التي تغذت الكلاب الضالة على لحمها وظلت منها الهياكل العظمية. الطريق الوعر والمكتظ لا تعبره المركبات، التأمل في التفاصيل المحيطة إجباري، وحين ظهر حي الفالوجا، أدركتُ مع الناس، أننا حيال بحرٍ واسعٍ من الركام، فقد دُمر «الفالوجا» تمامًا، أمّا المباني المتبقية فلا تصلح إلا للهدم، لكننا استطعنا بفضلها التعرف على الشوارع الرئيسية. هذه بقايا محطة العامودي للبترول، وذاك مفترق أبو شرخ، وتلك مدرسة شادية أبو غزالة، الشارع الرئيسي واسعٌ قياسًا بشوارع المخيم، أو «المعسكر»، كما يحلو لأهله تسميته، هناك، فاق المشهد كلّ توقع.

غزيون يجهزون لنصب خيمتهم أمام ركام منزلهم المدمر، بعد عودتهم إلى جباليا عقب وقف إطلاق النار. تصوير عمر القطاع. 

«يما إحنا وين؟ وين شارع الترنس، وين محطة تمراز؟ كيف بدي أصل مسجد العودة؟»، سألتنا سيدة في الخمسين من العمر، لم تضلّ الطريق إلى منزلها فقط، بل إلى المخيم كله، بدت الشوارع مثل وديان ضيقة تحيط بها جبال من الركام. 

صعدنا فوق إحدى البنايات المرتفعة التي ربما نجت بمحض الصدفة من الهدم الكلي، فتبدى الخراب الأعظم: صحراء واسعة جدًا، لا أفق فيها سوى الردم، المباني تحولت إلى جبال من الإسمنت المهروس، المعالم المشهورة التي تقود إلى الأماكن والمنازل اختفت، أمّا الناس فمنهمكون في جدل لا ينتهي على ملكية الحطام، عُجن ركام المنازل ببعضه البعض، صحيح أنه لا شيء يرتجى نفعه، لكن من يقضون ساعات نهارهم في نبش الركام، يحاولون البحث بين الحجارة عما يغتنمونه للذكرى. يقول أبو محمد: «من ساعتين وإحنا مختلفين مع جيرانا على ملكية كومة ردم، كل واحد تعرف على بيته من بقايا شيء عزيز عليه، أنا لقيت جلابية إمي إلي جبتها هدية إلها من مكة المكرمة، جارنا لقى دفاتر وشنطة ابنه الشهيد، أما الردم كله رمادي، كل الحجارة لونها واحد».

أما سليمان أبو عودة، فيقضي ساعات نهاره بين ركام منزله، يأتي في الصباح الباكر، ويعود مع مغيب الشمس: «راح البيت، لكن والله ما بشعر في السكينة والهدوء إلا هان، ذكرياتي في هذا البيت، جيراني هان، ما فيه أي مقومات للبقاء، حتى مكان نحط فيه خيمة، مش موجود، شربة المية مش متوفرة، لكن العزم أسكن هان حتى لو في العراء». 

في بيت لاهيا يتكرر المشهد ذاته، المدينة الزراعية المحاذية للحدود الشمالية لمدينة أسدود وعسقلان المحتلتين أضحت خرابًا أيضًا، ويكفي أن تمشي من شارعها الرئيسي المرتفع قليلًا لتشاهد السياج الحدودي الفاصل، الذي كان يتوارى في السابق خلف آلاف المنازل والبنايات المرتفعة. 

في صبيحة اليوم الأول للعودة ووقف إطلاق النار، جلست العائلات المنهكة أمام البيوت المدمرة، طاف الجيران على بعضهم وكأنهم يتبادلون واجب العزاء، يطرحون التحية ويهنئون بعضهم البعض بالسلامة الجسدية، يحكون عبارة المواساة المعتادة: «المال معوض، المهم إنكم بخير وعايشين، اللي بعيش بيبني يا أبو محمود».

يدرك الناس جميعهم أن البيوت ليست مجرد مالٍ يمكن تعويضه، إنما هي حيز الأمان، يقول محمود جودة معبرًا في منشورٍ كتبه على فيسبوك عن الشعور الجمعي الذي تكتنزه ملامح الوجوه المتحسرة: «بيوتنا مش مال معوض، بيوتنا فيها تفاصيل حياتنا اليومية بكل هدوئها وصخبها وروتينها وهمسنا وريحتنا وذكرياتنا، وهدايانا وزريعتنا وأشجارنا، وكتب ولادنا وملابسنا وألبوم الصور وأسرارنا الصغيرة الهبلة، بيوتنا مش حجر، بيوتنا منا، من لحمنا وتعبنا وأحلامنا، وعمرها ما بتهون ولا بتتعوض لأنه البيت مش مال وحجر».

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية