لماذا يصعب التحقق من الأعراض الجانبية النادرة للقاحات كوفيد-19؟

الأحد 02 أيار 2021
لقاح فايزر بيونتك المضاد لفيروس كورونا المستجد. المصدر: ويكيميديا.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة نيتشر بتاريخ 1 نيسان 2021.

في منتصف شهر آذار، علّقت عدة دول أوروبية توزيع لقاح كوفيد-19 الذي صنعته جامعة أكسفورد وشركة صناعة الأدوية أسترازينيكا، عقب صدور تقارير تفيد بأن بعض الأشخاص أصيبوا بجلطات دموية بعد تلقيّهم اللقاح.

استندت هذه القرارات إلى مجموعة تتكون من حوالي 20 مليون شخص تلقّوا اللقاح في بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، أصيب 25 منهم بجلطات دموية خطيرة مرتبطة بانخفاض في عدد الصفائح الدموية، أسفرت عن تسع وفيات. ولكن لم تستطع وكالة الأدوية الأوروبية بعد أن راجعت الحالات المبلغ عنها، أن تحدد بشكل قاطع ما إذا كان لهذه الحالات علاقة بلقاح أسترازينيكا أم لا، وارتأت للقول إن فوائده تفوق أية مخاطر له. فاستأنفت الدول بعدها توزيع اللقاحات، رغم أن ألمانيا توفقت عن إعطاء لقاح أسترازينيكا لمن هم أصغر من 60 عامًا، بعد أن أبلغت أنظمة مراقبة السلامة فيها عن 31 حالة تجلط دم شديدة من أصل 2.7 مليون شخص تلقى اللقاح.

تدل هذه الأحداث على مدى صعوبة إثبات أن سبب المشكلة الطبية التي قد تظهر بعد التلقيح -المعروفة بالآثار الجانبية- هو اللقاح نفسه. تقول عالمة اللقاحات كاثرين إدواردز، في كلية الطب في جامعة فاندربيلت، إن على مسؤولي الصحة العامة عند الإبلاغ عن الحالات، إقامة «توازن دقيق» بين الآثار النادرة للقاح ومخاطر الإصابة الشديدة بكوفيد-19. ورغم شعور الأطباء بالقلق من دعم الحملات المعادية للقاحات، التي بالفعل تزيد من تردد الناس في أخذ اللقاحات في بعض المجتمعات. إلا أن من المهم في الوقت ذاته، عدم استبعاد احتمالية حدوث أعراض جانبية شديدة في بعض الحالات النادرة، ريثما يتمكن الباحثون من إثبات وجود علاقة سببية بين اللقاحات والأحداث السلبية (Adverse event)، مع أن الأمر قد يستغرق سنوات.

الارتباط لا يعني السببية

في الحالة المثالية، يمكن الربط مباشرةً بين الأحداث السلبية واللقاح من خلال فحص مخبري. فعلى سبيل المثال؛ تسببت نسخة أولية من لقاحات شلل الأطفال، التي تحوي نوع فيروس حيّ خامل لتحفيز الاستجابة المناعية في الجسم، بإصابة شخص واحد بالمرض من أصل 2.4 مليون شخص تلقى الجرعة. تقول ادواردز، كان واضحًا أن اللقاح هو من سبّب المرض في هذه الحالات، لأنه كان باستطاعتنا عزل سلالة الفيروس المستخدمة في اللقاح من سائل النخاع الشوكي.

ولكن، من غير الممكن إجراء هذه الأنواع من الاختبارات لفحص أغلب الأحداث السلبية، إما بسبب غياب مؤشرات حيوية محددة للبحث عنها، أو لأن مثل هذه الاختبارات غير عملية. على الأقل، يمكننا بالبداية الربط بين الأمرين عن طريق توقيتهم؛ فيأخذ شخص اللقاح ثم بعدها بفترة يصاب بعرض جانبي. تقول إدواردز، إن هذا يجعل إثبات ما إذا كان حقًا اللقاح هو من تسبب بالحدث السلبي أم لا أمرًا صعبًا للغاية، خاصةً عندما تحدث ردة الفعل بعد أيام أو أسابيع من أخذ اللقاح.

وليتم التحقق من وجود صلة بين الأمرين، يجري الباحثون دراسات لتحديد معدل حدوث الأحداث السلبية بين الأشخاص الذين تلقوا اللقاح، مقارنةً مع احتمالية حدوثها بالصدفة عند الأشخاص الذين لم يتلقوه. ويحتاجون كذلك إلى تحديد الآلية التي قد تكون تسبّبت بردة الفعل.

اللغز الذي دام عقدًا

خلال جائحة H1N1 (أو انفلونزا الخنازير) عام 2009، نبّهت وكالاتا الصحة العامة في السويد وفنلندا إلى خطر ارتفاع معدلات الإصابة بداء النوم القهري، وهو اضطراب مزمن في النوم يسبب الشعور بالإرهاق، لدى الأطفال الذين تلقوا لقاح الإنفلونزا الوبائية (باندمريكس)، أحد لقاحات فيروس H1N1 .

حيث وصل معدل حالات الإصابة بالنوم القهري المبلّغ عنها إلى حالة واحدة من كل 18,400 جرعة، بنسبة أعلى بكثير من أن تحدث بالصدفة. خشي مسؤولو الصحة العامة من أن يكون المكوّن الذي يضاف إلى اللقاح ليساعد على تحسين الاستجابة المناعيّة في الجسم، والذي يسمى «المساعد»، قد عمل على تحفيز استجابة مناعية في اتجاه غير مرغوب فيه، مما أدى إلى الإصابة بالمرض. حيث سيكون من المهم الأخذ في الاعتبار، عند تصميم اللقاحات في المستقبل، ما إن كان لهذه المادة المساعدة دور حقيقي في زيادة خطر الإصابة أم لا. واقترحت الدراسات الأولية أن اللقاح زاد من خطر الإصابة بالمرض عند بعض الفئات العمرية، لكن النتائج كانت متفاوتة جدًا، بحيث لا يمكن الخروج منها باستنتاجات عامة.

وحتى بعد مرور أكثر من عشر سنوات على نهاية تلك الجائحة، ما زال العلماء غير متفقين بشكل كامل حول طبيعة الصلة بين لقاح باندمريكس ومرض النوم القهري. ففي عام 2018، نشر عالم اللقاحات ستيفن بلاك، وهو طبيب في مستشفى سينسيناتي للأطفال في أوهايو، مع مجموعة من زملائه الدوليين، دراسة تقول إنه لا يوجد صلة بين المواد المساعدة لوحدها وارتفاع خطر الإصابة بمرض النوم القهري. 

فقارن الباحثون بين المعدلات الطبيعية للإصابة بمرض النوم القهري في سبعة بلدان ومعدلات الإصابة به عند المجموعات التي تلقت لقاح باندمريكس، أو لقاحي H1N1 آخرين يحتويان على مواد مساعدة. وبعد أن ثبّتوا معاملًا متغيرًا في المعادلة، وهو تفشي فيروس H1N1 في كل بلد من تلك البلدان، رأوا أن تقارير الإصابة بالنوم القهري لم تزد في جميع أنحاء أوروبا إلا بعدما أدرك الناس صلتها المحتملة باللقاح. يقول بلاك: «إننا لم نعثر على أي دليل على زيادة خطر الإصابة في أي من البلدان التي درسناها، باستثناء السويد، أول مكان لوحظ فيه الرابط».

ومع ذلك، بعد اجتماع التحالف الدولي لتوحيد المعايير الحيوية (IABS) عام 2018، في بروكسل، نُشر بالإجماع تقرير يفيد أن الرابط بين لقاح باندمريكس ومرض النوم القهري كان ثابتًا في البلدان التي تم الإبلاغ فيها عن زيادة خطر الإصابة. يقول بلاك، لم يتم التأكد من الآلية التي سببت ردة الفعل، إلا أن الباحثين رأوا أنه «من المرجح جدًا» أن المرض نتج عن تفاعل غير متوقع بين لقاح باندمريكس وفيروس H1N1.

حالات نادرة

بالنسبة للقاحات كوفيد-19، فلقد تم اختبارها سريريًا على آلاف المشاركين، قبل أن تسمح الحكومات بتوزيعها على نطاق واسع. تقول هيلدا باستيان، عالمة مستقلة تدرس الطب القائم على الأدلة في فيكتوريا، أستراليا، إن هذه التجارب السريرية «معدّة لتجيب على الأسئلة المتعلقة بالفعالية، ولتقييم معدل الإصابة بالآثار السلبية الشائعة»، مثل الشعور بالألم في موضع الحقن أو الصداع. ولقد حرص جميع أخصائيي اللقاح، الذين تمت مقابلتهم لهذا التقرير، على التأكيد على أن لقاحات كوفيد-19 آمنة و فعّالة بالنسبة لغالبية الناس.

حتى أكبر التجارب السريرية لا يمكنها اكتشاف الآثار الجانبية النادرة جدًا، التي قد تحدث بمعدل أقل من حالة واحدة من كل 10 آلاف شخص تلقى اللقاح.

ولكن حتى أكبر التجارب السريرية لا يمكنها اكتشاف الآثار الجانبية النادرة جدًا، التي قد تحدث بمعدل أقل من حالة واحدة من كل 10 آلاف شخص تلقى اللقاح. تقول باستيان، إنه من المنطقي أن تبدأ الأحداث النادرة جدًا -مثل ردود الفعل التحسسية الشديدة أو جلطات الدم- بالظهور الآن في تقارير السلامة، بعد أن تم تلقيح مئات الملايين من الأشخاص. ويبقى التحدي الحقيقي هو معرفة أي من هذه الأحداث له علاقة باللقاح.

بدأ المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية في الولايات المتحدة، في تنظيم تجربة سريرية لفهم مخاطر الحساسية للقاحات كوفيد-19، المعتمدة على تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA). فوجد أن العلاقة بين لقاح mRNA، الذي تصنعه شركة فايزر في نيويورك، وبيونتيك في ماينز في ألمانيا، وحالات الإصابة برد فعل تحسسي شديد، تصل إلى معدل خمس حالات من كل مليون شخص تلقى الجرعة، بينما وصل معدل الإصابة عند الأشخاص الذين تلقوا اللقاح الذي صنعته شركة موديرنا في كامبريدج إلى ثلاث حالات لكل مليون جرعة. ويبدو أن أغلب المصابين كانوا من النساء والأشخاص الذين لديهم تاريخ من الحساسية.

تقود ستايسي جونز، أخصائية الحساسية والمناعة في جامعة أركنسو للعلوم الطبية في ليتل روك، مع زملائها، في موقع واحد من أصل 30 موقعًا موزعًا في أنحاء الولايات المتحدة، دراسة لفهم نسبة ردود الفعل التي تحدث عند الأشخاص الذين لديهم تاريخ من الحساسية، بالمقارنة مع مجموعة ضابطة (مكونة من أشخاص لم يتلقوا اللقاح). تقول جونز إن ردود الفعل التحسسية هذه «نادرة للغاية». وإذا رصدت الدراسة أي زيادة في معدل ردود الفعل التحسسية الشديدة في هذه التجربة المحكمة، فإن ذلك سيسمح للباحثين «بمعرفة من معرض للخطر، وما هو هذا الخطر»، ليتمكن الأطباء بعدها من تقديم نصائح أفضل.

في أوروبا، ستعقد لجنة تقييم مخاطر اليقظة الدوائية، التابعة لوكالة الأدوية الأوروبية، اجتماعًا للبحث أكثر في اضطرابات تجلط الدم النادرة، التي حدثت عند عدد قليل جدًا من الأشخاص الذين أخذوا لقاح أسترازينيكا، ومن المقرر أن تبلّغ عن نتائجها في أوائل شهر نيسان.* وفي هذه الأثناء، اختارت بعض البلدان إضافة تحذير على اللقاح، بينما قررت دول أخرى -مثل أستراليا- أن تؤجل تلقيح الأشخاص الذين يعانون من حالات معينة.

 تحسين الرصد الوبائي

تتعقب وكالات الصحة العامة في الوقت الحالي الآثار الجانبية المحتملة من خلال نظم الإبلاغ، مثل قاعدة البيانات (فيغي بيس VigiBase) التابعة لمنظمة الصحة العالمية، وبرنامج نظام ( يقظة يودرا EudraVigilance) التابع لوكالة الأدوية الأوروبية، ونظام الإبلاغ عن الأحداث السلبية للقاح في الولايات المتحدة. كما تمتلك العديد من البلدان نظم تسمح لعامة الناس والعاملين في مجال الرعاية الصحية بتقديم تقارير حول الآثار الجانبية التي تحدث بعد تلقي اللقاح.

يمكن الوصول لفهم أوسع لمدى سلامة اللقاحات عن طريق نظم الرصد الوبائي النشطة، التي تجمع بيانات متنوعة عن الأحداث السلبية ونسبتها في الحالة الطبيعية وبعد تلقي اللقاح، من خلال التقارير الطبية الإلكترونية.

يقول بلاك إنه يمكن لهذا النوع من الرصد أن يكشف عن الأحداث السلبية النادرة، لكن معظم النظم لم تصمم لتحديد مسبباتها الحقيقية. وذلك لأنهم لا يمتلكون سوى معلومات عن الأحداث السلبية التي تم الإبلاغ عنها، ويفتقرون لوجود مجموعة مقارنة، يمكنهم من خلالها تعقب حدوث الأحداث السلبية عند السكان الذين لم يتلقوا اللقاح.

يمكن الوصول لفهم أوسع لمدى سلامة اللقاحات عن طريق نظم الرصد الوبائي النشطة، التي تجمع بيانات متنوعة عن الأحداث السلبية ونسبتها في كلا الحالتين؛ الحالة الطبيعية وبعد تلقي اللقاح، من خلال التقارير الطبية الإلكترونية، دون الاعتماد المباشر على بلاغات الناس. فعلى سبيل المثال؛ تجمع مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها الأمريكية بيانات من تسع مؤسسات للرعاية الصحية، ضمن مشروعهم المشترك لبناء رابطة بيانات عن سلامة اللقاحات. وقد طالب الباحثون في التقرير الذي نشر بعد اجتماع التحالف الدولي لتوحيد المعايير الحيوية (IABS) عام 2018، بأن يتم إنشاء شبكة دولية من نظم الرصد النشطة، لتتمكن منظمات الصحة العامة من نشر بياناتها بسهولة، على أمل أن نحدد مسببات الأحداث السلبية بسرعة وحسم. 

تقول جونز إن أهمية الجمع بين الرصد الوبائي النشط والتجارب السريرية المستهدفة لن تقتصر فقط على ضمان سلامة لقاحات كوفيد-19، حيث إن هذه الدراسات ستعمل أيضًا على توجيه سياسات الصحة العامة فيما يتعلق بسلامة الجرعات المعززة واللقاحات السنوية، التي قد نحتاجها خلال فترة الجائحة وما بعدها.


* أعلنت وكالة الأدوية الأوروبية عن اكتشاف «صلة محتملة» بين لقاح أسترازينيكا وظهور جلطات الدم عند عدد من الذين تلقوا اللقاح، في وقت لاحق لنشر هذا المقال بالإنجليزية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية