رفضًا لإزالة البسطات، إضراب سريع وناجح في أسواق وسط عمان

البسطات أمام المحال في سوق السكر. تصوير يزن ملحم.

رفضًا لإزالة البسطات، إضراب سريع وناجح في أسواق وسط عمان

الخميس 03 كانون الأول 2020

في صباح يوم الإثنين، 23 تشرين الثاني الماضي، كان جزءٌ حساس من وسط العاصمة عمان على موعدٍ مع حدثٍ خاصٍ وسريع، لكنّه لافت، وقد تكون له امتدادات في المستقبل. ففي المنطقة الواقعة خلف المسجد الحسيني الكبير، ابتداءً من «سوق السكر» وامتداداته، وصولًا إلى ما يعرف بـ«سوق الندى» والشوارع المحاذية له، كانت عشرات المحلات التجارية على موعد مع حملةٍ أمنيةٍ مرافقة لدوريات أمانة عمان الكبرى، تهدف إلى إخلاء الشوارع والأرصفة ومداخل المحلات من البسطات و«فروش» البضاعة التابعة للمحلات ذاتها. 

كانت الحملة قويةً وحازمةً، وأُنذِر التجار بالاستجابة تحت طائلة مصادرة البضاعة، فاستجابوا فورًا وأدخلوا بضائعهم لمحلاتهم. لكنهم سرعان ما استجابوا وبلا تخطيط، إلى أوّل تاجرٍ منهم بادر إلى إغلاق باب متجره احتجاجًا، فأغلق الجميع تقريبًا بعده أبواب متاجرهم، وجلسوا أمامها، وعلّق بعضهم أوراقًا على الأبواب كتب عليها «للبيع»، وذلك كاحتجاج فوري على الحملة، بل اقترح أحدهم أيضًا أن تُجمع المفاتيح وتسلّم للأمانة.

لم يمرّ وقت طويل حتى حضر إلى الموقع مسؤولون من الأمن العام ومن أمانة عمان الكبرى، وبعد نقاش قصير نسبيًا أمام المحلات المغلقة، توصلوا إلى حلّ أعاد بموجبه التجار فتح محلاتهم، بعد أن سُمح لهم باستخدام الأرصفة لعرض البضائع كالمعتاد، فيما لم يسمح بعودة البسطات الفردية التي اعتاد أصحابها العمل في الشارع.

في هذه الأثناء بثّت بعض الفيديوهات مباشرةً من الموقع عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الإخبارية، واصفين ما يحدث بالإضراب. ولكنه كان حدثًا قصيرًا استمر بالمجمل لساعتين فقط، وعلى الفور سارعت وسائل الإعلام لبث خبر عودة العمل إلى السوق وانتهاء الأزمة.

تاريخ السوق

يفيد فهم تاريخ المنطقة الاجتماعي/التجاري في إمكانية فهم طبيعة السوق الحالية وموقف التجار والباعة والمجتمع المحيط. ذلك أن جانبًا هامًا من الأزمة المتواصلة بين الأجهزة الرسمية وخاصة أمانة عمان الكبرى، وبين العاملين في هذا الموقع، يعود إلى عدم توفر فهمٍ كافٍ ليوميات السوق وشروط العمل فيه ومتطلبات التجار والزبائن معًا، والتفاهمات الضمنية التلقائية التي تتيح مواصلة العمل في الموقع.

يُعد «سوق السُّكّر» من أسواق عمان القديمة، وكان السوق متخصصًا بتجارة الجُمْلة للمواد التموينية، وهو عبارة عن مجموعة محلات صغيرة متقابلة. بني السوق بجوار سوق الخضار القديم الذي يضم بدوره عشرات المحلات التي لا تزال تبيع الخضار والفواكه، بينما كان سوق السكر يتخلى بالتدريج عن طبيعته كسوق للمواد التموينية. ومع نهاية تسعينيات القرن الماضي، كانت أغلب محلاته قد تحولت إلى البيع بالتجزئة لسلع مختلفة، وغادر قدامى التجار مواقعهم. كما اشتهر السوق لزمن كموقع لبيع «البضائع العراقية» خلال عقد التسعينيات، عندما جلب العراقيون معهم أصنافًا من البضائع بعد الحرب وعملوا بها في الأردن، وأضفوا ملمحًا عراقيًا على السوق.

سوق السكر بجانب الجامع الحسيني. تصوير يزن ملحم.

في هذه الأثناء كان الشارع المتفرع من سوق السكر غربًا، ينشط كسوق شعبي تتبدل محتوياته وفق تقديرات التجار، مع ملاحظة صمود بعض المتاجر التي تحمل أسماء عريقة، مثل «ازحيمان» و«كباتيلو» و«زلوم»، الذين أبقوا على محلاتهم تلك رغم انطلاقهم إلى الأسواق الكبيرة الجديدة في غرب عمان وشرقها. 

وإذا واصل عابر هذا السوق سيره سيجد أمامه سوقًا جديدًا نسبيًا اسمه «سوق الندى»، الذي تَشَكّل بصفته الحالية مع نهاية تسعينيات القرن الماضي، فأصبح موقعًا لتزويد البضائع للمحلات المعروفة بأسماء مثل «كل شيء ببريزة» أو «كل شيء بربع دينار أو نصف دينار أو دينار»، ثم أصبح سوقًا رئيسية للبضائع التي تأخذ اسم «نثريات»، وهي السلع البسيطة للأطفال أو الأدوات المنزلية الصغيرة غير الكهربائية أو الهدايا المتواضعة ومستلزمات الحفلات المنزلية، إلخ.

سوق الندى في وسط عمّان. تصوير يزن ملحم

علينا أن نشير هنا إلى التغيرات التي حصلت بالتزامن على جزء كبير من وسط عمان وتجارته. في الواقع، لقد توقف أو أغلق نسبيًا السوق الممتد شرقًا ابتداءً من الجامع الحسيني، وذلك منذ العام 2003، وهو العام الذي أغلق فيه «مجمع رغدان للنقل العام» الذي كان قد تشكل حوله وبالانسجام مع حركة الناس منه وإليه سوق ومصالح وعلاقات ونشاطات اقتصادية مختلفة، خلال عقود مضت، لكنها تلاشت بعد نقل المجمع.

إلا أن المنطقة المتجهة غربًا من المسجد الحسيني حافظت إلى درجةٍ كبيرة على نشاطها، نظرًا إلى خطوط سير روادها وسكانها الذين لم يتأثروا بنقل مجمع رغدان. وبالمحصلة، فقد دفعت هذه التغيرات بحركة المارة وعابري الطريق نحو الغرب، ومن ذلك هذا السوق الذي نتحدث عنه هنا. 

يتكون رواد السوق من مواطنين اعتادوا التسوق من وسط عمان، بالذات من النساء، يقول أحد التجار: «إننا بالأساس سوق نسائي». تتجول السيدات بين المحلات للتعرف على الأسعار من خلال ما هو معروض أمام كل محل، ولهذا فإن التجار يعتبرون وجود فرش للبضائع أمام المحل عاملًا رئيسيًا للبيع بالنسبة لهم. كما أن المحلات صغيرة المساحة نسبةً إلى حجم البضائع، وعند الإغلاق يقوم التاجر بإدخال بضاعته إلى المحل ولا تعود ثمة إمكانية للدخول مرةً أخرى بشكل مريح حتى بالنسبة لصاحب المحل، فما بالك بدخول الزبائن كما تفترض أجهزة أمانة عمان الكبرى؟ بات التجار مع الزمن يدركون أن لا إمكانية للبيع دون عرض عينات من البضائع أمام المارة في الشارع.

تتجول السيدات بين المحلات للتعرف على الأسعار من خلال ما هو معروض أمام كل محل، ولهذا فإن التجار يعتبرون وجود فرش للبضائع أمام المحل عاملًا رئيسيًا للبيع.

في مجمل هذه الأسواق المتجاورة، تتوفر عشرات عربات الدفع اليدوي التي يعمل عليها فتيان يرافقون من يرغب من المتسوقين بين المحلات، وبعد أن يتم أحد الزبائن شراء ما يحتاج إليه، يدفع الفتى العربة إلى حيث تصطف سيارة الزبون، أو إلى الشارع العام المجاور الذي تصطف فيه سيارات أو باصات النقل العام، التي تنقل الركاب إلى مجمع المحطة شرق وسط عمان. 

لقد ورث فتيان العربات الصنعة التقليدية القديمة «العتالة» على الأكتاف، وهي الخدمة التي كان يقدمها في السابق الشباب والرجال الأقوياء. والملاحظ -وفق عمل بحثي سابق- أن عددًا كبيرًا من الأولاد العاملين على العربات هم من أبناء أو أحفاد عتالي المراحل السابقة، ويقطن عدد كبير منهم في جبل الجوفة أو حي الطفايلة.

البسطات أمام المحال في موقع الإضراب. تصوير يزن ملحم

بالتدقيق في الحركة الجارية في هذه الأسواق يمكن بسهولة ملاحظة وجود حلقة متصلة متناغمة بين التجار والزبائن. غير أن السوق كان وما زال متأثرًا بشدة بالحالة الاقتصادية للمواطنين وقدراتخهم الشرائية. فجزء كبير من السلع، باستثناء الخضار، يعتبر من السلع الثانوية، أو لنقل سلع الرفاهية الشعبية (ألعاب بلاستيكية أو هدايا وأدوات رخيصة الثمن نسبيًا)، وبالتالي فإن الزبون أو الزبونة يتجاوب بسرعة مع التغيرات في الحالة العامة. يقول صاحب محل لبيع الألعاب إن زبائنه في وقت الأزمات يضطرون لإجراء الكثير من الحساب لتحديد ما يشترون والكمية التي يشترونها.

السوق والجائحة والحملات الأمنية

تعد الأشهر الحالية، منذ بدء إجراءات مكافحة جائحة كورونا، زمنًا صعبًا على هذه الأسواق. لقد تأثرت الزيارات «الأسرية» للموقع، لا سيما وأن البدائل للبضائع متوفرة في شتى المواقع وإن كان التنوع هنا كبير، ولم تعد زيارة السيدات أمرًا يسيرًا، فالمشوار بالنسبة لهن كان يشبه «الطلعة» أو ربما النزهة الشعبية، بما فيها من فسحة وتسوق، وهو ما أصبح الآن متعذرًا.

ليست الحملة الأمنية الحالية هي الوحيدة، لكنها كانت حادةً وقاسية بسبب صعوبة الظروف المحيطة، من إغلاق السوق المبكر مساءً، وضعف الحركة التجارية، وخشية الزبائن من العودة للتجول مثل السابق

يتيح تفحص حالة هذه الأسواق الصغيرة فرصة التعرف على مقطع تفصيلي في الجانب الاقتصادي الممارس أو «التطبيقي»، من «أزمة كورونا» التي يقر بها ويعيشها الجميع. في هذه الأيام، ينتظر التجار موعد دفع الأجور السنوية لمحلاتهم مع مطلع العام الجديد، ففي بداية الأزمة في آذار الماضي، كان التجار قد دفعوا الأجور المستحقة لهذا العام، وهم اليوم بانتظار استحقاق أكثر قسوة للعام المقبل. يضاف إلى ذلك، أنهم يعرفون أن قانون المالكين والمستأجرين سيكون عائقًا إضافيًا وميدانًا للابتزاز في بعض الحالات.

عندما طلبت من أكثر من تاجر أن يصف لي حالة المتاجر المجاورة من حيث مدى الاستقرار خلال السنوات الـ10 الماضية على سبيل المثال، أي مستوى الالتحاق والمغادرة من قبل التجار، المتمثل في حركة الإغلاقات أو تغيير الصنعة أو تبديل البضاعة، كانت الإجابات لافتة، فالسوق يفتقر إلى الحد المعقول من الاستقرار، إذ يضطر التجار للتعديل والتبديل في طبيعة تجارتهم، وهناك مغادرة ودخول بنسب عالية.

ليست الحملة الأمنية الحالية هي الوحيدة، لكنها كانت حادةً وقاسية بسبب صعوبة الظروف المحيطة، فالسوق يعمل لفترة أقل بحكم الإغلاق المبكر مساءً، إضافة إلى ضعف الحركة التجارية بشكل كبير، وخشية الزبائن من العودة للتجول مثل السابق، كل ذلك رفع حجم التوتر هذه المرة، وهو ما عبّر عنه الإغلاق الفوري، وهو ما استدعى أيضًا عودةً سريعةً واستعدادًا مباشرًا للتفاهم والوصول إلى حلّ معقول، سيشكّل على ما يبدو حقًا مكتسبًا.

المنطقة التي حدث فيها إغلاق للمحلات في سوق السكر. تصوير يزن ملحم

في اليوم التالي للحادثة، تابعتُ دورية مشتركة من الأمن العام وأمانة عمان الكبرى، وقد اخترقت الشوارع بهدوء وملاطفات متبادلة. كان التركيز منصبًا على الالتزام بوضع الكمامة من قبل الزبائن والمارة، دون الدخول إلى أي محل، والاكتفاء بطلب رفع البضائع من بعض أصحاب البسطات.

يمكن اعتبار الحدث بتفاصيله مثالًا على «يوميات أزمة»، ولعل رد الفعل المباشر والحاد، الممثل بما يمكن أن يكون أسرع إضراب ناجح، والذي استجيب إليه فورًا بفعل مقابل من طرف الأجهزة الرسمية المختصة، يشكل تمرينًا ميدانيًا للطرفين على التعامل الملموس والحيوي مع الأزمة، بعيدًا عن جفاف التعليمات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية