رأي

إغلاق العيادات الخارجية وتأجيل العمليات: عن أي «سيطرة» نتحدث؟

الخميس 11 آذار 2021
تجمع مراجعين أمام عيادات البشير صبيحة الإعلان عن إغلاقها. تصوير دانة جبريل.

مع احتمالية أن يكون الأردن قد وصل ذروة المنحنى الوبائي، في ظلّ انتشار السلالة البريطانية من فيروس كورونا المستجد، كما صرّح وزير الصحة نذير عبيدات الثلاثاء، قررت وزارة الصحة السبت الماضي إغلاق العيادات الخارجية لسبعة مستشفيات حكومية، واقتصار عملها على صرف أدوية الأمراض المزمنة، ووقف العمليات المبرمجة فيها، لتقليل احتمالات العدوى، بعد يومين من إعلان الخدمات الطبية الملكية التوقف عن استقبال مراجعي عيادات الاختصاص، لتتبعهم لاحقًا المستشفيات الجامعية. 

صباح اليوم التالي لقرار الإغلاق، تجمّعت أعداد كبيرة من المرضى على باب العيادات في مستشفى البشير، أحد المستشفيات التي تقرر إغلاق عياداتها. نسبة من الناس يقولون إنهم لم يسمعوا بالقرار الحكومي، الذي جاء دون تفاصيل وافية حول مصير المواعيد التي ينتظرها الناس منذ أشهر، ما انعكس على ردّ فعل الناس أمام باب العيادات المغلق، حيث وقف رجال الأمن وسيدات من الشرطة النسائية. 

يرفع بعض المرضى أوراقهم وتحاليلهم الطبية وصور الأشعة، يقدمونها لأفراد الأمن، لإقناعهم بأنهم بحاجة لرؤية الطبيب. يجيبهم الأمن بأن القرار يقضي بمنع المراجعات من غير صرف الأدوية، ويطلب منهم المغادرة «حتى إشعار آخر»، دون أن تتواجد أي جهة طبية تجيب على أسئلة المراجعين.

التعليق الوحيد على تلك الجموع وأسئلتها وحاجتها للفهم، جاء من مدير المستشفى محمود زريقات، عندما وجد في الاكتظاظ مثالًا مناسبًا على مسببات الإغلاق. فرغم القرار هناك «إصرار» من بعض المراجعين على الدخول، مع «عدم امتثال الأغلبية لقرار الإغلاق» كما قال. لكن الإصرار على الحصول على العلاج ليس اتهامًا يجب أن يُسأل الناس عنه، بل يطرح بحد ذاته أسئلة عن مسؤولية الإدارة نفسها في إيجاد حلول تلبي حاجة المراجعين، وكيف أدارت عملية المواعيد قبل أن تتزايد الأزمة، وكيف تدير قرار الإغلاق الآن وتجيب على أسئلة المراجعين.

تصريح الزريقات الذي يعكس الفهم الحكومي لإدارة الأزمة عبر منع الناس من التواجد بدل التنظيم والإدارة، لم يكن تصريحًا فرديًا يعكس وجهة نظر مدير مستشفى فقط، بل جاء امتدادًا لتصريح سبقه بساعات للأمين العام للشؤون الفنية والإدارية لوزارة الصحة، عمّار الشرفاء، قال فيه إن «المريض اللي ما إله داعي يراجع العيادات الخارجية هاي الفترة، يراجع المراكز الصحية»، رغم علم مسؤولي الوزارة أن المرضى المحولين للمستشفيات همّ محولون أصلًا من المراكز الصحية، لعدم وجود أطباء اختصاص وعدم القدرة على تقديم إجراءات طبية معينة فيها. ولو فرضنا أن الوزارة ستدعم هذه المراكز حاليًا كي تواجه إقبال الناس خلال فترة إغلاق العيادات، كما يشير الشرفاء في حديثه، فهي بالتأكيد لن تتمكن من ذلك في أيام وساعات، وبالسرعة التي اتخذت ونفذّت بها قرار إغلاق العيادات، وإلا لمَ كل هذه السنوات من قلة التخصصات والإجراءات في المراكز الصحية طالما بإمكاننا أن نحلّ المشكلة جذريًا بهذه السرعة؟ 

يتضح اليوم مع الجائحة كيف يمكن لسنوات من إهمال القطاع الصحي العام وعدم إصلاحه وتنظيمه أن تؤزم الحكومة وتعرض حياة الناس للخطر.

على باب عيادات البشير، تقترب سيدة خمسينية، وفي يدها كيس مليء بصور الأشعة والتحاليل الطبية. الموعد الذي تنتظره عند الطبيب كان سيحدد أخيرًا موعد عملية في ظهرها، وهي المصابة بالديسك منذ سنوات طويلة. تقول إنها منذ عام تسير في إجراءات ومراجعات وتحاليل ضمن مواعيد انتظار طويلة في كلّ إجراء، حتى وصلت اليوم إلى مراجعة الطبيب، حيث كان من المفترض أن يقرر الخطوة القادمة، والتي تعتقد أنها كانت حاسمة في العلاج، وسترتاح بعدما قضت ما يزيد عن نصف عمرها «متوجعة». 

تقول سيدة أخرى إن الموجودين هم ممن أحوالهم صعبة ماديًا، وتطلب قدومهم للمستشفى هذا اليوم إما إجازات أو مغادرات من أعمالهم، أو ترتيبات مادية واجتماعية مرهقة، غالبًا لم يفكر بها المسؤولون عندما اتخذوا هذا القرار بشكل سريع وفجائي، تجاه أشخاص «تعبانين».

في حديثه يوم الثلاثاء الماضي، قال وائل هياجنة، الأمين العام في وزارة الصحة لشؤون الأوبئة، إن الأمور «تحت السيطرة» بالنظر لأرقام ونسب إشغالات كورونا في المستشفيات. لكن السيطرة والقدرة الاستيعابية لا يصح أن يتم احتسابها فقط بموجب أرقام الأسرة، خاصة حين يأتي توفير أسرة لمرضى كورونا على حساب علاج الأمراض الأخرى في المستشفيات السبعة التي تم إغلاق عياداتها، والتي بلغ مجموع مراجعيها لعام 2019 نحو مليون ونصف، بحسب إحصائية وزارة الصحة. جلّ هؤلاء من المؤمنين صحيًا في الحكومة، وهي فئة غالبًا لا تسمح إمكانياتها المادية بالتوجه لقطاعات صحية أعلى كلفة، وربعها من فئات الأسر الأشد فقرًا والحاصلين على المعونة الوطنية.

في بداية الجائحة، قررت الحكومة الحظر الشامل، واقتصر الوصول إلى المستشفيات على الحالات الطارئة. هذا ما يجعل قرار إغلاق العيادات الخارجية اليوم يبدو وكأنه يعيدنا إلى المربع الأول في التعامل مع الاكتظاظ ومنع العدوى داخل المستشفيات وحماية الكوادر. لكن المربع الأول في ذلك الوقت شمل الجميع، من مختلف الطبقات في المجتمع، في جائحة لم يكن معروفًا حينها سلوكها وأثرها.

أما اليوم وبعد التعرّف على الفيروس، ومرور عام تبدّل خلاله الطاقم المسؤول عن ملف كورونا، جاء قرار الإغلاقات الجزئية في المستشفيات محددًا، يمسّ الفئة الأكثر هشاشة في المجتمع، وكان من أوائل الخيارات عندما تزايدت الأوضاع سوءًا منذ نهاية شباط، هو فعليًا القرار الثاني للتعامل مع هذا التزايد في عدد الحالات بعد قرار حظر الجمعة وتمديد ساعات الحظر اليومية، في وقت بقيت فيه المستشفيات الخاصة والأسواق العامة وغيرها مفتوحة. وهذا استسهال لا يمكن التغاضي عنه إذا ما نظرنا إلى الفئة التي يمسها القرار وكيف تم التعامل معها، وفي ظل غياب أي مقترحات أو أحاديث أساسًا حول آلية تنظيم المواعيد وضبطها في ظل تزايد العدوى بالمجتمع.

تنسى الحكومة أحيانًا حاجتها لثقة الناس في مواجهة جائحة كورونا، وأثر غياب هذه الثقة على الإقبال على التطعيم، الذي تَعِد الحكومة بزيادته قريبًا، أو على الالتزام بالتباعد وارتداء الكمامات.

في الساعات الأولى لإغلاق عيادات البشير، توّجه المرضى المراجعون إلى أقسام الإسعاف والطوارئ، ما أدى إلى حدوث اكتظاظ في تلك الاقسام كما يقول زريقات، وهو يصف مجددًا سلوك الناس المصرة على الحصول على العلاج في مستشفى بدلًا من المركز الصحي، دون أن يكون ذلك الحديث أدعى للتفكير بأن القرار لا يحقق أهدافه، وهو منع الاكتظاظ وتقليل العدوى. غير أن العديد من المرضى توجهوا فعلًا للمراكز الصحية، وشكّلوا أيضًا ضغطًا داخلها، ولم يجدوا خدمات تعوضهم عن العيادات، كما يقول أطباء يعملون في بعض المراكز.

قبل الجائحة، وصلت نسب الدخول من غير الحالات الطارئة في البشير إلى 46% وهي نسبة ترتفع في مستشفى الأمير فيصل في الزرقاء و-هو أحد المستشفيات التي تم إغلاق عياداتها- إلى 81%، هذه أرقام يتوقع الأطباء تزايدها مع الاغلاقات الجزئية في المستشفيات، كما حصل بدايات الجائحة، مما سيؤدي إلى الاكتظاظ في أقسام الإسعاف وزيادة العبء على طواقمها الطبية. 

أما الأثر على المرضى، فرغم غياب أي معلومات أو أرقام أو حتى تصريحات حكومية، توضح ماذا حصل للمرضى الذين ألغيت مواعيدهم في فترة الإغلاقات الأولى قبل عام، وكيف أثّر ذلك على صحتهم وأمراضهم ونسب الوفيات بينهم، إلا أن أطباء في مناسبات مختلفة أشاروا إلى الآثار الصحية المترتبة على التأخر في الوصول إلى الطبيب، والتي تنعكس صحيًا وماديًا ومعنويًا على المريض، وتزيد الضغط الواقع على الأطباء بعد إعادة فتح العيادات. 

تقول سيدة حضرت لمراجعة طبيبها في قسم الصدرية يوم الأحد، إنها ستنتظر إعادة فتح العيادات لمراجعة طبيبها، الذي كان من المفترض أن يقيّم حالتها ويجدد لها وصف أدوية للحساسية والأمراض الصدرية، سعر أحد هذه الأدوية في الصيدليات الخارجية يبلغ 24 دينارًا، وهو مبلغ لا تقدر عليه، ما يعني أنها ستتوقف عن أخذ الدواء إلى حين فتح العيادات مجددًا ومراجعة الطبيب.

تنسى الحكومة أحيانًا حاجتها لثقة الناس في مواجهة جائحة كورونا، وأثر غياب هذه الثقة على الإقبال على التطعيم، الذي تَعِد الحكومة بزيادته قريبًا، أو على الالتزام بالتباعد وارتداء الكمامات. كانت هذه الإجراءات محط سؤال المرضى أمام بوابات العيادات الخارجية المغلقة، فكيف يمكن أن يهدف الإغلاق لحمايتهم من الاكتظاظ والعدوى، بعد إلغاء مواعيدهم الضرورية لصحتهم وتركهم أمام العيادات دون أجوبة؟

هذا لا يعني عدم وجود إشكاليات في الضغط والاكتظاظ داخل المستشفيات، وفي آلية المراجعات في العيادات الخارجية، بل يتضح اليوم مع الجائحة كيف يمكن لسنوات من إهمال القطاع الصحي العام وعدم إصلاحه وتنظيمه أن تؤزم الحكومة وتعرض حياة الناس للخطر. لكن بدل أن تتحمل الحكومة مسؤوليتها حيال ما يحدث وما قاد إليه، تغلق العيادات في وجه المرضى، وتحملهم مسؤولية أخطائها المتراكمة، وتصدّر خطابًا استعلائيًا حولهم وحول «إصرارهم» على الحصول على علاج.

الدعوة لتقليل الوصول للمستشفيات لتقليل احتمالية العدوى هي دعوة موجودة في كل العالم، الذي يطلب من مرضاه تأجيل مراجعاتهم غير الضرورية لتقليل احتمالية تعرضهم للفيروس داخل المستشفيات، لكن مع تنظيم حول كيف ستتم عملية المراجعات لاحقًا، وتوضيح لما تعنيه الحالة الطارئة، وتحديد من يقيّمها في المستشفى. 

منذ بداية الجائحة قبل عام، كان القلق يدور حول احتمالية ألا يتحمّل قطاعنا الصحي أعداد إصابات فيروس كورونا المستجد، وأن ينهار أمامها، بمعنى ألا يتمكن من تقديم العلاج لمن يحتاجه، وأن يؤدي ذلك إلى فوضى في أحقية الوصول للأسرّة وضمان العدالة لكل الناس. اليوم حين تتحدث الحكومة عن نسبة إشغال مقبولة في أسرة كورونا لغاية الآن، لكن مع عدم القدرة على تقديم العلاج لأمراض أخرى، ومع تحول أسئلة العدالة في الحصول على العلاج من شكل لآخر، ألا يعني ذلك أننا وصلنا للنتيجة ذاتها؟ 

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية