«التكييش»: اقتراض صغير ودَيْن فاحش

الأربعاء 19 نيسان 2023
البيع الآجل
تصميم محمد شحادة.

هذا التقرير جزء من ملف ««تلبيس طواقي»: عن العيش بديون لا تنتهي». يمكنكم قراءة الملف كاملًا من هنا.

قبل عشر سنوات، وهي في سنّ الثامنة عشر، توفّي زوجها في حادث سير. هكذا صارت منار* أرملةً عاطلةً عن العمل، بتحصيل مدرسيّ لا يتجاوز الصف الثامن، في رعايتها طفلان، وفي ذمّتها ديون مجموعها ثلاثة آلاف دينار، كان زوجها قد استدانها من سبعة دائنين.

تزوجت منار في سنّ صغيرة من قريبٍ لها بعد إلحاح أهلها عليها، أملًا منهم أن يساعدها الزواج من أردنيّ على الاستقرار والحصول على الجنسية الأردنية، إذ كانت تحمل جنسية أبيها من إحدى الدول العربية، وكان أبوها قد انفصل عن أمها الأردنية وعاد إلى بلاده قبل سنوات، فيما ظلت الأم مع أبنائها في الأردن.

كان زوج منار عاملًا، ولم يترك ميراثًا، حتى رصيده في الضمان الاجتماعي كان قد سحبه كاملًا قبل وفاته، بعدما ترك عمله في إحدى الشركات، محاولًا الوفاء بديون متراكمة. لكن، بعد وفاته حصلت منار على راتب من وزارة التنمية الاجتماعية قدره حينها 100 دينار، كما تلقّت مساعدات وكفالات مالية شهرية تصل إلى 350 دينارًا من جمعيات وأفراد من أجل رعاية الطفلين. ساعدتها هذه المبالغ على التكفل ببعض الالتزامات المعيشية، لكنها لم توقف اتصالات الدائنين ومطالباتهم بسداد الديون.

دفعت هذه الحالة منار للبحث عن جهات تقدّم قروضًا وتمويلات ميسرة، لعلّها تتدارك وضعها. ثم تمكنت أواخر عام 2018 من الحصول على قرضٍ بقيمة 3,300 دينار من إحدى شركات التمويل، سددت به معظم الديون السابقة، وقد ساعدها ما تتلقاه شهريًا من التنمية والمساعدات على الالتزام بدفع أقساط القرض البالغة 180 دينارًا شهريًا.

ثم حلّت جائحة كورونا عام 2020، فتوقفت المساعدات التي كانت تتلقاها من الجمعيات والأفراد، وتراكمت بالتالي فواتير الماء والكهرباء وإيجار المنزل، فضلًا عن أقساط القرض الذي اضطرت للتوقف عن سداده. وما كان منها إلا أن تركت منزلها وانتقلت للعيش مع والدتها وإخوتها في منزل يضم تسعة أفرادٍ لا معيل لهم إلا الوالدة، التي كانت تعمل خيّاطة بدخلٍ يوميّ لا يتجاوز أربعة دنانير.

ومع تأخرها في سداد أقساط القرض، بدأت شركة التمويل تطالبها بالالتزام ودفع المتأخرات تحت التهديد بالملاحقة القانونية، «صاروا يهددوا فيي عشان أجيب القسط، وأنا أصير أعيط»، فنصحتها جارةٌ لها أن تلجأ لـ«تكييش» الهواتف النقالة، «عرفت عن التلفونات من وحدة جارتنا، قالتلي خذيهم عشان ما تتبهدلي ولا تبهدلي أولادك»، تقول منار.

يحدث هذا التكييش من خلال البيع بالآجل، حيث يقوم المشتري (المقترض) بشراء سلعةٍ بالتقسيط –كالأجهزة الكهربائية مثلًا- وبسعر يفوق ثمنها الحقيقي، مع توقيع ضمانات للبائعكالشيكات والكمبيالات- تفوق قيمة الدين الحقيقي، ثم يبيع المشتري السلعة نقدًا بأقل من ثمن شرائها أو ثمنها الحقيقي.[1]

وهذا ما فعلته منار أول مرة عام 2020، حيث توجهت إلى محلٍ طالبةً شراء هاتف بمواصفات جيدة بالتقسيط، فعُرضَ عليها شراء واحدٍ مقابل 10 دنانير شهريًا، مع التوقيع على كمبيالة بقيمة 400 دينار. ولأنها لا تعرف الكثير عن الهواتف وأنواعها وأسعارها، وظنّت أن ثمن الهاتف قريب من قيمة الكمبيالة، وقّعت عليها فورًا. ثم توجّهت إلى محل آخر لبيع الهاتف لتُفاجأ بأن سعره لا يتجاوز 35 دينارًا. استفادت منار من هذا المبلغ في قضاء بعض احتياجات أسرتها، ثم تخلّفت عن سداد الدفعة الأولى من قسط الهاتف عندما حان موعدها، «بصراحة، ما سديت ولا دفعة من حقه، ما كان معي».

في البيع بالآجل، يشتري المقترض سلعةٍ بالتقسيط، بسعر يفوق ثمنها الحقيقي، مع توقيع ضمانات للبائع -كالشيكات والكمبيالات- تفوق قيمة الدين الحقيقي، ثم يبيع المشتري السلعة نقدًا بأقل من ثمن شرائها أو ثمنها الحقيقي للحصول على كاش.

بعد فترة احتاجت دفع 130 دينارًا لإيجار المنزل، ولم تكن قد جمعت المبلغ كاملًا، فلجأت مرة أخرى للبيع بالآجل؛ اشترت هاتفًا ثم باعته بقيمة 45 دينارًا، مع قسط شهري يبلغ 10 دنانير، وكمبيالة بمئات الدنانير. ثم مرةً ثالثةً بعدما طالبها دائن بدفعةٍ من دينٍ على زوجها، فاشترت هاتفًا ثم باعته بـ150 دينارًا، وبقسطٍ شهري يبلغ 40 دينارًا مع التوقيع على كمبيالة بقيمة 800 دينار.

حاولت منار ما أمكن سداد بعض أقساط هذه الهواتف، لكنها لم تتمكن من الالتزام بذلك. ثم عرفت بعد أشهر من شرائها أن المحلات كانت قد أقامت بحقها دعاوى قضائية تطالبها فيها بآلاف الدنانير، وأن أحكامًا صدرت بحقها، فضلًا عن المنع من السفر. وفي ظل عجزها عن دفع جزء من الديون أو تقسيطها، فإنه لا يحول بينها وبين الحبس الآن إلا أمر الدفاع القاضي بتأجيل تنفيذ قرارات حبس المدين.

لم تتمكن منار من الحصول على عمل يساهم في سداد الديون، ويساعدها على تلبية احتياجات أسرتها بما فيها إيجار المنزل وفواتير الماء والكهرباء المتراكمة، لدرجة أن الكهرباء فُصلت عنهم مؤخرًا ولم تتمكن من إعادتها إلا بعد الاستدانة من الأقارب، وهي الآن معرضة للفصل مرةً أخرى. وما زاد الأمر تعقيدًا في حصولها على عمل هو وجود دعاوى وأحكام قضائية بحقها، ما يعطل حصولها على ورقة عدم المحكومية التي يطلبها بعض أصحاب العمل.

تعيش منار الآن حالة من القلق والتشتت، فهي -من جهة- تترقّب مصير القضايا المرفوعة بحقها، وتفكر -من جهة أخرى- بالديون التي ما زالت تتراكم، فيما تشعر بالعجز عن تلبية احتياجات طفليها ومنحهما مساحة هادئة يمكنهما فيها التركيز على دراستهما.

ختامًا، جاء في مذكرةٍ قانونية صادرة عن مركز العدل للمساعدة القانونية (منظمة غير حكومية) حول حبس المدين المعسر أن البيع بالآجل، باعتباره شكلًا من أشكال القروض الشخصية، صار «ظاهرة خطيرة» تتم خارج دائرة الرقابة الاقتصادية للسوق المالي، وأن البائعين (الدائنين) في سعيهم للربح السريع والفاحش يقرضون المشترين من متدني الدخل غير القادرين على الحصول على قروض بنكية لعدم قدرتهم على توفير الضمانات اللازمة، خاصة النساء وبعض موظفي القطاع العام. ويمكن أن يضاف إليهم بعض العاطلين عن العمل أو الطلبة أو العمّال المهاجرين.

يُذكر أن الحكومة كانت قد أدخلت العام الماضي بعض التعديلات التشريعية على قانونيْ التنفيذ والعقوبات «لمواجهة ظواهر مؤرقة للمجتمع الأردني» من بينها تجريم الرّبا الفاحش، بحيث يعاقب بالحبس من شهرٍ إلى ثلاث سنوات، وبالغرامة من 200 إلى 500 دينار، كل من استغل ضعف شخصٍ فأقرضَه نقودًا أو باعه أشياءً بشكل يزيد على الحد الأقصى المقرر للفوائد الممكن الاتفاق عليها قانونًا، مع تغليظ العقوبة في حال التكرار.

  • الهوامش
    * اسم مستعار حفاظًا على خصوصية صاحبته.
    [1] إشكاليات حبس المدين المعسر وتوصيات مقترحة، مذكرة قانونية، مركز العدل للمساعدة القانونية، 2019، ص 3.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية