«الخاوات» في الزرقاء: غياب للردع أم للإصلاح؟

من أحد أسواق الزرقاء. تصوير أحمد سلامة

«الخاوات» في الزرقاء: غياب للردع أم للإصلاح؟

الخميس 16 كانون الثاني 2020

رغم أن معدلات الجريمة في محافظة الزرقاء، وفقًا للتقارير السنوية والإحصائيات الصادرة عن الأمن العام، أقل من محافظات ذات كثافة سكانية وشعبية كعمّان وإربد، إلّا أن موضوع الإتاوات، أو الخاوات حسب التسمية الشعبية، لا زال يشغل حيّزًا مهمًا من النقاش اليومي بين السكان وفي الأسواق. وهو الموضوع الذي يصفه البعض بالقديم، رغم أنه مع الوقت تعدّدت أشكاله وتغيّرت، بحسب تجّار من المدينة.

لغايات العمل على هذا التقرير، التقينا مجموعة من فارضي الإتاوات في الزرقاء، بعضهم سبق وحوكم في قضايا إتاوات واعتداء على الغير، وبعضهم انتقل من الإتاوات إلى المخدّرات والسلاح.

عادل* شاب ثلاثيني قضى سنوات متنقلًا بين فرض الإتاوات وتجارة الممنوعات، استهل كلامه مع معدّ التقرير بالقول إن سبب لجوئه لمثل هذه الممارسات هو كونها الخيار الأسهل. «أنا كنت بالجيش أربع سنين ونص، وتركت. هاظا 350 تسميه راتب؟ رحت دورت شغل وما لقيت، وبعدها كنت يا بالشوارع أو مسجون». يتفق مع كلام عادل صديقه أحمد*، ويقول إنه لجأ أيضًا للتهجم على بضعة محلات، وعبّر عن صعوبة وضعه المادي بأن وصلت حاله إلى أن يستدين «السيجارة».

ورغم أن الإتاوة مرتبطة بالأذهان بسلب المال بالإكراه، إلّا أنها تتعدّى هذا النمط البسيط إلى أشكال مختلفة، وبحسب محمد الدعجة، العقيد في البحث الجنائي، من بينها: تحصيل الأموال مقابل الحماية أو الحراسة، أخذ ما يريدون في سوق الخضار المركزي بالسعر الذي يضعونه بأنفسهم، تحصيل الأموال من الغير مقابل مبلغ أو نسبة، حماية النوادي الليلية، ابتزاز التجار والمستثمرين وتهديدهم بالشكوى، وغيرها من الأشكال. لكن في المقابل يرفض الدعجة وصف ما يحدث بالظاهرة، ويقول إنها لا تتعدّى كونها حالات فردية لا يمكن تعميمها، ويتم التعامل معها مباشرة حالة بحالة. 

التجار وفارضو الإتاوات

يعمل إبراهيم* مديرًا لأحد المطاعم في الزرقاء، يقول إن أبرز ما يلاحظه في منطقته هو وجود شوارع يقوم عليها أحد فارضي الإتاوات بالكامل تقريبًا. أمّا كيف تنشأ العلاقة بين فارض الإتاوة والتاجر، فيقول إبراهيم إنها تبدأ بمرحلة جس النبض والتجريب: «بيجي عندك بجربك مرة مرتين، إذا شافك سكتت رح يتمادى».

زيد* مالك مطعم اختار مقاومة التهديد والاعتداءات ورفض دفع أي مبلغ لأحد، يقول إن فارضي الإتاوات بعدها «صاروا ييجوا واحد ورا الثاني، ويدخلوا ناس وساطات يقولوا لي ادفعلهم، وأنا ما بدفع غصبٍ عني». لاحقًا، وبحسبه، جرى تكسير الواجهة الأمامية لمطعمه ولسيارته، ثم بدأوا بترهيب الزبائن عبر افتعال المشكلات علنًا في وسط السوق، لينخفض على إثر هذا مدخول المطعم بشكل كبير. ويروي أنهم انتقلوا لتهديد موظفيه، ولم يبقَ منهم سوى ربع الموظفين فقط بعد أن كان المطعم يعيل أكثر من عشرين أسرة. «ضلينا سنة سنة ونص وإحنا نكابر. حكوا معي إخواني الكبار قالوا لي سكّره والله غني عنه. المحل كلفني 75 ألف، خسرتهم كلهم، هيو مرمي وقاعد بدفع إيجاره».

شكل آخر لهذه العلاقة هو أن يلجأ بعض التجّار لفارضي الإتاوات. يقول العقيد الدعجة إن أحد أسباب تراكم المشكلة هم التجار أنفسهم، حين يستخدمون فارضي الأتاوات أو يدفعون لهم ويشجعونهم على الاستمرار. بعض من قابلناهم خلال إعداد هذا التقرير كانوا يستسيغون هذا الحل، ويرونه أهون الشرّين. وهو الحل الذي لجأ له صاحب المطعم الذي يعمل فيه إبراهيم، بعد تقديم الأخير لاستقالته. حينها، قرّر صاحب المطعم دفع ما يطلبه فارض الإتاوة. «خلال فترة خمس سنين كنت واقف للمحل، واللي ييجي أصده، بعدين تعبت (..) فصاحب المحل حلّها ودّي مع الأزعر ودفعله لمدة ست أشهر». وهذا ما يؤكده زيد الذي يقول «في مطاعم هون بحكيلك أنا بعطيه 150 وبِحمي محلي، بدل ما كل يوم واحد يجيني».

يقول عادل، وهو صاحب أسبقيات قضى محكوميته وخرج، إنه سبق وطَلب منه تجّارٌ تحصيل بعض ديونهم بالقوة. «كان زلمة وده من الثاني 64 ألف شيكات، جبتله إياهن بالتهديد وأخذت منهم 32 ألف».

ويروي مروان، الذي شهد لقاءنا مع فارضي الإتاوات، أن أحد التجار في منطقته، عندما كثرت الاعتداءات على محلّه، لجأ إلى أحد الشباب العاطلين عن العمل وأعطاه راتبًا شهريًا لإبعادهم. «هذول التجار ييجي عليهم 20 واحد باليوم يتهجّم، فالتاجر يجيب شب من اللي عندهم فتوّة، وممكن يمون على الشباب. التاجر بعطيه 150-200 وبكفيه شرهم».

لجوء بعض التجّار لطلب مساعدة فارضي الإتاوات يطرح سؤالًا حول سبب ابتعادهم عن الشكوى للجهات الأمنية، خاصة وأن الامن وبحسب مديرية الأمن العام يقوم بحملات مستمرّة لتشكيل رادع أمني. يجيب على هذا السؤال عادل ساخرًا: «وده يروح يشتكي؟ أضرب حالي وأقول للضابط سيدي ضربني وضربته، وتروح شكوى بشكوى، يعرف لحاله إنه ما في فايدة».

الباحث وسام الهزايمة يرى أن هناك تناقضًا حقيقيًا تمثّله ظاهرة الإتاوات في الزرقاء، وتحديدًا في مجمع الباصات حيث يتركز عدد كبير من فارضي الإتاوات، وفي الوقت نفسه توجد نقطة للشرطة على بوابة المجمع، ومركز شرطة مقابله، «فالدولة شايفة وعارفة شو بصير داخل المجمع، ولم يخفَ عليها».

يقوم بعض فارضي الإتاوات بإكراه التجار على بيعهم بالأسعار التي يريدون. تصوير أحمد سلامة.

بين العقوبة والتأهيل

عاطف فلاح، عضو مجلس بلدية الزرقاء، يرى أن أساس المشكلة اقتصادي، ويلفت إلى أن شكل فارضي الإتاوات تغيّر اليوم عن السابق، «زمان كانت زعرنة مش جوع». ويرى الهزايمة أن الدولة يجب أن تكون منطلقًا للعملية الإصلاحية، وأن الحل لا يمكن أن يكون بعقوبة السجن فقط، وهو ما يفقد هذا الحل معناه الإصلاحي.

في المقابل، استطاع بعض فارضي الإتاوات تشكيل ما يشبه حاضنة شعبية حولهم. يقول خالد، وهو الشاب الذي ساعدنا في تنسيق المقابلات مع فارضي الإتاوات، إن بعض فارضي الإتاوات المعروفين على مستوى الزرقاء سبق لهم تقديم مساعدات لبعض أهالي المدينة: «بيوزعوا كاز بالشتا، و يصرفوا على حارتهم كاملة من ورا الإتاوات».

وأخطر ما في الأمر حسب وصف أحمد أبو خليل، الباحث في اقتصاد الفقر، أن هذه الفئة تصبح نماذج لغيرها الأصغر سنًا، إذ يقول إن «الشخصيات اللي بكون عندها لله تشكل نماذج وقدوات للأطفال».

يقول الناطق الإعلامي باسم مديرية الأمن العام، المقدم عامر السرطاوي، إن للجهاز دورًا استخباريًا كفيلًا بضبط فارضي الإتاوات، واتخاذ أقصى العقوبات المشدد بحقهم. أمّا الدعجة فيقول إنه عادةً ما يتم تحويل فارضي الإتاوات إلى الحاكم الإداري للتعامل معهم، وأن المعالجة تتم عن طريق الاستخبار والتحرّي، وبتفتيش مستمر على الأسواق لإظهار أن الدولة موجودة، وأن أي إجراء انتقامي من فارض الإتاوة بحق التاجر يتم النظر إليه على أنه استقواء على الدولة ويتم التعامل مباشرةً معه.

لا تتوافر أرقام تعلمنا بمقدار الضرر الواقع على التجار وعلى الاقتصاد المحلي بسبب الإتاوات، لكن ربما يمكن قياس خطورة الموضوع من خلال النظر إلى ما أشار الناطق باسم الحكومة، في شباط 2018 وهو أن هنالك توجّهًا لتحويل فارضي الإتاوات إلى محكمة أمن الدولة، لحماية الاستثمار.

يبدو جليًا من خلال النظر إلى تعاطي الحكومة مع فارضي الإتاوات أن هذا التعاطي ليس منطلقًا من دراسات اجتماعية واقتصادية، وأن هناك غيابًا لسياسات طويلة الأمد، وللخطط الاستراتيجية التي يتقاطع فيها الحل الأمني مع غيره من الحلول القانونية والاقتصادية.

أحد أشكال فرض الإتاوة ابتزاز التجار والمستثمرين وتهديدهم بالشكوى. تصوير أحمد سلامة.

ويتجلّى هذا في وجود عراقيل أمام إعادة إدماج من قضوا محكوميّاتهم وخرجوا، فيخرجون محمّلين بعوائق اجتماعية وقانونية، فلا يمكنهم الحصول على وظيفة حكومية بطبيعة الحال، ولا يمكن أن يستصدروا شهادة «عدم المحكومية» التي تطلبها المؤسسات للعمل فيها، والتي تحتاج من ثلاث إلى خمس سنوات ليتاح استصدارها باختلاف القضية. 

يقول عادل: «يا عمي الخلاصة، يفتحولنا باب التوظيف ويشغلونا وما يرجعوا يشوفوا لا همالات ولا مخدرات (…) أنا هسه لو ألاقي وظيفة، [يحرم] علي أمشي بالحرام». أمّا عضو المجلس عاطف فلاح فيقول إن لهم تجربة في بلدية الزرقاء بتشغيل بعض أصحاب السوابق، وإنه قد يكون حلًا مؤقتًا لأحد العوامل. «أنا بعرف ناس كانوا يوخذوا إتاوات، صحتلهم فرصة عمل بدوائر شبه حكومية زي البلدية، سلك وترك الزعرنة حتى لو شو ما كان الراتب».


* تم تغيير أسماء فارضي الإتاوات وأصحاب المحال الذين تم الحديث معهم خلال العمل على هذا التقرير حفاظًا على خصوصيّتهم.

هذا التقرير جزء من مشروع «عيون» للصحافة المحلية الذي تنفذه حبر وشبكة إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية (أريج).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية