بحّارة جسر الملك حسين: اقتصاد هامشي يجتاز ثلاثة معابر

الأحد 19 حزيران 2022
بحارة جسر الملك حسين
تصميم محمد شحادة.

بدأت ملامح القلق والتوتر تظهر على عزيز* الثلاثينيّ مع وصوله إلى الشونة الجنوبية** واقترابه من جسر الملك حسين، وهو ينوي تجاوز ثلاثة معابر حدودية محمّلًا بسلعٍ وبضائع أخفاها في أمتعته، من أجل نقلها وبيعها في الضفة الغربية. 

عزيز واحدٌ من عدة أفرادٍ ومجموعاتٍ يهرّبون بضائع، مثل الدخان والمعسل وحليب الأطفال، من الأردن باتجاه الضفة الغربية، لتحقيق أرباحٍ من ارتفاع أسعار بعض السلع في الأسواق الفلسطينية مقارنة مع الأسواق الأردنية، في نشاط يسمى «التبحير» أو «تجارة الشنطة»، وعادة ما تتراوح أرباح الرحلة الواحدة بين 120 و150 دينارًا. يقوم عزيز حاليًا برحلة -أو اثنتين أحيانًا- كل أسبوع أو 10 أيام، لكنه كان قبل جائحة كورونا يقوم برحلة كل يومين تقريبًا. 

وكانت رحلات التهريب هذه عمومًا قد ازدادت قبيل الجائحة، لكنها تراجعت بعدما أغلقت الحكومة الأردنية الحدود البرية، ومنها جسر الملك حسين، في آذار 2020، منعًا لتفشي الوباء. وعندما أعلنت عن فتح بعض المعابر في تشرين الأول من العام نفسه، فرضت إجراءات صحية تتطلب إجراء فحوصات كورونا (PCR) والتسجيل المسبق على منصة «Visit Jordan» مع تحديد أعداد المسافرين عبر الجسر (من 500 مسافر أسبوعيًا في آذار 2020 إلى ألفي مسافر في آب 2021). وبحسب عزيز فقد حالت هذه الإجراءات، فضلًا عن التشديدات الجمركية التي تفرضها الجمارك الفلسطينية والإسرائيلية، دون إتمام رحلات «التبحير» وتحقيق عائد ماديّ مُجدٍ للبحّارة.

التأقلم مع الظروف الجديدة

يسكن عزيز في محافظة طولكرم شمالي الضفة الغربية، وهو يعمل في التهريب منذ ثمانية أعوام بشكل شبه منتظم، ويعتمد عليه مصدرًا رئيسيًا للدخل. في البدايات، حقّق له هذا النشاط مردودًا ماليًا مرتفعًا نظرًا لقلة العاملين فيه، وبالتالي عدم تشديد أجهزة الجمارك إجراءات الرقابة والتفتيش كما يقول. ويتذكر أنه في إحدى رحلاته قبل كورونا كان في عمّان برفقة خطيبته، فتوجّها إلى الشونة الجنوبية ظهرًا، وهرّبا في حقائب الملابس حوالي 20 كغم من معسّل «النخلة» إلى الضفة الغربية، قبل العودة إلى عمّان في اليوم نفسه.

صار من شبه المستحيل على عزيز أن يقوم برحلة كهذه بعد جائحة كورونا، فبعد أن أوقفت الإجراءات الصحية وإغلاقات الحدود كثيرًا من البحّارة عن العمل، ازدادت مخاطر التعامل مع الجمارك التي تشكل التحدي الأول لعزيز، إذ من السهل على موظفي الجمارك التعرّف عليه لأنه يمارس نشاطه هذا باستمرار: «هالأيام عدد المسافرين قليل والجمارك قاعدينلنا»، يقول عزيز.

لذا، خفّض عزيز من عدد رحلاته إلى رحلة واحدة كل أسبوع أو 10 أيام، كما غيّر طريقة عمله، حيث كان يعتمد سابقًا على تهريب كميات كبيرة من الدخان والمعسّل فقط، وعادةً ما يشتريها من الشونة الجنوبية ويبيعها لتجارٍ في أريحا. لكنه صار حاليًا يخفّض كمية البضائع الملاحقة بشدّة من الجمارك، كالمنتجات التبغية وحليب الأطفال، ويعوّض الفارق بسلعٍ أخرى مثل الكريمات والعطور التي يطلبها معارفه، إضافة إلى الطرود والهدايا التي يحملها من الضفة إلى الأردن وبالعكس، ليتجنب بذلك أي خسارة قد تلحق به إذا ما صودرت المنتجات التبغية.

في واحدة من رحلاته مؤخرًا حمل عزيز معه من الضفة تنكتيْن من زيت الزيتون لعائلة في عمّان، وهي الكمية المسموح بها لدى الجمارك الأردنية، كما نقل وثائق وجوازات سفر لعائلة أخرى، إضافة إلى بضعة طرود احتوت مواد تموينية، منها بزر وزعتر وحلاوة وشوكولاته، لصالح محل متخصص ببيع البضائع الفلسطينية في عمّان.

يرتبط بـ«التبحير» عبر جسر الملك حسين أنشطة اقتصادية هامشية أخرى في الأردن وفلسطين. فإلى جانب توفير السلع المطلوبة والوساطة لنقل الأمانات، يعمل بعض الأشخاص في نقل الركاب بأجر أقل من الذي تطلبه التكاسي العمومية.

غطّى نقل هذه البضائع تكاليف رحلته من الضفة إلى الأردن، فقد حصل عزيز على 130 دينارًا، دفع منها حوالي 100 دينار لقاء فحوصات كورونا وضرائب السفر وإكراميّات العتّالة، إضافة إلى أجرة المواصلات فهو لا يمتلك سيارة خاصة ويتنقل بوسائل النقل العام. وفي رحلة العودة إلى فلسطين، حيث من المتوقع أن يخضع لتفتيش جمركي دقيق، حمل 4 كغ من المعسّل و4 كروزات دخّان وزّعها على عدة حقائب، إلى جانب حقيبة سفر لعائلة فلسطينية كانت محتجزة في مطار الملكة علياء، وبعض الهدايا والعطور وكريمات البشرة، إضافة إلى عدة طرود من ضمنها قطع سيارات صغيرة الحجم لصالح ميكانيكي في الضفة الغربية.

منعته الجمارك الأردنية من نقل قطع السيارات إلى الضفة، كما منعته من العودة بها خارج مبنى الجسر لأن الأمن العام وضع ختم الخروج على جواز سفره، فاستعان عزيز بعتّال يعرفه لإخراج القطع من الجسر وتسليمها لسيارة نقلٍ أعادت القطع مقابل أجرٍ إلى صاحبها في عمّان. وفي كل الأحوال حصل عزيز من رحلة العودة على 300 دينار من أرباح التبغ ونقل الطرود والهدايا والحقيبة المحتجزة، دفع منها ما يقرب من 60 دينارًا لقاء أجور نقل ومواصلات. ليجني من هذه الرحلة، ذهابًا وإيابًا، ربحًا قدره حوالي 270 دينارًا، وهو ما يحصّله تقريبًا في كل رحلة من الرحلات الأربعة أو الخمسة التي يقوم بها خلال الشهر.

أثناء هذه الرحلة، رفض عزيز طلبَ امرأةً -تبدو في الخمسينات من عمرها- سألته عند جسر الملك حسين أن يحمل لها ثلاثة كروزات دخان إلى استراحةٍ في أريحا حيث ستلتقي به، هي أو شخص آخر، لأخذ الدخان مقابل مبلغ من المال. ظنّت السيدة أن عزيز مسافر عادي وأرادت أن تهرّب معه الكمية المسموح بها ليعبر بها نقاط التفتيش الفلسطينية والإسرائيلية.

يقول عزيز إن هذه إحدى الطرق التي يتّبعها بعض «التجّار المحروقين»، كما يسميهم زملائهم، وهم بحّارة يعتمدون في عملهم على تهريب المنتجات التبغية فقط، فلا ينوّعون البضائع كما يفعل عزيز، كما أنهم معروفون لدى أجهزة الجمارك، وللتغلب على هذه المشكلة فإنهم يشترون كميات كبيرة من المنتجات التبغية، ثم يوزعون جزءًا منها على بعض «الشيّالة» كما يسمونهم، أي المسافرين العاديين ممن ليس بحوزتهم تبغ، ويستردّونها منهم بعد تجاوز الحدود مقابل مبلغ مالي أحيانًا. لا يفضّل عزيز هذه الطريقة لأن «فيها وجع راس ودواوين كثير» كما يقول، فقد يُفقد الاتصال بـ«الشيّال» أو لا يسلّم البضاعة في أريحا كما هو متفق عليه.

ومن الطرق الأخرى التي يتبعها البحارة «المحروقين» إخفاءُ بضائع التبغ في مخابئ خاصة كانوا فصّلوها داخل حقائب سفرهم عند الخياطين. كما أنهم يوظّفون أحيانًا أشخاصًا غير معروفين للجمارك وحديثي العهد بالتهريب، يلقبونهم بـ«السّنافر». من بين هؤلاء أمجد* وهو شاب عشرينيّ من سكان محافظة الخليل، يقول إنه يعمل مع مجموعة من 10 أشخاص لصالح أحد البحّارة، لأنه لا يملك الخبرة الكافية للعمل منفردًا، كما لا يملك رأسمال يمكّنه من شراء البضائع أو تحمّل خسائرها في حال ضبطها. وبحسبه فإن مُشغّلهم يدفع  لكل منهم 100 دينار مقابل الرحلة الناجحة، و20 دينارًا في حال فشلها وضبطها من الجمارك، كما يتكفّل بنفقات السفر في كل الأحوال.

بعض البحّارة يتبعون طريقة مختلفة، حيث يجتازون التفتيش الأمني الإسرائيلي، وهو تفتيش يركز على المواد الخطيرة أمنيًا فقط، ثم يخفون منتجات التبغ في ملابسهم التي يرتدونها قبل أن يخضعوا لتفتيش الجمارك الإسرائيلية التي تعترض بعض المسافرين عشوائيًا وتفحص حقائبهم بجهاز أشعة إكس، وتُخضع من تتعرف عليه من المهربين لتفتيش جسدي. وإذا ضبطوا لدى المسافر أكثر من كروز دخان أو كيلو ونصف من المعسل فإنها تصادر كل كميات التبغ من المسافر.

أما عند الحدود الفلسطينية، فلا يوجد تفتيش أمنيّ للحقائب، إنما جهاز أشعة إكس فقط لدى الجمارك الفلسطينية، حيث تختار المسافرين عشوائيًا، لكن بأعداد أكبر مقارنة مع الجمارك الإسرائيلية، وتسمح لكل مسافر بحمل كروزيْن من الدخان أو كيلو من المعسّل، وقد تتساهل أحيانًا فتسمح بثلاثة كروزات لمن مضى على سفره أسبوعين، ولم تتعرّف عليه كتاجر شنطة.

وتعدّ الجمارك الفلسطينية الأكثر تشديدًا على نشاط البحّارة نظرًا لخسائرها التي تصل إلى ملايين الدولارات من الضرائب المفروضة على هذه المنتجات، والتي يحاول المواطن الفلسطيني تجنّبها، أو جزءًا منها، بشراء منتجات مهرّبة مقابل سعر أقل. مثلًا، يصل سعر بعض السجائر المجمركة في الضفة الغربية إلى خمسة دنانير ونصف، فيما يبلغ سعر المهرب منها أربعة دنانير.

يقول عزيز إن بعض البحارة كانوا يهرّبون بضائعهم سابقًا قبل الوصول إلى الحدّ الفلسطيني، حيث ينقلون بضائعهم بعد التفتيش الإسرائيلي عبر طريق التفافيّ يخضع للسيطرة الإسرائيلية، وبمساعدة سائقي تاكسي تحمل سياراتهم لوحات إسرائيلية ويتواجدون على الجانب «الإسرائيلي» من الحدود لنقل أهل القدس القادمين من الأردن دون المرور بالجانب الفلسطيني، ويتفق السائقون مع البحّارة على الالتقاء في «مناطق سي» حيث تمنع «إسرائيل» دوريّات أجهزة السلطة الفلسطينية من التواجد فيها. لكن سلطات الاحتلال فرضت رقابة شديدة وعقوبات على السائقين، منها فرض غرامات مالية كبيرة وإيقافهم عن العمل لمدد متفاوتة، ما عطّل هذه الطريقة على البحّارة، وإن كان بعضهم ما زال يعمل من خلالها، سيّما شباب القدس، أو عبر الاستعانة بالعتّالة العاملين على الجانب «الإسرائيلي» حيث يقوم هؤلاء بإيصال بضائع البحّارة إلى سائقي التاكسي مقابل مبلغ مالي.

يُذكر أن البحّارة يشترون منتجات التبغ بشكل أساسي من المنطقة الحرّة الأردنية، فيشتري منها عند قدومه إلى الأردن الكمية المسموح بها (كروز دخان وكروز معسل)، ثم يشتري منها عند العودة إلى فلسطين كميات كبيرة لا تعترض عليها الجمارك الأردنية.

لكن بعض البضائع التي يحتاجها البحّارة لا تتوفر أحيانًا في المنطقة الحرة، خصوصًا معسل النخلة الأحمر الذي يُصنّع في مصر، ويُمنع بيعه في الأسواق الأردنية، فيشتريه البحّارة من محلّات في عمّان حصلت عليه بدورها عبر «التبحير» من مصر أو من خلال بعض موظفي شركات الطيران. كما يحصل البحّارة أحيانًا على بضائعهم من بعض أهالي الشونة الجنوبية الذين يوفرون لهم ما يطلبونه من سلعٍ كالدخان والمعسل وحليب الأطفال والكريمات والعطور، ويعملون أيضًا كوسطاء لأفراد يريدون نقل أماناتٍ من الأردن إلى فلسطين وبالعكس.

مستفيدون على هامش «التبحير»

يرتبط بـ«التبحير» عبر جسر الملك حسين أنشطة اقتصادية هامشية أخرى في الأردن وفلسطين. فإلى جانب توفير السلع المطلوبة والوساطة لنقل الأمانات، يعمل بعض الأشخاص في الشونة الجنوبية، بحسب عزيز، على نقل الركاب من الشونة إلى عمّان وباقي المحافظات في سياراتهم الخصوصية بأجر أقل من الذي تطلبه التكاسي العمومية. وهؤلاء السائقون ليسوا معروفين للمسافرين العاديين لأنهم لا يعرضون خدماتهم على الجميع تجنبًا لمخالفات السير، لكن يتواصل البحّارة معهم هاتفيًا للالتقاء بعيدًا عن مواقف السيارات وأعين الشرطة المنتشرة في المكان.

ويستعين عزيز، وبحّارة آخرون، خصوصًا عندما يرغبون بالعودة إلى الضفة في اليوم نفسه، بخدمات هؤلاء السائقين لتوصيل الطرود والأمانات إلى أصحابها في المحافظات الأردنية مقابل خمسة دنانير عن كل طرد، حيث يجمع السائق عادة 10 إلى 15 طرد وينقلها مرة واحدة حتى يكون عملهم مجديًا ماليًا. علمًا أن البحارة أحيانًا ينقلون بعض الطرود بأنفسهم توفيرًا لأجرة التوصيل.

يشتري البحّارة منتجات التبغ بشكل أساسي من المنطقة الحرّة الأردنية، فيشتري منها عند قدومه إلى الأردن الكمية المسموح بها (كروز دخان وكروز معسل)، ثم يشتري منها عند العودة إلى فلسطين كميات كبيرة لا تعترض عليها الجمارك الأردنية.

على الجانب الآخر، يقف أحيانًا بعض التجار الفلسطينيين بالقرب من صالة القادمين منتظرين انتهاء المسافر من كافة الإجراءات الحدودية في أريحا، ليسألوه: «معك دخان للبيع؟»، فإذا كانت الإجابة نعم، اتفقوا على الالتقاء في استراحة تبعد مئات الأمتار عن قاعة القادمين حيث يلتقي معظم البحّارة والتجار.

أحمد* تاجر ثلاثينيّ من محافظة الخليل، كان متواجدًا في أريحا لشراء منتجات التبغ من البحّارة، يقول إنه ينقل البضاعة إلى محلات في الخليل اتفق مع أصحابها مسبقًا على توفير هذه المنتجات، وبحسبه يتواجد في أريحا تجّار من مختلف محافظات الضفة.

إضافة إلى ذلك، يستفيد مالكو وسائل المواصلات من التبحير، إذ ينقلون أحيانًا أمانات وطرودًا إلى أصحابها في مختلف المحافظات الفلسطينية مقابل مبلغٍ من المال.

يشعر عزيز، وبحّارة آخرون، بتفاؤل كبير بعد تخفيف قيود السفر من قبل الأردن، وتمديد ساعات عمل الجسر، وبالتالي تزايد أعداد المسافرين بين البلدين، قائلًا إن تزايد الأعداد يشتت أفراد الجمارك الفلسطينية والإسرائيلية، خصوصًا مع تزايد حركة العائلات والمجموعات السياحية، ما يعني تناقص احتمالات تعرّض البحارة للتفتيش، يقول: «لما تكون الحدود مليانة وفيها كثير مسافرين غير عن لما تكون لحالك أو حواليك كم واحد، هسّة الشغل راح يزيد، والبحارة اللي كانوا قاعدين بسبب التشديدات رح يرجعوا».


* أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية أصحابها.

** تنويه: ورد في نسخة سابقة من هذا التقرير ما يفيد بأن جسر الملك حسين يقع في الشونة الشمالية، والصحيح أنه يقع في الشونة الجنوبية، وعليه تم تصحيح الخطأ.

أنتجت هذه القصة ضمن فترة الدراسة في الأكاديمية البديلة للصحافة العربية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية