كعك وبيض: باعة يوقظون المدن

بسطة كعك وبيض في شارع الشابسوغ في عمّان. تصوير مؤمن ملكاوي.

كعك وبيض: باعة يوقظون المدن

الأربعاء 13 كانون الثاني 2021

ما زالت الطريقة القديمة التي تمتدّ منذ عشرات السنوات تحكم صناعة الكعك والبيض في بعض مخابز عمّان المختصّة بهذا النوع من الكعك، إذ يقول مشتغلون في هذه الصناعة التقليدية إن تغيّر الطريقة يغيّر الطعم. رغم ذلك، شهدت مدن أخرى مثل الزرقاء وإربد نسخًا معدّلةً من هذه الوجبة.

يبدأ عالم هذه الصناعة ليلًا وينتهي في ساعات الفجر الأولى، حين تؤمّن المخابز الباعة الجوّالين بخبز الكعك ثم تغلق أبوابها، ليبدأ بعدها انتشار البسطات الثابتة والعربات المتنقلّة في الشوارع قبل أن تشرق الشمس، فثمّة زبائن مبكّرون جدًا في خروجهم، وآخرون ساهرون عائدون إلى بيوتهم.

مع دخول حظر التجوال بأشكاله المختلفة لمواجهة انتشار فيروس كورونا المستجد، تغيّر دوام المخابز وتغيّر معه دوام الباعة. ورغم ذلك، لا تكاد تخلو الطرقات منهم، إذ لا بدائل للخارجين بعد الفجر بقليل: «كعكة عليها رشّة زعتر»، يطلب مسافرٌ بين مدينتين فجرًا من بائع على إحدى هذه العربات.  

فمن أين أتت هذه الوجبة لعمّان، وكيف يُصنّع هذا الكعك ويُحضّر البيض؟ وما النسخ المعدّلة على هذه الوجبة في إربد والزرقاء؟ ولماذا ما زالت وجبةً مفضلّةً للكثيرين؟ وكيف واجه الباعة الحظر هذه الأيّام لمواصلة عملهم؟

كعكة من أيّام المدارس

تحكم صناعة خبز الكعك تقاليد تمتدّ لعشرات السنوات، يقول عاملون فيها إنها مأخوذة عن المخابز القديمة في الخليل والقدس، جاء بها اللاجئون بعد النكبة والنكسة. يعرف أهل هذه الصناعة أنَّ أي تعديل على طريقة التحضير سيغيّر الطعم، لذا لم يعدلّوا كثيرًا عليها؛ فبيت النار حجريّ، وأرضيّته مشيّدة من عدة طبقات؛ طبقةٌ من الزجاج، وأخرى من الملح ثم طبقة أخيرة من البلاط الحراريّ.

بيت النار الحجري في مخبز صلاح الدين، ويظهر علي الزريقي أثناء عمله.

تَستخدم هذه المخابز الكاز وقودًا لبيت النار، لكونه الأنسب لعمل هذه النوع من الكعك. فيما يكون شكل بيت النار مصنوعًا بشكل يحافظ على توزيع الحرارة داخله «تعلمناها من الختايرة؛ الفتحتين فوق لحفظ الحرارة بالسقف، واللي تحت لحفظ الحرارة تحت»، يقول علي الزريقيّ، العامل في مخبز صلاح الدين، أحد أقدم هذه المخابز في عمّان.

تُصنع الكعكة من الطحين دون إضافة المحسّنات؛ كالحليب مثلًا، وتُرشُّ العجينة قبل وضعها في بيت النار بالسمسم الذي يُفضّل، كما يقول الزريقي، أن يؤخذ من الكيس إلى الكعكة مباشرة دون نقعه بالماء حتّى يبقى طعم زيت السمسم على الكعكة. 

أثناء هذه العمليّة التي يعدّ فيها الكعك، وداخل بيت نارٍ آخر يجري تجهيز البيض شويًا، يوضع في صناديق معدنيّة مملوءة بنشارة الخشب؛ طبقة نشارة ثم طبقة بيض، وهكذا حتى يمتلئ الصندوق، ثم يُغلق عليه ويوضع في بيت النار، حيث يشوى البيض على الحرارة ما بين أربع إلى خمس ساعات.

البيض المشوي في الصناديق المعدنية وسط نشارة الخشب، مخبز صلاح الدين.

يتذكّر عبد الإله الحموي، نقيب أصحاب المخابز والحلويات، والذي ينحدر من عائلة عملت في المخابز منذ عشرينيات القرن الماضي، أن شوي البيض كان يتمّ قديمًا داخل تنكة محشوّة بالقش، قبل أن تجري التعديلات عليها. يوضح الزريقي لماذا الشوي بدلًا من السلق: «لا إله زنخة، ولا إله ريحة، وببقى لونه من جوّا بيختلف، أحمر مشوي، المسلوق بطلع لونه أبيض، وبس يتقشّر بيطلعله ريحة».

يبدأ عمل هذه المخابز منتصف الليل، ومع ساعات الفجر عندما تنتهي من تأمين الباعة الجوّالين، الذين يُطلَق عليهم كذلك لقب «الحَمّيلة»، بالكعك والبيض يُغلق معظمها أبوابه، فيما تواصل مخابز أخرى -لا تتعامل مع الحميّلة- البيع المباشر للناس، ثم ينتشر الباعة في مناطق محدّدة حاملين فُرش الكعك على رؤوسهم.

لا معلومات متوفرّة عن عدد المخابز الحجريّة المختصّة بهذا النوع من الكعك في عمّان لدى نقابة أصحاب المخابز والحلويات، لكنّها قليلةٌ وتتركّز في جبل الحسين، كما يقول الحمويّ.

نزولًا من جبليْ القلعة والحسين إلى وسط المدينة حاملين فُرش الخشب المسترجعة للمخابز، يسابق باعة الكعك والبيض الدفعة الأولى من الزبائن، وهم الخارجون من صلاة الفجر. «بروح على المخبز بحمّل الكعكات وبظلني نازل بحملهن على راسي»، يقول أبو جزرة، كما يُعرف لدى أصحاب المحلّات المجاورة للجامع الحسيني منذ 35 سنةً تقريبًا. بعد تطبيق الحظر الليلي تغيّر موعد قدوم أبو جزرة قليلًا: «لو مفيش شرطة بنزل على الخمسة».

أما الستينيّ عادل العشيبي فيأخذ طريقًا آخر تعوّد عليه منذ سنوات، إذ لا يدخل بائع على مناطق بائع آخر، يحمّل الكعك على رأسه من جبل القلعة وينزل إلى حيث إشارات شارع الأمير محمّد، ويصل الساعة السابعة ويبقى حتّى التاسعة صباحًا، يبيع هناك لزبائن عشوائيين، يتحرك بعدها ببطء: «بوخذ العرباي، وأطلع لفوق، لأول شارع وادي صقرة».

أبو جزرة يبيع الكعك والبيض على بسطته.

يلتزم أبو جزرة بالطريقة القديمة؛ كعك وبيض وجبنة، فيما عدّل العشيبي الطريقة لتواكب ما يطلبه الزبائن؛ تحوي عربته إضافة إلى البيض والكعك، على بندورة وخيار ومرطبان شطة، وكيس فلافل، وجبنة أيضًا. «ما كنا نعرفها بالزمانات [بس] كعك وبيض، جبنة وكعك»، يقول العشيبي عن طلب بعض الزبائن إضافة الخضار والفلافل والجرجير إلى الكعك.

تبدأ محال وسط البلد بفتح أبوابها عند التاسعة صباحًا، ويستعين العاملون في تلك المحال بالكعك والبيض على قضاء ساعات عملهم الطويلة، كل بائعٍ له زبائن من أصحاب المحال، يقول ماجد أبو الجمال، مالك أحد المحال المجاورة لبسطة أبو جزرة، إنه يأكل الكعك كوجبة فطور أو بعد المغرب، يداوم أبو الجمال منذ الساعة التاسعة صباحًا وحتى التاسعة مساءً، «بحط فيها جبنة وزعتر، إذا بكون جيعان كثير بوكلها مع جبنة وبيضة».

مع الظهيرة، يُنهي العشيبي عمله ويعود لبيته في جبل الأمير فيصل. فيما يبقى أبو جزرة في مكانه يبيع أصحاب المحال المجاورة والمارين وسائقي سيارات السرفيس والتاكسي. عند الغروب تخفّ الحركة، يبدأ بعض المواطنين بطلب الكعك لغايات أخذها ووضع الكنافة فيها كما يفعل أبو الجمال. ومع صلاة العشاء يعود أبو جزرة لبيته، لكن للعمر ضريبة، ففي بعض الأيّام تخونه قواه. 

عادل العشيبي أمام بسطته في وادي صقرة.

يتذكّر الحموي أنه كان يفضّل في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي هذه الكعكة كوجبة إفطار، إذ كانت المدارس تؤمّن هذا النوع من الكعك للطلبة في مقاصف المدرسة، أو يقف الباعة أمام المدارس في الفرصة ويصيحون على الطلبة مع مدّ الجملة المشهورة: «كعكة وبيض»، رغم أن والده وجده من قبل كانا يملكان مخبزًا للخبز العربيّ. صارت هذه الوجبة ذاكرةً لبعض كبار السنّ، منهم عمر العلاونة الذي يطلب كعكة وبيضة وجبنة خمس مرات في الأسبوع، قبل التوجه لعمله، «تقليد، [من] وإحنا صغار بالمدارس».

قبل دخول جائحة كورونا وحظر التجوال، كانت المخابز المختصة بصناعة هذا النوع من الكعك والبيض، والتي تبيع للناس مباشرة، توفر هذه الوجبة على مدار الساعة، فوج الزبائن الأول من المصلين الخارجين من صلاة الفجر، ثم سائقو سيّارات وباصات النقل العموميّ، بعدها فوج الموظفين، فالعائلات، ثم المارّة، بعد المغرب، وفوج الخارجين للسهر من الشباب، ثم تهدأ الحركة، «وبتبلش تبعين النوادي [الليلية]، بيضلوا هذول تقريبًا للساعة أربعة الصبح متقطعين، كل أكم ساعة بتكون عارف مين الجماعة اللي جايين»، يقول الزريقي. مع دخول الحظر الليلي وقبله الحظر الشامل، انخفضت مبيعات المخبز الذي يعمل فيه الزريقي إلى النصف، وقلّت أعداد الزبائن الليليين.

محتويات عربة عادل العشيبي.

إربد والزرقاء: نسخ معدّلة

ليس في المدينتين مخابز حجريّة مختصّة بصناعة هذا النوع من الكعك، بحسب أصحاب مخابز وبسطات، إنما يُخبز في مخابز آلية، وهو يختلف في المذاق والشكل عن كعك عمّان، فهو أكثر طراوة، وسمسمهُ أقلّ. أما البيض فيُسلق بدل أن يشوى، والعربات تتوسع في الإضافات على الكعكة؛ بيض مسلوق، خضار، جرجير، زعتر، جبنة، تونة، فلافل، وشطة، وأحيانًا يقدم معه الشاي، وتكثر أعداد الشباب العاملين على بسطات الكعك والبيض في هاتين المدينتين. 

مع ساعات الفجر الأولى، في الأماكن التي تشهد أولى تجمعات الخارجين للعمل، من عمّال البناء، وباعة سوق الخضار (الحسبة)، وقرب مواقف السرافيس، وعلى الشوارع الرئيسيّة التي تشهد انتقال الناس إلى محافظات أخرى، تبدأ العربات بالانتشار قبل أن تفتح معظم المطاعم أبوابها. 

اختار الشاب حمزة المنسي، مع شريكه حسام جراد، فتح بسطة لبيع الكعك والبيض قرب دوار حي معصوم في الزرقاء، «[زبائننا] موظفين وعساكر، من الستة ونص للساعة تسعة، هاظ الشارع الوحيد [في المنطقة] اللي بطلّع على عمان»، يقول المنسي.

محتويات العربة التي يملكها حسام جراد في الزرقاء.

افتتح الشريكان هذه البسطة قبل شهر، بعدما فقدا وظيفتيهما، إذ عمل المنسي لسنوات مدير قاعات أفراح في إحدى الصالات. تعطّل عمل الصالات إثر كورونا كونها من القطاعات غير المسموح لها بالعمل، فاضطر مدير الصالة أن يصرف للمنسي نصف راتب: «نص راتب 150 دينار، بصفي 130 دينار بعد 20 دينار ضمان، بطلع مصاريف الدار. الدار ما بتشبع». أما جراد فقد عمل لسنوات محاسبًا في عدة مطاعم، لكنه خسر وظيفته الأخيرة بعدما سرّحه صاحب العمل. بعدها، «اشتغلنا عدة شغلات وسرحونا. قبل [انقضاء] ثلاثة شهور بسرحوك». قبل فترة قصيرة، خرج جراد من بيته المستأجر، بعد أن رفع عليه صاحب الشقة قضية لعدم دفع الإيجار. «هاي العرباي تبرع فيها شباب الحارة، أنا عندي ثلاث بنات. هاي الأسبوع الثالث، الوضع مستور بجيب 40 كعكة على قدي».

يبدأ نهار الشريكين الساعة الرابعة فجرًا، يُسلق البيض بالماء في وعاء كبير، وتجهّز البسطة ثم يذهب أحدهما إلى مخبز مجاور لتأمين الكعك. بين الساعة الخامسة والنصف والسادسة يكونان في الشارع بانتظار الزبائن. مع الظهيرة، يكون يوم عملهما قد انتهى، «بنسكّر على الوحدة ونص، الغدا الناس بتحب الطبايخ»، يقول جراد. 

يشهد وسط مدينة إربد عند ميدان الساعة أول تجمعات الخارجين للعمل صباحًا؛ عمّال المياومة، وباعة الحسبة. هناك حيث تكثر محلّات بيع المعجنات ومطاعم الحمص والفلافل، ركن السوريّ محمد عز الدين في الساعة الخامسة والنصف عربته وعليها الكعك والبيض المسلوق وعلب التونة والفلافل والخضار، وعدة أنواع من الجبنة والشطة، وجلس ينتظر أوائل الزبائن الخارجين مبكرًا. يبقى هناك حتى السابعة والنصف ثم يجر العربة إلى الحسبة حيث تبدأ تجمعات البائعين والمشترين.

محمد عز الدين يعمل على عربته قرب دوار الساعة في إربد.

في الساعة السادسة، خرج الستيني أبو العبد* إلى شارع الهاشمي في إربد حيث ينتظر زبائنه، كان قد جهّز عربته قبل الفجر، ووضع عليها كل ما يمكن أن يطلبه زبون، بما في ذلك الشاي والعصائر، وهو ما لا توفره العربات الأخرى عادة. لا يمكن أن يقبل أبو العبد ألا يجد عنده أي زبون ما يُريده، فقبل أيّام خسر كل بضاعته من الكعك عندما طلبت منه البلدية مغادرة المكان، فرجع إلى بيته ووزّع ما تبقى من الكعك على جيرانه، فالكعك لا يصلح لليوم التالي، لذا كثيرًا ما يراوغ هؤلاء الباعة مفتشي البلدية، لعلمهم أنَّ أيَّ تعطيل لعملهم في هذا اليوم يعني خسارة البضاعة.

أبو العبد أمام بسطته في شارع الهاشمي في إربد

لا يملك أبو العبد العربة التي يبيع عليها. «العرباي استئجار، بدفع في الأسبوع شو الله بيسّر، 15 لـ20 دينار»، ولم يمض الكثير عليه في هذه المهنة، إذ تحوّل لها بعد سنوات طويلة من العمل في مطاعم وجبات شعبيّة كالحمص والفلافل، بعدما وقع ذات مرة وكُسرت يده. «زحلقت ووقعت، هسة كلها براغي وسياخ». 

يطلب عابرٌ من أبو العبد كعكة عليها تونة، فيسأله إن كان يريدها حارة أم بالزيت، يفتح علبة التونة، يلبس القفازات، ويلفّ شماغه حول أنفه، ثم يقترح على المشتري إضافات أخرى على الكعكة، كان كل ما طلبه المشتري موجودًا على العربة، وقبل أن يستلم المشتري كعكته، يعرض عليه أبو العبد: «في كمان لبنة وسنيورة ومرتديلا مع الكعكة إذا بدّك».


* اسم مستعار بناء على طلب صاحبه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية