بسطات رمضان: نظرة عن قرب

الإثنين 27 أيار 2019
صورة أرشيفية لمحل بيع عصير وسط عمان. تصوير سييرا ويست.

هي ظاهرة تتكرر كل رمضان، لكن كثيرين لاحظوا كثافة حضورها هذا العام؛ فقبيل وقت الإفطار تنشط نقاط بيع مؤقتة مختارة بعناية لتسويق مشروبات رمضانية أبرزها: العرقسوس والتمر هندي والخروب، وعصير البرتقال «الطازج»، ومأكولات خفيفة مثل الخس والفجل والبقدونس، وبعض الحلويات.

كما تتكاثر بكثافة أقل، ولكن بعناية أكبر في اختيار المواقع، سيارات «البك أب» الثابتة التي تبيع الخضار والفاكهة «بالبُكسة» وعادة ما تتوقف هذه السيارات على مداخل الأحياء أو عند التقاطعات أو قرب الإشارات الضوئية الرئيسية، أو قرب أبواب المساجد، وقد يمتد زمن وقوفها لفترة أطول أثناء النهار.

بعيدًا عن الباعة والزبائن، فإن الظاهرة تجلب اهتمام فريقين آخرين: الأول تمثله الجهات الرسمية (أمانة عمان والبلديات وأجهزة الأمن) التي تطلق التصريحات والتحذيرات وتذكر بالمواد القانونية ذات الصلة أو تقوم فعلًا بحملات لمكافحة الظاهرة، وخاصة في المناطق الرئيسية. أما الفريق الثاني من المهتمين، فتمثله وسائل الإعلام التي اعتادت كل عام أن تنشر صنفين متناقضين من المواد الخاصة بهذه الظاهرة؛ ويتمثل الصنف الأول بالمواد الصحفية التي تحذر من مخاطر صحية أو عوائق مرورية تنتج عن هذه البسطات، والصنف الثاني تمثله مواد صحفية أقرب إلى «الغزل الشعبي» الموجه نحو باعة العصير والقطائف والخس والجرجير، ونحو زبائنهم من الصائمين المتشوقين، وهذه المواد في العادة تعتمد لغة أدبية حنونة بعكس لغة الصنف الأول القاسية.

يحاول هذا المقال القصير الاقتراب أكثر من الظاهرة، ولغايات إعداده، أجريت ثلاث جولات سريعة تشمل مناطق شارع الأردن ابتداء من تقاطعه مع شارع الشهيد، ثم الصعود إلى جبل الحسين، والشارعين الرئيسيين في الهاشمي الشمالي وصولًا إلى طبربور، ثم الشارع الرئيسي الذي يخترق ماركا الشمالية وصولًا إلى مخيم حطين.

استطعت إحصاء أكثر من 70 نقطة بيع جديدة مؤقتة خاصة برمضان، إضافة إلى نقاط عديدة دائمة تتواصل بعد رمضان أو تعد ملحقًا بمحلات قائمة اختارت استثمار موسم رمضان. مع ملاحظة أن الشوارع الرئيسية هذه لا تمثل كل مساحات هذه المناطق التي تشهد مثل هذه الأنشطة أيضًا.

أثناء الجولات توقفت عند عدد من الباعة الجدد، الذين سوف يتبين أنهم ليسوا جددًا بالكامل على كار البيع في الشوارع. وحاولت الحصول منهم على سيرة سريعة لكل منهم في العمل، تشتمل على عملهم السابق واللاحق لرمضان، وعن مدى تكرار هذا العمل، وما إلى ذلك.

«اقتصاد ظل» في وضح النهار

تنتمي الظاهرة بالإجمال إلى ما يعرف بـ«القطاع غير الرسمي». وأتجنب استخدام الاسم الأكثر جاذبية وهو «اقتصاد الظل»، من جهة لأنه حتى من الناحية الشكلية، فإن هذا النشاط يمارس عادة بمنتهى الوضوح، وإذا لزم الأمر يمارس بعيدًا عن أي ظل. ولكن الأهم أن اصطلاح «اقتصاد الظل» يذهب بالذهن فورًا إلى العمل المُدان المُتهرب والمُتخفي، وهنا أيضًا لا تنطبق الأوصاف على هذا النشاط الذي يمارس عادة بهدف الحصول على دخل رئيسي أو إضافي متواضع في العادة.

شاب في الثانية والعشرين، اعتاد بالتعاون مع شقيقه وابن عمه منذ سنوات على اختيار أحد التقاطعات الفرعية في الهاشمي الشمالي، ليفرد فيها فوق رفوف خشبية أحضرها إلى المكان، أكوامًا عدة من الأعشاب مثل النعنع والبقدونس وضمم الفجل وحبات الخس التي يصنفها بشكل جميل ولافت، وبجانبه دلو ماء كبير يغرف منه بين زمن وآخر ليرش بضاعته سعيا إلى الحفاظ على يناعتها.

قبل رمضان وبعده، يعمل هذا الشاب مع إخوانه في بيع أسطوانات الغاز من خلال وكالة الغاز التي تعود للأسرة، وقد تقدم بطلب التحاق بأحد الأجهزة الأمنية، وهو يقول إنه يريد أن يعرف الحياة وتحصيل الرزق، ويعتبر وجوده في الشارع تجربة ممتازة في هذا المجال. وعند انتهاء لقائي معه، أشار إلى ساحة قريبة فارغة، وأضاف: هنا نجهز لإقامة مرجيحة ومنطقة ألعاب في أيام العيد والأيام التي تسبقه وتليه مباشرة.

على بعد أكثر من كيلومتر منه، وفي منطقة طبربور، يقول شاب يبدو أنه في مطلع الثلاثين من عمره، إنه أصلًا يعمل في ميدان الحجر في «الحفر والتكحيل»، وهذا العمل يتوقف في رمضان. ولهذا فإنه استخدم اسمًا شهيرًا في عالم العصائر الرمضانية، يقول إنه يجلب البضاعة منه، ويبيعها في رمضان، ولكنه أصلًا لا يعمل في البسطات، بعكس زميليه وشريكيه على الجانب المقابل من الشارع، اللذين احترفا «التبسيط» في المنطقة لكنهما يغيران البضاعة في رمضان بناء على الطلب الخاص في هذا الشهر، وهما يضعان ماكنة عصير برتقال، وإلى جانبهما يقف باص نقل صغير، تبين أن هذا الباص يخدم هؤلاء الشباب الثلاثة على جانبي الشارع. إن تجربة هؤلاء الشباب تؤكد واحدة من مميزات العاملين في القطاع غير الرسمي، وهي الحساب الدقيق للتكلفة.

لكن التجربة اللافتة أكثر للانتباه، فيمثلها شابان، أنيقا المظهر والملابس، اختارا تقاطعًا في أحد الأحياء الداخلية في منطقة طبربور، وأقاما بسطة جميلة نظيفة مؤثثة، مفروشة بالموكيت الأخضر، ووضعا ثلاث طاولات فوق كل منها شرشف أبيض نظيف مثبت بشكل منسق، وسلة فيها حبات من الليمون والبرتقال كجزء من الزينة، إلى جانب ما يبيعانه من زجاجات العصير (برتقال، ليمون، نعنع وليمون). يؤدي الشابان عملهما بعناية، بل إنهما وضعا عددًا من الأكواب الزجاجية الملونة يقدمانها كهدايا للزبائن!

هما صديقان قديمان، كانا يعملان في شركتين كبيرتين تعمل إحداهما في تجارة الأجهزة الخلوية، والأخرى في مجال تجارة الدخان والمعسل، وقد فقدا عملهما في وقت واحد، وخسرا راتبًا قالا إنه كان ممتازًا.

لقد تعلما أناقة التسويق من عملهما السابق، غير أن أحدهما لديه خبرة في العمل الفندقي، وقد قررا افتتاح مقهى قرب الموقع الذي يضعان فيه بسطتهما حاليًا، وهما يقومان بعملهما الآن بعناية كجزء من التسويق المسبق للعمل الدائم الذي ينويان تأسيسه والانخراط فيه قريبًا، بعد انتهاء المبنى الذي سيضم المقهى المنتظر.

هذه النماذج تختلف عن نموذج آخر يمثله أطفال في سن المدرسة، يختارون الجلوس أو الوقوف خلف طاولة صغيرة أمام منازلهم بالضبط، يضعون فوقها بضعة زجاجات من العصير الذي صنع في المنزل. وفي العادة، فإن هذا النشاط يعد نوعًا من التدريب على تحصيل الرزق أو جني المصروف للطفل، وهذا بالمناسبة تقليد قديم معروف وممارس.

كما هي العادة، فإن هناك نقاط تقاطع بين «الرسمي» و«غير الرسمي» في هذا النشاط، فهناك محلات رسمية مسجلة، لكن طبيعة نشاطها تتأثر برمضان، مثل المطاعم ومحلات بيع القهوة ومحلات بيع الحلويات، فتعمل على مد مساحة نشاطها نحو الشارع وتقيم فيه بسطة لبيع منتجاتها وتنويعها بما يلبي طلب الزبون الرمضاني. مثلهم في ذلك مثل محلات بيع الفواكه التي تقيم على أبوابها نقاط بيع العصير الطازج، وهذه تحظى بثقة أكبر بسبب تواجد الفاكهة أمام نظر الزبون.

معركة في غير ميدانها

عند كتابة هذا التقرير، كانت الأخبار تحمل أن أجهزة أمانة عمان الكبرى بالتعاون مع دوريات الأمن تقوم بحملة واسعة على البسطات الرمضانية تلك في مواقع نشطة.

يقوم موقف الإدارة الرسمية العامة على منطق أن العمل على هذه البسطات مخالف للأنظمة، وهو لا يلتزم بالمعايير الصحية، كما إنه يشكل إعاقات مرورية وتأثيرًا على السوق الرسمي. وبالمقابل يقوم موقف العاملين في القطاع غير الرسمي في هذه الحالات على ما يرونه حقًا لهم في خلق فرصة لتحصيل الرزق.

إنه واحد من ميادين صراع هذين المنطقين الذي لا ينتهي ولن ينتهي. هو قد يطارد وتنجح المطاردة في موقع، لكن القطاع يتميز بمرونة عالية في الرد على القرارات الإدارية والتبدلات العمرانية في المواقع المختلفة، وتتضمن المرونة قدرًا من التورية والغياب المؤقت أو الانتقال إلى موقع آخر، لأن الأجهزة لا تستطيع تغطية كل المناطق وخاصة مع توفر الطلب.

هي معركة خاسرة مستمرة، لعل حسمها الحقيقي موجود في موقع آخر غير الشارع الذي تخاض فيه. إنها معركة نمط التنمية الذي لا يريد أصحابه أن يروا مظاهر الخلل فيه أمام عيونهم، ظنًا منهم أن غيابها عن النظر يعني أنها غير موجودة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية