قصّ المعدة

«صفّرت العدّاد»: رحلتي نحو العيش بربع معدة

تصميم محمد شحادة

«صفّرت العدّاد»: رحلتي نحو العيش بربع معدة

الأحد 25 كانون الأول 2022

خمسة أطباء مقنّعين يحومون فوق رأسي مكررين نفس الأسئلة: «شو اسمك الثلاثي؟ كم عمرك؟ كم وزنك؟ مين دكتورك؟». لمحتُ وجه طبيبي متقدمًا نحوي، رأى دموعيَ تنساب على خديْ «شو يا براءة، بدك تبطّلي؟»، أجبته بصوتٍ مكتوم بين شهقات البكاء أن يخبر باقي الأطباء بالتوقّف عن سؤالي الأسئلة المكرّرة ذاتها ويتركوني لأتعامل مع مشاعري في اللحظات الحاسمة الأخيرة.

بداية آذار الفائت، كنت أبحث مع صديقٍ لي عن مطعمٍ نتناول فيه الغداء ونعود بعده لعملنا. مَشَينا لفترة قصيرة حتى واجهنا طلوع الحايك، من وسط البلد باتجاه جبل عمان، والذي يبدأ خفيفًا ثم يصدمك بحدّته فتصبح الرحلة مُرهِقة. أدركتُ أن هذا الإرهاق يخصّني وحدي، فصديقي يمارس الرياضة يوميًا، ولا تشكّل له هذه الرحلة أي عبء، أمّا أنا فكنت أزِن 117 كيلو، أي أنني أحمل شخصًا إضافيًا معي أينما تحركت. خلال دقائق، كان صديقي ينتظرني أمام المطعم، وأنا لا زلت في بداية الطلوع ألتقط أنفاسي كمن كان يركض ماراثونًا. عندما أفكر بأكثر اللحظات التي تمنّيتُ فيها لو انشقت الأرض وابتلعتني، يكون هذا المشهد حاضرًا في المقدمة. أنهينا غداءَنا، ونظرات القلق تعلو وجه صديقي. في طريق العودة، فتح معي موضوع الوزن. كانت المرة الأولى التي يخبرني فيها شخص ما، بهذه الحدّية، أن وضعي غير مقبول. شعرتُ لحظتها بالهشاشة والتكشّف، كانت اللقطة الحاسمة عندما وضَعني في مقارنة مع زميلٍ سابق له، أصابته جلطة في عمر الثلاثين نتيجة وزنه الزائد وعاداته غير الصحية. انتهى الحوار، وحلّت مشاعر الغضب مكان الهشاشة؛ غضب تجاه صديقي، وغضبٌ من ذاتي والحال الذي وصلته.

عدتُ للبيت يومها، وقلت لأمي بصرامة وجدية: «بدي أقص معدتي». قابلَتني لحظتها بالموافقة الممزوجة بالقلق، اتصلتُ بسارة، صديقتي التي خضعت للتكميم قبل سنة ونصف، وطلبت منها أن تحجز لي موعدًا مع طبيبها في أقرب فرصة.

معدة بحجم موزة

منذ الستينيات، أُجرِي للمصابين بقرحة المعدة عملية استئصال جزئي لها، وتم الانتباه إلى فقدان الوزن الملحوظ الذي يتبعها. لاحقًا، تطوّر إجراء عملية قص المعدة، لتصبح العملية الأكثر انتشارًا بين عمليات إنقاص الوزن، والتي تشمل كذلك تحويل المسار الكلاسيكي أو المصغّر، وثني المعدة، وبالون المعدة. تُعرَف عملية قص المعدة باسم التكميم لأن الجرّاح يُكوّن بالمعدة ما يشبه كُمًّا ضيقًا ويتخلص من الجزء المنحني منها. وتعدّ هذه العملية الأكثر شيوعًا لأنها أقل تعقيدًا من ناحية الإجراء الطبي، إذ لا يحصل تغيير في مسار الجهاز الهضمي كما في عملية تحويل المسار، كما أنها أثبتت أنها أكثر أمانًا من ناحية المضاعفات ما بعد العملية والمضاعفات طويلة الأجل على مستوى التغذية.

تستغرق العملية ساعة تقريبًا، ويبقى المريض بعدها يومين في المستشفى للتأكد من عدم حدوث مضاعفات مثل تسريب السوائل أو الجلطات. ويعتمد المريض على شرب المياه والسوائل الصافية خلال أول أسبوعين بعد العملية، ثم يصبح تناول الطعام تدريجيًا؛ في البدء يتناول الشوربات والخضار والفواكه المهروسة، حتى يصل لمرحلة التعافي الكاملة بعد ثلاثة أسابيع تقريبًا، ثم بعد مرور شهر من المتوقّع أن يعود الشخص لتناول الأطعمة الصلبة.

في التكميم، يزيل الطبيب ما يسمى بقمع المعدة، وهو الجزء المسؤول عن إفراز هرمون جريلين المعروف باسم هرمون الجوع. تؤدي زيادة إفراز هذا الهرمون، عند أصحاب الوزن الزائد، لزيادة الإحساس بالجوع، حتى لو لم تكن أجسامهم بحاجة للغذاء، ما يدفعهم نحو استهلاك سعرات حرارية أكثر. في التكميم، يتم الاستغناء عادة عن حوالي 80% إلى 85% من حجم المعدة، لتصبح مماثلة في الشكل والحجم لموزة كبيرة، وبالتالي لن تتسع لذات كميات الطعام التي كان الشخص يستهلكها قبل العملية.

في العام 2006، أُجرِيت في مدينة الحسين الطبية أولى عمليات جراحات علاج السمنة، وكانت تكلفتها، وقتها 3500 دينار، واليوم باتت تكلفتها 1500 دينار، فيما يقسّط بعض الأطباء المبلغ، من باب التشجيع على إجرائها عندهم. وفي الوقت الذي تكلف فيه العملية في السعودية 5000 دولار تقريبًا، تكلف العملية في تركيا 3000 دولار، ما يضعها مع الأردن في طليعة الدول التي يتوجه لها الناس لإجراء عملية قص المعدة.

في أغلب الحالات، يعتمد قبول الطبيب لإجراء جراحات إنقاص الوزن على عدة عوامل أهمها مؤشر كتلة الجسم (BMI) والذي يجب أن يكون أعلى من 40.[1] كما يأخذ الطبيب بالاعتبار حالة الفرد الصحية وتاريخه المرضي، والأمراض التي يعاني منها كالسكّري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب أو الرئتين وارتفاع نسبة الكوليسترول وانقطاع النَفَس الانسدادي النومي.

في دولٍ ذات أنظمة صحية متقدمة، يتدارس المريض هذه الخطوة مع طبيبه على مدى أشهر، وتستمر المراجعات لفترة طويلة قبل اتخاذ القرار النهائي. لكن هذا الإجراء ليس إلزاميًا في الأردن، فبمجرد زيارة الطبيب والتأكد من حاجة الفرد للتكميم بناءً على مؤشر كتلة الجسم والتاريخ المرضي، وبعد توفير التكلفة، يمكن الخضوع للعملية خلال أقل من أسبوع بعد المقابلة الأولى، ويبقى قرار التفكير ودراسة البدائل على عاتق المريض ومن يرافقه من أهله أو أصدقائه. قد يرفض بعض الأطباء إجراء العملية إذا لم يكن المريض محتاجًا لها، وقد يقترح الطبيب له حلولًا بديلة بناءً على حالته ووزنه.

طريقي الوعر نحو غرفة العمليات

قبل سنوات، خضت حوارًا مع والدتي حول إجراء العملية، لكن عدم امتلاكي لراتب ثابت وقتها حال دون قدرتي على إجرائها. ناقشت معها وقتها إمكانية دخول جمعية وتوفير المبلغ، ولكن مع مرور الوقت غابت الفكرة عن كلتينا كما تغيب عن أحدنا أي فكرة لحظية لم يكن واثقًا منها. كانت والدتي متخوّفة، لأنها رأت تجارب لقريباتٍ خضعن للعملية وعاودن اكتساب الوزن بعد مرور وقتٍ عليها. وكنتُ مترددة، لأنني لم أُرِد أن أُدرِج العملية في تاريخي الشخصي، لأنها تعني أنّي سأكون تحت المجهر، مُراقَبَةً ممن هم حولي منتظرين نتائج العملية، ولم أكن مستعدة لخوض حربٍ معلنة مع وزني يشهدها الجميع.

لا أذكر وقتًا لم أكن فيه سمينة، فعقلي تملؤه الذكريات المشوّشة عن البكاء في غرف تجريب الملابس. طوال فترة المراهقة، كنت أسمع من الأقارب باستمرار أنني بحاجة لإنقاص وزني: «وجهك حلو بس لو تنحفي شوي بصير أحلى»، في محاولات تشجيعية أدت إلى نتائج عكسية، حيث اتجهت نحو الأكل بشراهة للتخلص من مشاعر الضيق تجاه حقيقة أنّي لن أكون مقبولة بأعين الأخرين إلا إذا أنقصت وزني.

في 2017، وضعت جهدًا حقيقيًا لخسارة الوزن، فالتزمت بنادٍ رياضي، وبحمية مع أخصائية تغذية. كنت وقتها أعيش وحدي مما سمح لي أن أتحكم بنوعية وجباتي. كان وزني عندما بدأت برنامجي مع الأخصائية 95 كيلوجرامًا، وعلى مدى ثلاثة أشهر من الالتزام الصارم وصل وزني 80 كيلوجرامًا. سافرتُ بعدها إلى الرياض عند عائلتي، وتزامنتْ إقامتي مع حلول شهر رمضان، تبِعها سفر إلى تركيا، ويمكن لكم تخيّل ما حصل.

استمررتُ بكسب الوزن بشكلٍ تدريجي حتى انتهاء فترة الحجر الصحي أواخر عام 2020، حين وجدت نفسي فوق الميزان أنظر إلى رقمٍ من ثلاث خانات. أحسست وقتها باللاجدوى تجاه الالتزام مجددًا بنفس البرنامج الذي جرّبته في 2017 وكان قلقي كبيرًا من حقيقة أن جسدي هائل، ولم أُرِد الظهور به أمام الرشيقات في النادي، كان قلقًا طغى على اهتمامي بصحّتي وجودة حياتي. حين يقرر شخص أن يخفف وزنه، قد يتوفر له الدعم ممن حوله ويتفاعل مع التعليقات التشجيعية بشكلٍ إيجابي، ولكنّي كنت أتفاعل بشكلٍ عكسيّ مع تعليقات الأخرين، لأن الإشارة الدائمة لوزني كانت تعني لي أن من حولي لا يرون منّي سوى شكلي الخارجي، حتى لو كانت هذه الفكرة غير صحيحة تمامًا وتعيش في رأسي فقط. هذه الفكرة كانت تسبب لي الإحباط لأنها تعني أن اشتغالي على تطوير ذاتي وشخصيتي وأفكاري لن تكون أبدًا تعويضًا عن الشكل «غير المقبول» الذي أظهر به أمام المجتمع.

تمثّل الخوف الأكبر من العملية في الإجراء ذاته، الخضوع للتخدير وحساب آثاره على الجسم، والتي يمكن أن تصل حد الموت في حالات نادرة، يتبعه الخوف من الألم الذي لم أتخيل شدّته أو قدرتي على احتماله.

كانت المحاضرة التي سمعتها من صديقي الرياضي كفيلة بإحياء كل تعليقات الأقارب في المراهقة، وقلقي من نظرة الآخرين لي، وانهماكي في حساب شَغْلي للمساحة بكتلتي الهائلة، بالطريقة التي أجلس فيها على مقعد الباص وأضايق من يجلس بجانبي، أو في الاجتماعات والجلسات الجماعية حين أتكور حول نفسي وأغطي بطني بوسادة، وحقيقة أنّي لم أختر لمرّة أن أكون في المقدمة سواءً في المدرسة أو في الجامعة أو في الصور الجماعية. كان صوت تنفسي العالي على بداية الطلوع يعني أني سأقضي حياتي كلها وأنا الصديقة التي أرفض أن نتمشى أو نذهب في رحلة تسلّق، وأدير ظهري لاقتراحات زيارة المدينة الرياضية لركوب الدراجات أو المشي. كانت هذه الأفكار جميعها تتعارك في رأسي، وفضّلت في ذلك اليوم أن أخاطِر بهذا الإجراء الراديكالي، والذي يمكن فيه أن أتعرض -ولو بنسبة ضئيلة- لخطأ طبّي قد يُسبّب مضاعفاتٍ أنا في غنى عنها لو أنّي التزمت بحمية غذائية، وأن أخسر متعة استهلاك الطعام والحلويات، ويعني هذا أن تحدِّيّ لذاتي سيكون إلزاميًا، وأي تهاون ستنتج عنه خسارات مضاعفة على عدة أصعدة، ماديًا ونفسيًا وصحيًا، على خلاف ما سيحصل لو التزمت بحمية غذائية صارمة وبممارسة الرياضة، إذ إن هذا الخيار يمكن العودة عنه دومًا.

رافقتني والدتي وسارة لمقابلة الطبيب. شرح لنا كل التفاصيل المحيطة بالعملية، من حيث الوقت اللازم لإجرائها والأعراض الجانبية التي قد أتعرض لها، والوزن الذي سأخسره وكيف يمكنني الحفاظ على جسدٍ صحيّ بعدها. استمرّ الطبيب بالإشارة إلى سارة؛ التجربة الناجحة كلما سنحت له الفرصة. كنتُ مملوءة بالدافع لإجراء التغيير، واضعةً الخوف في ركنٍ قصيّ حتى لا أسمح لنفسي بالتراجع، ووالدتي بجانبي تحسب الأضرار والتكلفة وتتحضّر نفسيًا لتقديم المساعدة أمام كل ما قد يواجهني. أخبرنا الطبيب أن بإمكانه أن يحجز لي موعدًا بعد ثلاثة أيام، ردّت والدتي بأن يعطينا وقتًا للتفكير وأن عليها أن تسافر وتعود خلال الأسبوع القادم، ويجب أن تكون معي خلال العملية وبعدها، فاتفقنا معه أن يسمع جوابنا في اليوم التالي.

خرجنا من العيادة وأنا على وشك البكاء، غمرتني مشاعر مركبّة، غضب في المقام الأول تجاه وضعي لنفسي في هذا الموقف، حيث اضطُرِرتُ أن أتكشّف بضعفي وهشاشتي ووزني أمام الآخرين، حتى لو كان طبيبًا رأى مثلي العشرات، ومن ناحية أخرى حماسٌ يشوبه التوتر تجاه إجراء تغييرٍ جذري، وهذا التطلّع نحو التغيير دائمًا ما يثير رغبتي بالبكاء. كانت سارة تشجّع والدتي وتحكي لها كم أن الطبيب ممتاز، وأن قريبتها أجرت العملية أيضًا عند نفس الطبيب والآن وزنها 50 كيلوجرامًا. كنتُ صامتة في طريق العودة وفي بالي فكرة واحدة: إمّا الآن أو أبدًا، فأنا شخص من عادتي التسرّع في اتخاذ القرارات، ولو أردت أن أقص معدتي عليّ أن أفعلها الآن حتى لا يذهب الموضوع طيّ التجاهل كما حصل قبلًا. اتفقت مع والدتي أن تدبّر هي تكاليف العملية، وأنّي سأدفعها لها بعد أن أستلم الجمعية التي اشتركت فيها من أشهر. كلّمت الطبيب في اليوم التالي وحجزت موعدًا بعد أسبوعين.

تناولتُ خلال الأسبوعين كل ما أمكنني تناوله من أطعمة مضرّة بالصحة، دخنتُ بشراهة، وأخبرت المقربين أنني سأخضع لقص المعدة. كانت ردود أصدقائي العاملين في القطاع الصحي رافضة، وكان برأيهم أن بإمكاني تجربة الالتزام بحمية بدلًا من أن أضع نفسي في هذا الموقف، فالعملية بالنسبة لهم ليست الحل الأمثل، ربما لأنهم يعلمون مضاعفاتها والآلام المصاحبة لها. لم أكن مستعدة لخوض نقاشاتٍ حول قراري، فرفضتُ الحوار وأخبرتهم أن القرار قطعي ولا مجال للتراجع الآن. كانت سارة مشجعتي الأولى، وصارت ترسل لي صورها قبل العملية وبعدها، وتخبرني كيف ستتغير الحياة إيجابيًا بعد العملية، ما دفعني أكثر نحو الالتزام بالقرار.

تمثّل الخوف الأكبر من العملية في الإجراء ذاته، الخضوع للتخدير وحساب آثاره على الجسم، والتي يمكن أن تصل حد الموت في حالات نادرة، يتبعه الخوف من الألم الذي لم أتخيل شدّته أو قدرتي على احتماله.

صباح يوم العملية، كانت المخاوف مسيطرة عليّ، وواصلتُ تمثيل أنني لستُ قلقة، توجّهت إلى المستشفى مع والدتي وأختي. بقيتُ في حالة من المرح والضحك والتقاط صور ما قبل العملية، حتى أتى الوقت وارتديت لباس العمليات.

رافقني طاقم التمريض وأنا ممددة على السرير حتى غرفة العمليات، كنتُ محاطة بما يزيد عن خمسة أطباء مقنّعين يحومون فوق رأسي مكررين نفس الأسئلة: «شو اسمك الثلاثي؟ كم عمرك؟ كم وزنك؟ مين دكتورك؟» لمحت وجه طبيبي متقدمًا نحوي، رأى دموعي تنساب على خدّي «شو يا براءة، بدك تبطّلي؟» أجبته بصوتٍ مكتوم بين شهقات البكاء أن يخبر باقي الأطباء بالتوقّف عن سؤالي ذات الأسئلة المكرّرة ويتركوني لأتعامل مع مشاعري في اللحظات الحاسمة الأخيرة. كانت تلك اللحظات من أصعب ما مررت به في حياتي، مزيجٌ من التوتر والقلق تجاه التكشّف أمام الطاقم الطبّي، وخوفي من الاستيقاظ المفاجئ خلال العملية.[2]

كنت أفكّر بكل شيء سيتغير بعد هذا اليوم. لكن سبب البكاء الأهم كان عدم قدرتي على السيطرة على المشهد، ولا الهروب منه، وهو أمر يغضبني في الأيّام العادية، فكيف به في يوم مثل هذا؟ كما كان يوتّرني أنني لا أرتدي نظّاراتي، ولذا فالوجوه حولي مغبشة وغريبة. طمأنني طبيب التخدير بأنّي في أيدٍ أمينة، وأخبرني أنّي سأشعر بشيءٍ بارد يسري في عروق يدي «عِدّي من عشرة لواحد تنازلي» بدأتُ العدّ: «عشرة، تسعة، تمنية … تصبحوا على خير» دخلت فيما يشبه النوم وكان آخر ما سمعته صوت الممرضة وطبيب التخدير يقولان: «وإنتِ من أهله».

أيقظني الأطباء من التخدير بعد 45 دقيقة، فشعرتُ مباشرةً بنارٍ في داخلي، أذكُر صراخي وبكائي طالبةً أي مسكّن يطفئ هذه الآلام، قالت الممرضة إنها ستعطيني مسكنًا، لكن عليّ احتمال الألم قليلًا حتى يتأكدوا من الإشارات الحيوية. اختفت الأصوات والآلام لما أظنّه دقائق، واستيقظتُ مرة أخرى وأنا في غرفتي في المستشفى وأختي عند آخر السرير تتحدث مع الممرضة، ووالدتي تبكي وهي ممسكة بيدي. في تلك اللحظة عاد الألم مجددًا في أحشائي ومن بين دموعي قلت لوالدتي أن تضع يدها على بطني وتقرأ أي شيءٍ من القرآن. نمتُ مرة ثانية واستيقظت على ألمٍٍ أخف، حاولت أن أستدير وأنام على جنبي فلم أقدر على الحركة، أردت أن أتكوّر حول نفسي لأشعر بالأمان. طلبتُ من أختي أن تشغّل لي سورة النجم بصوت سكينة حسن، أكاد أجزم أنها ووالدتي تبادلتا ضحكاتٍ مستغرِبة. دخلتُ بعدها في نومٍ لا أعلم مدته.

أن تصفّري العدّاد

ينصحك الطبيب خلال أول شهرين بممارسة المشي لمدة ساعة يوميًا للحفاظ على الجسم من الترهل، ويكون المشي إلزاميًا لربع ساعة على الأقل كل ساعتين خلال الإقامة في المستشفى، يمكن خلال هذين اليومين أن يتلقى المريض مساعدة في المشي من مرافقيه أو طاقم التمريض، بعدها عند العودة للمنزل ودخول مرحلة الشفاء الأولى، على المريض أن يمشي بنفس الوتيرة لتجنّب التعرّض للإمساك المزمن أو شد العضل عند أقل حركة. بعد شهرين تقريبًا، تصبح ممارسة الرياضة مسموحة عندما يستعيد الجسم قوته وتتبدد خطورة التعرض لأضرار داخلية.

تختلف الأعراض الجانبية التي يعاني منها كل شخص بعد العملية بحسب اختلاف الأجساد. يحضّرك الطبيب جزئيًا لما يمكن أن تواجهه. بالنسبة لي، أخبرني الطبيب أن بإمكانيَ تناول أي شيء بعد شهرٍ تمامًا، لكن معدتي رفضت أغلب الأطعمة حتى نهاية الشهر الثالث، فاعتمدتُ في نظامي الغذائي على البطاطا والفواكه المهروسة واللبن المنكّه والعصائر طوال تلك الفترة، حتى صرت قادرة بعدها على تناول ملعقتيْ أرز وقطعة دجاج أصغر من كفّ اليد، ووجدت نوع الخبز الذي لا يحملني على الاستفراغ بعده. تحسنت الأوضاع بعد مرور ثلاثة أشهر على العملية، ومع نزول الوزن الصارخ، صرت أتشجع أكثر لإبقاء عاداتٍ صحية ومتوازنة.

صرت معتادة على الكميات القليلة وأعرف تمامًا القدر الذي يكفيني للوجبة الواحدة. استبدلتُ الصحون الكبيرة بصحونٍ أصغر كي لا أشعر أن وجباتي ضئيلة ومحبِطة، كما صرت آكل الطعام بملعقة صغيرة بدلًا من ملعقة الطعام العادية، حتى لا أُجبِر معدتي على استقبال كمية أكبر مما تحتمل في اللقمة الواحدة. كان التغيير جذريًا وصعبًا في البداية، استبدلتُ السناكات ذات السعرات العالية بخيارات صحية منزوعة السكّر. وجدت بقالة قريبة مني تبيع المربى والجرانولا والشوكولا مصنوعة بسكّر ستيفيا خالي السعرات، مما جعل وجباتي أقل إيلامًا، وفهمتُ مع الوقت أنه ليس على الأكل الصحي أن يكون سيء الطعم.

من المهم أن تَرسَخ في بالي فكرة أن قص المعدة ليس حلًا سحريًا ودائمًا، إنما هي أداة ستساعد على النزول بالوزن في مرحلة معينة، ثم ستفقد فاعليتها لو سمحتُ لنفسي أن أمارس عاداتٍ غذائية مضرّة.

عندما أستذكر الأشهر الأولى بعد العملية، لا يخطر لي سوى مغص المعدة وكميات عصير التفاح التي شربتها، والكثير من الدموع التي ذرفتها وأنا أفكر كيف أنّي حرمت نفسي من أهم متع الحياة. ليست المتعة في تناول الطعام فقط، إنما في الأجواء المحيطة، ترتيب السُفرة وتحضير المقبلات وتذوّق الطعام أثناء طبخه والجوّ العام مع العائلة والأصدقاء سواءً في المنزل أو في الخارج.

صار يومي كلّه يترتب بناءً على نوع الأكل الذي سآكله ومع من. في المنزل لا يصيبني القلق من حقيقة أني كنت أكرّس نصف ساعة لأنهي وجبة الغداء التي لا تتجاوز كميتها ما يأكله طفله عمره سنتان،[3] أمّا لو قررتُ تناول الطعام في الخارج، وهو الأمر الذي سعيت أن يكون نادر الحدوث، فعليّ أن أختار عندها وجبة أثق تمامًا أنها لن تسبب لمعدتي اضطرابًا ولن أضطر أثناءها لأخذ استراحات متقطعة تُربِك المحيطين بسبب حقيقة أنهم يأكلون وأنا أتفرج عليهم.

الروتين صعب، تعايشت معه بعد مرور ثمانية أشهر على العملية، وأغلب المقربين منّي باتوا مستوعبين لحقيقة أنني لن أشاركهم الوجبات الجاهزة ولن يكون هناك مجال للتحلية مباشرة بعد الوجبة.

يطغى على كل هذه الإجراءات وتبديل الروتين حقيقة أن وزني في تناقص. «براءة في نزول» يردد مديري كلما رآني وإيماءات التشجيع تعلو وجهه. أصبحت عيناي ترى المشاهد العامة بشكلٍ جديد،؛ في السابق كنت أدخل أماكن التجمعات البشرية أو أمشي في الشارع وكلّي قلق من نظرات الآخرين نحوي، وأكون حذرة من النظر في عيون الناس في المقابلات والحوارات مع الغرباء أو حتى لو رأيت شخصًا يعجبني. أمّا الآن، فأريد للجميع أن يقدّروا ما ينظرون إليه، وأكون منتظرة تعليقًا منهم على جسمي الجديد. أود لو أطبع وزني على جبهتي حتى يعلم الجميع أنه الآن أقل من ثلاث خانات، وأفضل من ذلك أنه لا يُشعرني بالخجل من نفسي ومن عاداتي.

قبل قص المعدة، كان يسيطر عليّ الهاجس أن إجراء عملية راديكالية بهذا الشكل يعني بالضرورة وضعي في خانة الضعف، وتأكيدًا للصورة النمطية حول أصحاب الأوزان العالية أنهم كسولون، وأن وزنهم الزائد سببه انعدام عزيمتهم وعدم قدرتهم على الالتزام بالرياضة والحميات الغذائية، صارعتُ نفسي كثيرًا كيلا أكون إحدى هؤلاء الأشخاص الذين يُشار لهم أنهم «ما قدروا يتحدّوا حالهم»، ولكني الآن أرى أن في إجراء العملية تحديًا أكبر وأصعب، فالعملية غيّرت نمط حياتي بالكامل.

يسود الاعتقاد أن العملية وحدها كافية، وهو تفكير خاطئ. يهدف قص المعدة بشكل أساسي إلى إعطاء المصاب بالسمنة دفعة تجاه خسارة وزن كبير في فترة قصيرة، ما يجعله قادرًا بشكل أكثر فاعلية على أداء التمارين الرياضية التي تكون صعبة مع كتلة جسدية ثقيلة. وضآلة كمية الطعام التي يمكن للمرء أن يأكلها، خاصة في العام الأول التالي للعملية، تساعد على إبقاء حمية غذائية متوازنة دون تعثّر.

حتى هذه اللحظة، أنا في المرحلة التي أستفيد منها من عدم تقبّل معدتي للحلويات والطعام الدسم، هذا يعني أن وزني لا يزال في تناقص، والعملية مستمرّة في تحقيق هدفها. بعد مرور سنة ونصف على قص المعدة، يصل الجسم إلى «الوزن المثالي»، بعدها ستبدأ المخاوف من كسب الوزن مرّة أخرى. وحتى تُعدّ العملية ناجحة، يجب أن يخسر من يجريها حوالي 50% من الوزن الزائد خلال السنة الأولى.

من المهم أن تَرسَخ في بالي فكرة أن قص المعدة ليس حلًا سحريًا ودائمًا، إنما هي أداة ستساعد على النزول بالوزن في مرحلة معينة، ثم ستفقد فاعليتها لو سمحتُ لنفسي أن أمارس عاداتٍ غذائية مضرّة. حاليًا، لا يراودني هذا القلق كثيرًا، لأن أقل جهدٍ مبذول في الالتزام بنوعية غذاء صحية يكفيني لأحافظ على نزول الوزن التدريجي، كما أن ممارستي للرياضة الآن أصبحت أسهل وأنا لا أحمل وزن إنسانٍ إضافي فوق وزني.

بعد ثمانية أشهر على قص المعدة خسرتُ حوالي 40 كيلو، أصبح وزني الآن 76 كيلو، وهو وزن لم أرَه مذ كنت في المدرسة الإعدادية. تسرّعتُ في الاحتفال لمّا رأيت الرقم على الميزان وأكلت نصف سندويشة لبنة متبوعة بفنجان القهوة الصباحي مباشرة، الأمر الذي لا تتقبله معدتي حتى الآن، لأجد نفسي بعد دقائق أستفرغ وجبتي الضئيلة في المغسلة.

تساؤلات لم تحسم بعد

عشتُ عمرًا كاملًا سمينةً، هذه الحقيقة مشعّة في رأسي الآن أكثر من أي وقتٍ مضى، كنتُ سمينة. كانت حياتي مركّزة على جوانب مختلفة، كميات الطعام التي آكلها، والملابس التي تضيق بعد شرائها بفترة قصيرة، وصوت النَفَس المقطوع بعد طلوع الدرج. أمّا الآن فانعكست كل هذه الأمور. صرت أشتري الملابس وأتفاجأ أنها تصير واسعة عليّ بعد ثلاثة أسابيع، وأقفز على الدرج بخفّة ورشاقة، وأمشي كثيرًا وبسرعة لأنني قادرة على ذلك.

قبل العملية، كنتُ أعيش أغلب الوقت في حالة من النكران تجاه وزني، لأني لم أرِد أن أعترف لنفسي أو للأخرين أنني أعاني من مشكلة، هذه المشكلة لها جذورٌ في طريقة رؤيتي لذاتي وتقبّلي لها، وفي حقيقة أني أحمل مسؤولية وصولي لمرحلة متقدمة من السمنة، مهما حاولت مداراتها بأسبابٍ أخرى كالوراثة أو الحجر الصحي أو حالتي النفسية السيئة. كان السبب الرئيسي واضحًا، كنت آكل بشراهة. هذه الحقيقة التي داومتُ على كبتها عميقًا ولم أعترف بها حتى أمام الطبيب لمّا سألني عن عاداتي الغذائية.

ما زلتُ أعتاد تغيّر شكلي كل صباح، أقف أمام المرآة وأرى شخصًا جديدًا يوميًا، أقارن ما أراه بصور قديمة على هاتفي، أركّز في تفاصيل جسدي قبل العملية، كيف كنتُ وكيف أصبحت. هل كنت أُحبّني في السابق كما أحب نفسي الآن؟ أرى براءة ما قبل العملية، فأشعر تجاهها بغُربة مشوبة بالحزن، أتمنى لو أن بإمكاني احتضانها وإخبارها ألا تكون قاسية على نفسها.

مرّت عليّ بعد العملية الكثير من الأوقات التي تساءلتُ فيها لو كنت فعلًا محتاجة لهذا الإجراء القاسي حتى أرضى عن نفسي، أتت الأفكار في لحظات مظلمة ممزوجة بندمٍ نابع من الألم خلال الشهر الأول، خاصةً عندما لم أكن قادرة على النوم بطريقة مريحة أو عندما يتلبّسني إرهاقٌ طوال اليوم بسبب عدم قدرتي على تناول الطعام. الأصعب من هذا هو الألم النفسي الناتج عن انعدام قدرتي على الأكل العاطفي (Emotional Eating)، الإجراء الذي اتبعته طوال حياتي كلما واجهني موقف مربِك.

مع الوقت، تضاءل الإحساس بالندم وصار يأتي على فترات متقطعة ومتباعدة، ليس ندمًا حقيقيًا أتمنى معه لو أنّي لم أقص معدتي، إنما تساؤلات وأفكار تطغى عليّ ويصحبها إحباط يجيء أحيانًا كلما طبخت والدتي وجبة أحبها، أو كلما استشعرت نظرات إعجابٍ ممن حولي، لتقودني هذه النظرات إلى خاطرٍ مزعج، ماذا لو رأيتموني قبل العملية، هل كنتم ستشعرون بذات الإعجاب؟

أشعر الآن أن عليّ توثيق حياتي بتقسيمها لجزأين، براءة ما قبل قص المعدة وبراءة ما بعدها. جميع من عرفوني قبل قص المعدة يستمرون بإخباري أني كنت جميلة وصرت أجمل الآن، ومن لا يعرفني قبلًا ينصدم من حقيقة أني أجريت العملية «مش مبيّن عليكِ!» وبين كل هذه التعليقات تبقى تساؤلاتي تحوم في رأسي.

  • الهوامش

    [1]  يكون الوزن طبيعيًا حين يكون مؤشر كتلة الجسم بين 18.5 و24.9، وعندما يزيد عن ذلك يعني إصابة الشخص بالسمنة التي تصل إلى سمنة مفرطة حين يتعدى المؤشر رقم 30.

    [2] الاستيقاظ المفاجئ خلال العملية، شيء نادر يحصل مرة أو مرتين لكل ألف حالة، ويعني أن يعي المريض خلال التخدير أنه يخضع لعملية دون أن يشعر بألمها.

    [3] ينصح أغلب الأطباء بتناول الوجبة على مدى ربع ساعة على الأقل، ومضغ الطعام جيدًا وعدم تناول لقمات متتالية حتى لا تؤدي لانسداد في المعدة أو لعارض أقل خطورة كالمغص المعدي.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية