الجائحة والظلال القاتمة لتفشي السرطان في العراق

الجمعة 18 كانون الأول 2020
العراق السرطان كوفيد البصرة
امرأة عراقية تحمل طفلة في مستشفى لسرطان الأطفال في مدينة البصرة، 19 كانون الأول 2017. تصوير حيدر محمد علي، أ ف ب.

نُشر هذا المقال لأول مرة بالإنجليزية، بتاريخ 2 كانون الأول 2020، في موقع مشروع الشرق الأوسط للأبحاث والمعلومات (MERIP)، وفي العدد الأخير من مجلة Middle East Report. وتنشر حبر ترجمته للعربية بالاتفاق مع الناشر الأصلي.

سجّلت العراق، التي صنفتها مجلة «ذي إيكونوميست» الخريف الماضي أكثر الدول العربية تأثرًا بجائحة كورونا، أكبر عدد من الإصابات بكوفيد-19، وأكبر عدد من الوفيات بفعل الفيروس في الوطن العربي. ومما زاد تعقيد استجابة الحكومة المشتتة والعاجزة؛ سلوك مرضى كوفيد-19 وعائلاتهم.

نشرت صحف عالمية كبرى تقارير ألقت الضوء على ممانعة العراقيين إجراءات الحجر الصحي، ورفضهم ارتداء معدات الوقاية في المستشفيات، وعدم ذهابهم إلى المستشفى قبل تدهور حالتهم الصحية، ونزوعهم إلى العنف ضد الطاقم الطبي عند عجز الأطباء عن شفاء مرضاهم. وقدّمت هذه التقارير عدة تفسيرات لذلك؛ إذ جادلت إحدى تقارير النيويورك تايمز، بشكل غير مقنع، أن المشكلة تنبع من الأعراف والتقاليد القبلية والدينية، مشيرة إلى أن «هالة الإثم المحيطة بالفيروس» في العراق قلّلت التزام الناس بالحجر الصحي.[1]

ولكن هذا التركيز على (سوء) سلوك الأفراد، يتجاهل المعرفة المتراكمة الشائعة حول الأوبئة. إن العراقيين متمرسون بشدة في التعامل مع الأمراض التي لا ترحم أحدًا. بالفعل، كثيرًا ما يقال في العراق أنّ كلّ عائلة تحتوي شخصًا مصابًا بالسرطان، المرض الذي دخل الوعي العام بوصفه وباءً بعد فترة وجيزة من حرب الخليج عام 1991، وأثار المخاوف من احتمال وجود آثار سرطانية لأسلحة اليورانيوم المنضّب.

إن خبرة البلاد في التعامل مع السرطان، الممتدة على مدى ثلاثة عقود، تساعد على فهم السبب وراء معاملة كثير من العراقيين تعليمات وزارة الصحة والمستشفيات، المتعلقة بفيروس كورونا، بتشكك شديد. ومن الأسباب الرئيسية لذلك، فشل الدولة والنخبة السياسية في التعامل مع وباء السرطان في البلاد، على الصعيدين الوقائي والعلاجي، بإهمالهم التعامل مع مسببات السرطان البيئية المرتبطة بالحرب، بالإضافة إلى تدهور الرعاية الصحية المرتبطة بالأورام في البلاد.

قد تسببت هذه الإخفاقات من جهة بتفشي انعدام الثقة بالمؤسسات الطبية، ومن جهة أخرى، أنتجت ممارسات وأشكال معرفة جديدة على مستوى العائلة والمجتمع. وفي السنوات اللاحقة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003، طور العراقيون طرقهم الخاصة في فهم العلاقات السببية التي تساهم في الإصابة بالسرطان أو تفاقمه. وقد وسع العراقيون نطاق فهمهم للسمّيّة، وتجاوزوا التركيز على اليورانيوم المنضّب الذي كان شائعًا في التسعينيات، ليشمل نطاقًا واسعًا من المواد الملوثة، بالإضافة إلى العجز الأخلاقي البيئي على الصعيدين المادي والاجتماعي.

ليس مستغربًا من مرضى يلومون النخبة الحاكمة الحالية على شح العلاج الملائم للسرطان، ألا يثقوا بقدرة نفس النخبة على السيطرة على الآثار المدمرة لجائحة عالمية.

هذا النزوع لدى العائلات إلى الاعتماد على معارفها وممارساتها الشخصية المتعلقة بالأمراض، يطبق الآن على جائحة تحمل خصائصَ وضغوطًا مختلفة بشكل واضح. على سبيل المثال، عندما انتشر تقرير حول نقص الأكسجين في العراق في حزيران الماضي، كان رد فعل عائلات مرضى كوفيد-19 في بعض المستشفيات، تحديد قنوات التوزيع التي يمكن أن تمكنهم من تكديس أسطوانات الأكسجين بجانب سرير المريض في المستشفى.[2] رغم تعبير أطباء عن استيائهم من هذه التصرفات التي تخلق الفوضى في وقت يُحتاج فيه إلى استجابة منسقة، فإن هذه الأفعال مستمدة من سنوات من الخبرة في التعامل مع الشحّ الذي خلقته الحرب، في الأدوية والمعدات الضرورية لعلاج سرطان الدم وسرطان الثدي وغيرها من الأمراض التي تهدد حياة المصابين بها.

لا يمكن أن تُعزى إخفاقات النظام الصحي العراقي في التعامل كما ينبغي مع جائحة كورونا إلى تصرفات عائلات بهدف مساعدة أفرادها المرضى. بل إن سبب الاستجابة غير الفعالة هو الإدارة الفوضوية التي تخدم المصالح الشخصية وحدها، من قبل الأحزاب السياسية التي دُفعت إلى الحكم بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة. هذه النخبة كانت هدفًا لطيفٍ واسعٍ من العراقيين في الاحتجاجات ضد الفساد عامي 2019 و2020، والتي انتشرت قبل الجائحة بقليل.

ومن الجدير بالملاحظة أن عراقيين مصابين بالسرطان انضموا لهذه الاحتجاجات، عارضين بوضوح أمام الجميع أقنعة التنفس الخاصة بهم، ورؤوسهم الصلعاء، وكراسيهم المتحركة. رفع واحد من مرضى السرطان لافتة كتب عليها: «الفاسدون سرقوا علاجي». وليس مستغربًا من مرضى يلومون النخبة الحاكمة الحالية على شح العلاج الملائم للسرطان، ألا يثقوا بقدرة نفس النخبة على السيطرة على الآثار المدمرة لجائحة عالمية.

 بداية وباء السرطان في العراق

ارتبط السرطان بشكل واضح بالانخفاض العام لصحة سكان العراق لقرابة ثلاثة عقود. خلال التسعينيات ومطلع القرن الحادي والعشرين، أثار ارتفاع عدد حالات الإصابة بالسرطان في العراق نقاشًا حادًا حول سبب هذا الوباء. وقدم مسؤولون من وزارة الصحة العراقية تفسيرهم لعامة العراقيين، وللمجتمع الدولي، وهو أن ارتفاع عدد حالات الإصابة بالسرطان سببه واضح ومحدد، وهو استعمال الولايات المتحدة ذخائر اليورانيوم المنضّب، خلال حرب الخليج عام 1991.

وبالاعتماد على دراسات نشرها علماء عراقيون، أكد وكيل وزارة الصحة العراقية شوقي صبري في مؤتمر عام 1998 أن «استعمال اليورانيوم المنضّب قد تسبب بضرر يتعذر إصلاحه على الشعب العراقي وبيئته. (..) إن استطلاعاتنا تظهر ارتفاعًا هائلًا في عدد حالات الإصابة بسرطان الدم، خصوصًا بين الأطفال، في مناطق جنوب العراق التي قصفها الحلفاء».[3] كما ألقى مسؤولون عراقيون الضوء على كيفية مساهمة العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على البلاد في تدهور القدرة الطبية على علاج الأورام، حيث أصبحت المستشفيات عاجزة عن سدّ الشحّ في أدوية العلاج الكيميائي، وتوفير الأدوات الطبية الأساسية.

في السنوات اللاحقة للغزو الذي قادته الولايات المتحدة في عام 2003، طور العراقيون طرقهم الخاصة في فهم العلاقات السببية التي تساهم في الإصابة بالسرطان أو تفاقمه.

إن القدرة على توفير القدر الكافي من الغذاء والرعاية الصحية لعامة الشعب، بما في ذلك إدارة وعلاج الأمراض، كانت محورية في منطق سلطة الدولة منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن الماضي.[4] وعندما بدأت وزارة الصحة التابعة لصدام حسين بفقدان قدرتها على توفير خدمات عامة عالية الجودة في التسعينيات، بسبب العقوبات المفروضة على البلاد، تركها ذلك في موقع ضعف سياسيًا. ولكون السرطان رمزًا مؤثرًا ومفهومًا عالميًا، كانت رسالة الحكومة للشعب العراقي، وللعالم، أن اللوم لا يقع عليها، بل إن الحرب التي قادتها الولايات المتحدة، والعقوبات الدولية، تسببا معًا في تفشّي السرطان، ودمرا نظام الرعاية الصحية.

ردّ الجيش الأمريكي على هذه التهم بقراءة ضيقة للبيانات العلمية حول اليورانيوم المنضّب. قال المتحدث باسم البنتاغون كينيث بيكون خلال ذروة انتشار الجدل حول الموضوع عام 1998: «لا نعتقد أن التعرض الطبيعي للذخائر يسبب السرطانات، ولم نجد أي شيء يؤكد [الادعاءات العراقية]».[5] 

يتوقف الكثير على كيفية تعريف التعرض الطبيعي. في الفترة السابقة لغزو عام 2003، كرر مسؤولون في الجيش الأمريكي رفضهم المخاوف المرتبطة باستعمال اليورانيوم المنضّب، استنادًا إلى دراسة أجرتها الأكاديمية العلمية البريطانية «الجمعية الملكية». ولكن هذه الدراسة حسبت الخطر المفرط للسيناريوهات الافتراضية للتعرض لليورانيوم المنضّب، بناءً على فترة تعرّض الجنود لها خلال الحرب، وليس التعرض طويل الأمد الذي يعاني منه سكان الأماكن التي تُركت فيها الذخائر السامة. بينما خلص أصحاب الدراسة إلى أن خطر الإصابة بالسرطان قليل بالنسبة للجنود في أرض المعركة، فقد أقروا بأن عواقب التعرض طويل الأمد بالنسبة للمدنيين تظلّ إلى درجة كبيرة غير مؤكدة.[6]

في نفس الوقت، تُرك العراقيون رازحين تحت عبء المرض المتنامي، والنقص الحاد في العناية الصحية. ونقلت البي بي سي، عام 2000، أن الأطباء العراقيين سموا جناح سرطان الدم في مستشفى صدام المركزي للأطفال بجناح الموت، حيث وصل معدل الوفيات فيه إلى 100%  نتيجة النقص الذي تسببت به العقوبات.

في وجه أشكال الحرمان هذه، بدأت العائلات بتطوير المعرفة وشبكات العلاقات اللازمة للحصول على الأدوية، والوصول إلى العلاج، والذي يشمل الوصول إلى الأسواق السوداء، وخطوط التوزيع العابرة للحدود.[7] كانت العملية التدريجية في نقل مسؤولية العناية بالمرضى من المؤسسات الطبية إلى العائلة والمجتمع قد بدأت.

السرطان ما بعد 2003

لم تختف قصة اليورانيوم المنضّب والسرطان من الاهتمام العلمي والصحفي في الأعوام التالية للغزو الأمريكي للعراق عام 2003. أما بالنسبة للنخبة السياسية والحكومة، فإن مخاطر الوباء قد تلاشت. آلت الدولة العراقية، مع التزاماتها المماثلة نحو المجتمع عامة، إلى أحزاب سياسية منقسمة ومتناحرة، يملك كلّ منها مصالح اقتصادية محددة، ومجالات إقليمية من النفوذ، وشبكات من المحسوبية.[8] 

لا يمكن أن تُعزى إخفاقات النظام الصحي العراقي في التعامل كما ينبغي مع جائحة كورونا إلى تصرفات عائلات بهدف مساعدة أفرادها المرضى، بل إن السبب هو الإدارة الفوضوية التي تخدم المصالح الشخصية وحدها.

إن وباءً صُوّر لسنوات بوصفه خطرًا محدقًا يهدّد الشعب العراقي عامةً، لم يعد يتوافق مع الأجندات السياسية ضيقة الأفق في فترة ما بعد 2003. بالإضافة إلى ذلك، مع إظهار التحالف الذي قادته الولايات المتحدة عدم التزامه بحماية وإعادة بناء البنية الطبية التحتية للبلاد، فإن وزارة الصحة وأصولها صارت هدفًا للأحزاب السياسية الناشئة (والمسلحة)، خصوصًا من التيار الصدري وجناحه العسكري «جيش المهدي». تدهورت الشبكة المعقدة من المستشفيات التي تديرها الدولة بسرعة شديدة بين عامي 2003 و2007. فرّ عشرات الأطباء، من بينهم أطباء أورام، من البلاد بسبب التهديد والعنف الذي يتعرضون له في مكان عملهم من قبل الميليشيات المتنافسة، وبسبب نقص المعدات، واستشراء الفساد.

بينما اختفى السرطان عن الخارطة السياسية خلال الفترة ما بعد عام 2003، فإن الممارسات والأعراف السائدة حول المرض على مستوى المجتمع، خضعت لتحولات سريعة وواسعة التأثير. وفقدت سردية المرض التي قدمتها وزارة الصحة ما قبل الغزو، والتي رمت إلى ربط الوباء بسُمّ محدد فرضه جيش أجنبي معين، هيمنتها على شعب نظر بشكل متزايد إلى مصادر التسمّم بوصفها متعددة المستويات ومشتتة عبر مختلف فترات الحرب وعديد الجهات العسكرية والسياسية الفاعلة.

خلال عملي الميداني ومقابلاتي التي أجريتها في السنوات السبع، بين عامي 2012 و2018، من بين أكثر من 100 مريض عراقي بالسرطان وعائلاتهم، في إربيل وكركوك والسليمانية وبغداد والبصرة، نادرًا ما ذُكر اليورانيوم المنضّب عند مناقشة مسببات السرطان.[9] حتى المرضى من المناطق الجنوبية التي تعرضت لقصف شديد خلال حرب الخليج عام 1991، لم يشيروا إلى ذلك القصف فقط، بل إلى الذخائر من حرب العراق وإيران بين عامي 1980 و1988، والشظايا السامة الناتجة عن التفجيرات الإرهابية ما بعد عام 2003، والملوثات الصادرة عن حقول النفط والمصانع التي أساءت إدارتَها النخبةُ الحاكمة حاليًا، وغيرها. أصبح جنوب العراق منطقة معقدة وسامّة على مراحل متعددة تاريخيًا.

هذا الوعي المجتمعي حول إرث السميّة متعدد المستويات يوافق، بصورة وثيقة، النتائج العلمية الحديثة التي توصل لها باحثون عراقيون وعالميون، والتي وضحت بتفصيل الآثار الصحية لمجموعة أوسع من السموم غير اليورانيوم المنضّب.[10] منذ عام 2010، اكتسب الإنتاج العلمي حول السرطان والتعرض البيئي في العراق زخمًا بصورة تدريجية، بعد سنين من الخمود. بحثت عدة دراسات حديثة معدلات الإصابة بالسرطان والتعرض البيئي، ليس فقط في جنوب العراق، ولكن أيضًا في مناطق أخرى تأثرت بصورة فريدة بالغزو عام 2003.[11] أشارت إحدى الدراسات إلى «الزيادة في معدلات الإصابة بالسرطان، ووفيات الرضع، المرتفعة بشكل مفزع» في الفلوجة، وحددت اليورانيوم المنضّب «كأحد المسببات المحتملة ذات الصلة».[12]

لكن، بصفة عامة، لا يثق العراقيون العاديون بالوضع الراهن للعلم في البلاد، وخصوصًا بقدرته على توجيه وتشكيل السياسات. في الممرات وغرف انتظار المستشفيات، تختلط النقاشات حول العوامل المسببة للمرض بتعبيرات الشك واليأس بسبب عجز الدولة الكامل عن فهم الوباء، والتعامل معه. ويُناقش الانهيار الملاحظ للعلم، وبالتالي استحالة التيقن عمومًا، بنبرة حزينة، ما يوحي بارتباط مجتمعي كامن مع التاريخ الطبي والتجريبي الصارم. قال أحد المرضى من البصرة، وهو مالك متجر صغير للملابس: «قد تكون الانفجارات، أو الخبز، أو حتى الدخان المنبعث من آبار النفط [هي السبب]. نحتاج إلى دراسات، ولكن (..) [يسكت قليلًا] العراق انتهى». حتى بالنسبة لمالك المتجر الذي لا يملك شهادة جامعية، فإن موت العلم ونهاية العراق يسيران جنبًا إلى جنب.

عادةً ما يحاول المرضى الوصول إلى ثقة نسبية حول مسار علاجهم عبر اللجوء إلى مجموعة أدوات وأحكام تشخيصية متجاوزة للمناطق.

إلى أن تمنح الفرق المحلية والدولية من العلماء الموارد اللازمة لتطوير تحقيقات شاملة أكثر، لا يملك العراقيون العاديون خيارًا غير مسح البيئة المحيطة بهم بحثًا عن مخاطر ومواد مسرطنة محتملة، باستخدام تصوراتهم الشخصية حول الموضوع. ومن الجدير بالذكر، أن الفهم المحلي للسميّة مجزّأ جغرافيًا ومرن، بناءً على التقدم المستمر للحرب والصراع. على سبيل المثال، مع صعود تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» في 2014، أدرج المرضى من المناطق المتأثرة بالصراع هذه الوقائع في فهمهم للمرض. في مقابلات عام 2016 في مركز كركوك التخصصي للأورام، وهو مركز خاص بعلاج الأورام، استضاف العديد من المشردين من المناطق التي سيطرت عليها داعش، قالت إحدى المريضات، وهي ربة منزل، تبلغ من العمر 39 عامًا، ومصابة بسرطان الثدي أن «البيئة الملوثة في المنطقة التي جاءت منها «الحويجة»، ملوثة بالدخان الناتج عن قصف داعش، وهذا قد يكون من مسببات السرطان. وبسبب انقطاعات الكهرباء في الليل، نضطر للنوم على سطح منزلنا. عندما نصحو في الصباح، نلاحظ، طبعًا، أن لون القلّة، وهي غطاء قماشي نلف أنفسنا به ليحمينا من لسعات الحشرات، قد تغير من الأبيض إلى الأسود الداكن».

أشارت المريضة أيضًا إلى التأثير المحتمل للرعب الذي عايشته خلال هروبها من الحويجة، بالإضافة إلى الأسى المترسب على مدى السنين بفعل الحرب وفقدها أخاها عام 2003. يُعتقد أن المشاعر الجياشة تقوّض دفاعات الجسم، ما يشير أيضًا إلى الإرث المتداخل والمتعدد لفكرة أن الحرب توهن الجسم. تقيم المريضة في الوقت الحالي في مدينة كركوك، ولا تزال عرضة لانتهاكات الصراع، حيث تزعم أن الأطباء والمواطنين العاديين يعاملونها بشكل «غير إنساني» بسبب ارتباط المنطقة التي جاءت منها بداعش، وأن بيئة الريبة هذه أثرت على قدرتها على التأقلم مع السرطان، والشفاء منه. ولكنها تصرّ أن حالتها عادية بنفس الوقت، «يعيش كل العراقيون تحت هذا الضغط. مستشفى وسخ، طبيب لا يعاملك كإنسان، السياسيون يبيعون الأدوية بهدف الربح. الوضع في العراق متعب». بالنسبة لهذه المريضة المصابة بالسرطان، والكثيرين غيرها من العراقيين، فإن الشعور بالسمّيّة يتجاوز جدًا الملوثات الفيزيائية. تلوّث كل من البيئة المادية والأخلاقية في العراق يعود لعقود من الحرب والإهمال من النخبة الحاكمة.

سبل مرتجلة وجديدة في العناية الصحية

البحث عن العناية الصحية الملائمة بالنسبة لأغلب مرضى السرطان العراقيين تجربة كارثية ومحيرة. يتطلّب الوصول إلى الرعاية الصحية المختصة بالسرطان بعد 2003 في العراق بشكل متزايد السفر عبر البلاد والمنطقة. ما قبل عام 2003، كان الحصول على إحالة طبية أمرًا مباشرًا، تجري إدارته بصورة منهجية. يتطلب العلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي إحالة إلى بغداد، أو الموصل، أو البصرة.

أما بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة، في وقتٍ انحدرت فيه هذه المدن نحو العنف، وتدهورت حالة المستشفيات، أخذ المصابون بالسرطان وعائلاتهم بالتفكير بمجموعة أوسع من الخيارات. طورت المدن في إقليم كردستان شبه المستقل، والمستقر نوعًا ما، مراكز أورام عامة نافست مراكز بغداد، ما غيّر وجهة العديد من المرضى نحو الشمال، باتجاه أربيل والسليمانية، بالإضافة إلى وجهات خلف الحدود، مثل بيروت وإسطنبول. ومن الجدير بالملاحظة، أن سبل الإحالات الطبية التي يديرها ويوجهها الأطباء مرتجلة ومؤقتة في الغالب، ومدفوعة بحسابات وتخمينات المرضى أنفسهم.

حتى تُمنح الفرق المحلية والدولية من العلماء، الموارد اللازمة لتطوير تحقيقات شاملة أكثر، لا يملك العراقيون العاديون خيارًا غير مسح البيئة المحيطة بهم بحثًا عن مخاطر ومواد مسرطنة محتملة، باستخدام تصوراتهم الشخصية حول الموضوع.

وبسبب حاجتهم للتنقل، لا يملك العراقيون ترف الاعتماد على العلاقات المحدودة من داخل عشائرهم أو عائلاتهم أو طوائفهم. أصبحت غرف الانتظار في المستشفيات، والفنادق القريبة من مراكز علاج الأورام مناطق يتبادل فيها أهل المرضى أرقام الهواتف وسبل التواصل في حال الحاجة لذلك في الوقت الحاضر، أو في المستقبل. شهدتُ ذلك، على سبيل المثال، في مستشفى علاج السرطان في السليمانية، حيث كان المرضى يستعينون بغيرهم بناء على المنطقة التي جاؤوا منها، فقد يحتاج مريض يتحدث العربية من بغداد إلى المساعدة في تقديم طلب للإقامة من كردي يعيش في السليمانية، بينما قد يحتاج الكردي إلى نوع محدد من الأدوية يجب جلبه من بغداد.

هذه العلاقات العابرة للمناطق والطوائف لا تتشكل حول أشكال المساعدة المبنية على أسس مصلحية فحسب. كما أظهرت المقابلة مع مريضة سرطان الثدي من الحويجة، هناك إجماع بين مرضى السرطان العراقيين على أن تدهور المؤسسات الطبية لم يجرد المستشفيات من قدراتها التقنية فحسب، بل من قدراتها المعنوية أيضًا، حيث صار الأطباء منهكين، وقليلي الصبر تحت ضغط عقود من إهمال المنشآت الطبية والفساد. ولأن الأطباء صاروا عاجزين عن العناية «بحالة الروح»، التعبير الذي يصر العراقيون أنه يشكل «نصف العلاج»، تضطر العائلات للبحث في أماكن أخرى ليوفروا هذا البعد الجوهري من العلاج.

إن التنقل المستمر بين المناطق وعبر الحدود مرهق للغاية، ومكلف ماديًا.[13] المرضى الذين طلبوا عدة معاينات في مستشفيات ومناطق مختلفة، غالبًا ما كانوا يبحثون عن التحقق خلال مرحلة حرجة بوجه خاص في مسار علاجهم. قالت إحدى مريضات سرطان الثدي: «كنت أراجع طبيبًا في بغداد، ونصحني باستئصال الثدي، وفكرت، هذه العراق، والأطباء لا يملكون معدات جيدة، أحتاج لرأي آخر. وبعدها جئت لأربيل، وقيل لي إنني لا أحتاج لاستئصال الثدي. وفي تلك اللحظة كنت في حيرة من أمري. شاورت بعض أصدقائي، وطبيبًا آخر في بغداد، وأخيرًا قمت بالعملية في بيروت، وأخذت بنصائح الأطباء في بيروت حول العلاج بعد عودتي إلى بغداد». عادة ما يحاول المرضى الوصول إلى ثقة نسبية بمسار علاجهم عبر اللجوء إلى مجموعة أدوات وأحكام تشخيصية متجاوزة للمناطق.

اضطرت سبل الرعاية هذه على التأقلم، أكثر فأكثر، مع تسييس الوصول إليها. غالبًا ما يحاول أخصائيو الأورام العراقيون جاهدين التأكيد على أنهم يستقبلون المرضى ويعالجونهم دون تحيّز. ولكن من وجهة نظر المريض، فإن العناية الصحية لا يستعصي الوصول إليها عندما يرفض المستشفى استقبالك فحسب. بعد هزيمة داعش في عام 2017 بالذات، أنشأت مجموعات مشتتة من جماعات مسلحة، انتشرت في المناطق الوسطى والشمالية، نقاط تفتيش، ما جعل التنقل بين مراكز العلاج مستحيلًا على الأشخاص الذين لا يملكون الانتماء السياسي أو العلاقات اللازمة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التفضيل بناءً على الانتماء السياسي غالبًا ما يظهر بطرق مستترة. أغلب أنواع السرطان تتطلب العلاج على فترات طويلة، ما يعني أن القدرة على الوصول بشكل دائم إلى كامل الأدوية والفحوصات المطلوبة أمر بالغ الأهمية. خلال الفترة التي سيطرت فيها داعش على الموصل، شهدت المستشفيات الخاصة بالأورام في المناطق القريبة، في إربيل والسليمانية، زيادة مفاجئة في أعداد المرضى القادمين من الموصل والمدن المنكوبة الأخرى. لم يُرفض علاج هؤلاء المرضى المُهجرين بشكل مباشر أبدًا على الأغلب، ولكنهم عادة ما أُجبروا على شراء نسب كبيرة من أدوية العلاج الكيميائي التي احتاجوا إليها، بينما مُنح السكان المحليون كل الأدوية التي احتاجوها من الموردين الحكوميين. ولهذا السبب بالذات، كثيرًا ما تجد المرضى العراقيين الأضعف سياسيًا والأفقر في مراكز علاج باهظة التكلفة في بيروت وإسطنبول. حتى لو كانت تكلفة هذه المراكز عالية للغاية، فهي توفر لهم العلاج على نحو يمكن توقعه.

 السرطان وكوفيد-19

تشير التقارير الصحفية حول أزمة كوفيد-19 الحالية في العراق، إلى أن المواطنين العاديين يرفضون الالتزام بالحجر الصحي، ونظام فحص المرض بسبب الممارسات القبلية ومفاهيم العار التي شكلتها الثقافة. ولكن الظاهرة الأهم، والأكثر انتشارًا، هي أن العراقيين اعتادوا على أشكال ارتجالية من البحث عن العلاج، والتي عادةً ما تتضمن التحايل على نصائح الأطباء بسبب عدم ثقتهم بالنظام، واعتمادهم الشديد على العائلة، والأصدقاء، وحتى الغرباء من مناطق بعيدة، في الحصول على المساعدة التقنية والدعم المعنوي.

العراقيون لا يشككون بالطب بصورة مطلقة. إن شكوكهم محددة تاريخيًا، وتطورت كرد فعل على أوجه القصور وتسييس الرعاية الصحية بسبب الحروب. كما أنهم لا ينكرون الحاجة إلى التحقق علميًا بشكل صارم قبل تحديد مسبب المرض ومدى انتشاره بصورة نهائية. ولكن في ظلّ عدم وجود دولة ملتزمة بتوفير الرعاية الصحية لمواطنيها، وإجراء الأبحاث العلمية اللازمة، فإن العراقيين متروكون ليعيشوا في ظلّ احتمال أن تكون عدة مواد ملوّثة، بالإضافة إلى التقصير البشري في المحيط المجتمعي، خلف الإصابة بالمرض أو مفاقمة أعراضه.

وفي سياق كوفيد-19، تجاهلت وزارة الصحة هذه الوقائع التي يعيشها العراقيون، وتابعت عملها كأنها في دولة لم تمس فيها ثقة مواطنيها بقدرة الدولة على فهم الوباء والسيطرة عليه. 

العراقيون لا يشككون بالطب بصورة مطلقة. إن شكوكهم محددة تاريخيًا، وتطورت كرد فعل على أوجه القصور وتسييس الرعاية الصحية بسبب الحروب.

حدّ نهج الوزارة، بشدة، من استقلال المرضى، وقدرتهم وعائلاتهم على الاعتماد على شبكاتهم الطبية الشخصية، واستراتيجيات البحث عن العناية الصحية الخاصة بهم. أوعز إلى العراقيين في بغداد، الذين تظهر عليهم أعراض المرض، بالتوجه إلى أحد المستشفيات الحكومية الثلاثة المسؤولة عن الفحص والحجر الصحي، بينما منعت كل المستشفيات والمراكز الصحية الخاصة من إجراء الفحوص المرتبطة بكوفيد-19، أو تقديم العلاج للمصابين به. وحظر التنقل بين المناطق والسفر إلى الدول المجاورة، والذي كان استراتيجية أساسية للعائلات الباحثة عن الرعاية الصحية خلال سنوات الصراع.

وبسبب انعدام الثقة بنظام الرعاية الصحية، لم يتفاجأ العديد من العراقيين العاملين في القطاع الطبي من أن مرضى كوفيد-19 يرفضون، ببساطة، الذهاب إلى المستشفى ما لم يكونوا يلفظون أنفاسهم الأخيرة، ولا خيار آخر أمامهم. كما لم يكن مفاجئًا أن تحايل عائلات المرضى، بعد إدخالهم إلى المستشفى، على إجراءات السيطرة على العدوى بهدف أن يتأكدوا من توفر الأكسجين وغيره من أشكال الدعم التقني والمعنوي لمريضهم، ليست من قبيل الجهل، بل مردُّها اعتيادهم نهجًا ارتجاليًا في البحث عن العناية الصحية لفترة طويلة.

إذا أرادت وزارة الصحة تحسين الالتزام ببروتوكولات كوفيد-19 والأوبئة المستقبلية، فيجب على مسؤولي الصحة أن يتوقفوا عن معاملة المشكلة بوصفها تقنية أو مرتبطة بنقص ثقافي. إن جوهر المشكلة هو انعدام ثقة المجتمع الذي نمى في سنوات الحرب، وإهمال القطاع الصحي.

مع ذلك، هناك تطور إيجابي يمكن مشاهدته، وهو أن الأطباء العراقيين يُظهرون أكثر دعمهم لمرضاهم ضد الطبقة السياسية على العلن. خلال احتجاجات تشرين الأول 2019، خرج آلاف الأطباء العراقيين إلى الشوارع مرتدين معاطفهم البيضاء، ليلقوا الضوء على الفساد وإهمال القطاع الصحي من قبل النخبة السياسية، والآثار الوخيمة لذلك على رعاية المرضى. ولكن، حتى تؤدي الضغوط الشعبية إلى تغيرات مجدية، فإن العائلات العراقية التي تواجه كوفيد-19 والسرطان، وغيرها من الأمراض، ستستمر، على الأغلب، بالاعتماد على ممارساتها وشبكات علاقاتها الخاصة من أجل الاستجابة للأمراض الخطيرة والتعامل معها. 

*ماك سكيلتون هو مدير معهد الدراسات الإقليمية والدولية في الجامعة الأميركية في السليمانية، العراق، وزميل زائر في جامعة لندن للاقتصاد- مركز الشرق الأوسط.

  • الهوامش

    [1] Alissa Rubin, “Stigma Hampers Iraqi Efforts to Fight the Virus,” The New York Times, March 14, 2020.

    [2] “A Difficult Day for Corona Patients in Iraq and Warnings of a Second Wave,” Al-Jazeera, June 28, 2020. [Arabic]

    [3] A. Yaqoub, et.al., “Depleted Uranium and the Health of People in Basrah: Epidemiological Evidence; The Incidence and Pattern of Malignant Diseases Among Children in Basrah with Specific Reference to Leukemia During the Period of 1990–1998,” Medical Journal of Basrah University (MJBU) 17/1,2 (1999). Quote from James Ciment, “Iraq Blames Gulf War Bombing for Increase in Child Cancers,” BMJ 317 (December 12, 1998).

    [4] Omar Dewachi, Ungovernable Life: Mandatory Medicine and Statecraft in Iraq (Stanford: Stanford University Press, 2017).

    [5] James Ciment, “Iraq Blames Gulf War Bombing for Increase in Child Cancers,” BMJ 317 (December 12, 1998).

    [6] Royal Society, “The Health Hazards of Depleted Uranium Munitions,” May 22, 2001.

    [7] Hayder Al-Mohammad, “What Is the ‘Preparation’ in the Preparing for Death?” Current Anthropology 60/6 (2019).

    [8] Mac Skelton, Zmkan Ali Saleem, “Iraq’s Political Marketplace at the Subnational Level: The Struggle for Power in Three Provinces,” Conflict Research Programme, London School of Economics and Political Science, London (2020).

    [9] James Mac Skelton, Cancer Itineraries Across Borders in Post-invasion Iraq: War, Displacement, and Geographies of Care (Doctoral dissertation, Johns Hopkins University, 2018).

    [10] Ahmed Majeed Al-Shammari,”Environmental Pollutions Associated to Conflicts in Iraq and Related Health Problems,” Reviews on Environmental Health 31/2 (2016).

    [11] R. A. Fathi, L. Y. Matti, H. S. Al-Salih, and D. Godbold, “Environmental Pollution by Depleted Uranium in Iraq with Special Reference to Mosul and Possible Effects on Cancer and Birth Defect Rates,” Medicine, Conflict and Survival 29/1 (2013).

    [12] C. Busby, M. Hamdan and E. Ariabi, “Cancer, Infant Mortality and Birth Sex-Ratio in Fallujah, Iraq 2005–2009,” International Journal of Environmental Research and Public Health 7/7 (2010).

    [13] Mac Skelton et al, “High-Cost Cancer Treatment Across Borders in Conflict Zones: Experience of Iraqi Patients in Lebanon,” JCO Global Oncology 6 (2020).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية