حين كانت فلسطين وُجهة للاجئين الجزائريين

الأحد 26 كانون الثاني 2020
علم الجزائر من أمام الحرم الشريف في القدس. تصوير فراس الجعبة.

بدأ استعمار فرنسا للجزائر عام 1830، وقد لاقى الجزائريون منها ما تعرفه الشعوب المستعمَرة من تعذيب وتهجير، وفي سنوات لاحقة فرض المستعمرون على الجزائريين التجنيد الإجباري. وقد هاجر الجزائريون في مراحل مختلفة من عمر هذا الاستعمار وإلى أماكن مختلفة، كانت بينها بلاد الشام. وقد شجّع الجزائريين على اللجوء إلى بلاد الشام لجوءُ قائدهم، الأمير عبد القادر الجزائري، إلى دمشق عام 1860.

ينقل الأديب الراحل سلمان الناطور في كتابه «سيرة الشيخ مشقق الوجه»،[1] رواية أحد المغاربة الذين أجرى مقابلة معهم: «وصل أحفاد الأمير عبد القادر إلى البلاد، ورفض بعضهم أن يكونوا لاجئين، وقرروا العودة إلى الجزائر، وفي ساحات حيفا نصبوا بيوت الشعر في انتظار باخرة تنقلهم إلى بلادهم». وتتابع الرواية القول إنهم التقوا، بعد نفاد نقودهم، مع مصطفى باشا، رئيس المجلس البلدي في مدينة حيفا، وبعد أخذ وردّ حصلوا على قطعة أرض. وبحسب الرواية فقد نصحهم مصطفى باشا أن يطالبوا بخربة هوشة ويقول«كانت عامرة إذ أحياها المغاربة وكانت ملجأ أهل المنطقة».

ورغم أنها استمرت إلى ثلاثينيات القرن العشرين إلّا أنه، وبحسب الباحث عبد الله مغربي،[2] فإن هجرة أهل المغرب العربي، وخصوصًا الجزائريين، تكثّفت بين الأعوام 1860 و1882. وقد تركّزت إقامتهم في شمال فلسطين، فأسسوا في طبريا خمس قرى، وفي حيفا وقضائها سكنوا قرى خربة هوشة وبئر المكسور، وأسسوا كذلك خمس قرىً في صفد. وبحسب ما يروي الكتاب، نقلًا عن الرحالتين كوندير وكيتشنير بعد زيارتهما للمنطقة، فإن نصف المسلمين في صفد والبالغ عددهم 3000 كانوا جزائريين.

لم يأتِ الجزائريون -في ذلك الوقت وبهذا العدد الكبير- حبًا في الهجرة أو لطلب الرزق، بل خوفًا على أنفسهم وابتعادًا عن بطش المُستعمر، فمن بين المهاجرين الموثقة رحلاتهم 237 شخصًا، أمضو 84 يومًا عام 1898 وهم في طريقهم من تونس إلى بيروت برًا، وهذا الزمن الطويل يوحي بحجم المتاعب والصعوبات، التي لا يتكبدها أحد إلا مجبرًا أو معذبًا.

«فشرت تل أبيب. إنها لا تساوي شارعًا واحدًا من شوارع الجزائر». هذا ما كانت تقوله لابنها والدة محمود المغربي، القائد في الحزب الشيوعي الفلسطيني، وهي ذات أصل جزائري. وانطلاقًا من هذا الحنين للوطن، حافظ الجزائريون على تاريخهم وعاداتهم وتراثهم المطبخي بقيت في فلسطين طويلًا.

وكان الجزائريون رفاق إخوانهم الفلسطينيين في التعرّض لقمع الاحتلال وتهجيرهم. إذ لجأوا معهم إلى عدة وجهات لجوء بعد النكبة، كان من بينها سوريا، إذ أقاموا مع الفلسطينيين في مخيم اليرموك، الذي كانت أزقته تعجّ بروائح الأطعمة الجزائري، وتُسمع في أزقّتها عبارات مغربية وأمازيغية.

يقول خالد عمر* (28 عامًا) المولود في دمشق لأب فلسطيني مُهجر من قضاء صفد، ينحدر من أصل جزائري: «جدي بحكي أمازيغي مع إخوته بس، وكان وهو يحكي عربي يستخدم مصطلحات أمازيغية ما كنا نفهمها، مثل كلمة «سوسنفلي» كان يحكيها وهو معصب، ومعناها اسكت. رغم أنه من مواليد فلسطين وتوفي عام 1997، لكن قبل النكبة كان هناك محافظة على التاريخ واللغة الأمازيغية، بسبب طبيعة الحياة، فمخازن الثقافة والتراث في حياة جدي كانت مأخوذة من الأجداد». 

ويعتقد خالد أن الجزائريين في فلسطين حافظوا على هويتهم لأن المجتمع الفلسطيني لم يكن ضاغطًا، ولم يكن يجبرهم على نكرانها، «والجزائريين ما كانوا يشعروا بالغربة في فلسطين، بالعكس كانوا يعيشوا حياتهم بالشرق وهم بحملوا روح أوطانهم».

تنحدر عائلة خالد من قرية ولاد سيدي عيسى في الجزائر. وقد هاجرت العائلة منتصف القرن التاسع عشر وسكنت قرية كفر سبت قضاء طبريا عام 1861. وبحسب عبد الله مغربي[3] فقد أعفت السلطات العثمانية الجزائريين من الضرائب لمدة ثمان سنوات ومن الخدمة العسكرية مدة عشرين عامًا، ثم هاجرت عائلة خالد إلى دمشق وعاشت في مخيم اليرموك إبان النكبة، وهُدمت القرية على يد العصابات الصهيونية، وبقي عدد قليل منهم يسكن الناصرة كما أوضح المؤرّخ وليد الخالدي.[4]

انخرط المهاجرون الجزائريون في المجتمع الفلسطيني وكانوا جزءًا منه، فكانوا تجارًا وفلاحين ورعاة أغنام. كما أنهم شاركوا في النضال الفلسطيني حتى وإن لم يستوطنوا فلسطين، فبحسب المؤرّخ حسني حداد فإن قرابة الألف سوري تحركوا لنصرة إخوانهم الفلسطينيين ضد المشروع الصهيوني، وتحديدًا وقت ثورة البراق 1929، وكان بين هؤلاء المتطوعين جزائريون مقيمون في سوريا منذ عهد الأمير عبد القادر الجزائري.

ويؤكد عبد الله مغربي أن ليس هناك أي مصدر صهيوني أو غير صهيوني يمكنه أن يدعي أنه حصل على قطعة أرض واحدة من أي فلاح جزائري في فلسطين، بل واجهوا ذلك بكل قوة. فيكتب السمسار الصهيوني يوسف نحماني في مذكراته،[5] أن عربيةً في قرية عولم قضاء طبريا -التي يسكنها جزائريون- باعته أرضها عام 1946، حسب توكيل غير قابل للرد، وعلم القوميون بالأمر، فقبضوا عليها مع بعض الشهود العرب في وسط الشارع، وأجبروها على الظهور أمام مدير الطابو وإلغاء التوكيل.

إلّا أن القرى الجزائرية في الشمال وكالكثير من القرى الفلسطينية، كانت تعاني من الإقطاعية، وبعض هذه الإقطاعيات باعت أراضي للصهاينة، فبحسب ما يروي سمسار الأراضي يوسف نحماني فإنه اشترى أرضًا من الأمير عبد الرزاق، حفيد الأمير عبد القادر الجزائري.

عائلة خالد عمر أيضًا شاركت في هذا النضال واضطرت بسبب تبعات هذه المشاركة إلى تغيير اسم العائلة من بن عيسى إلى عمر. وعن سبب ذلك يقول: «والديّ خبرونا أننا إضطررنا إلى تغيير كنيتنا عام 1936 لأنه جدي كان مطلوب ومطارد من قبل الانتداب البريطاني، والآن احنا مسجلين بالأوراق الرسمية عمر بدل بن عيسى».

بعد الاستقلال اهتم الجزائريون بعودة اللاجئين. وفي أحد خطاباته قال الرئيس الجزائري السابق عبد العزيز بوتفليقة عام 1999: «أنتم الأولون، يا من انتُزعت صفحتكم من أول الكتاب الجزائري وكنتم طرفًا كاملًا في الحركة الوطنية الجزائرية، أنتم من نابكم التشتيت، ولا بد من أن يعاد لكم حقكم واعتباركم، وفوقه معلقة سكر»، وما زالت الجالية والجزائرية وأبناؤهم ينتظرون تنفيذ هذا الوعد بشكل كامل، إلا أنه طبق جزئيًا في بعض الأحيان وكان خالد واحدًا من أصل 1631 شخص، بحسب مغربي،[6] تمكنوا من استعادة جنسيتهم الجزائرية ما بين عام 1981- 2010.

وعن العودة والحصول على الجنسية الجزائرية من جديد يروي عمر أن قرارًا صدر في الجزائر عام 2007، يعيد للفلسطينيين من أصول جزائرية الجنسية في حال امتلكوا اوراق ثبوتية تثبت هذا الانتماء أو كانت لديهم عائلات جزائرية ممتدة، يمكن لها أن تشهد بجزائريتهم.

ورغم أن والده وجدّه رفضوا الجنسية الجزائرية، لأنهم يعتقدون أنهم فلسطينيّون أكثر من كونهم جزائريين، إلّا أن خالد عاد إلى الجزائر، وعن هذه الرحلة يقول: «مشكلة أن الأمازيغ هناك ما بحبوا يتكلموا اللغة العربية، فتصعبت في البحث عن كبار السن، لكننا وجدنا شخص يدعى محمد بن عيسى أحد أقرباء زوجة جدي الأكبر، كان عمره 90-89 سنة، كان يسمع من والده عن أجدادي، رغم أنه لم يقابل أحدًا منهم لكنه شهد معنا لأنه سمع ممن سبقوه أن هذه العائلة هاجرت وأنها كانت مقاومة للاستعمار الفرنسي».

ويروي خالد«بقولوا إنا بالجزائر كنا نزرع سمسم، ولما رجعت للجزائر تأكدت، ولاحظت أنهم مشهورين أيضًا في رعاية المواشي، وهاد متطابق مع شغل أجدادي في كفر سبت في طبريا، رعاية المواشي للقرى المحيطة، لإنه على ما يبدو أن هذه المهنة هي مهنة يتقننوها».

يرى خالد أنه فلسطيني أكثر من كونه جزائريًا، وجزائريته نمطٌ أكثر من كونها جنسية، ويقول: «نحن غرباء في الجزائر بنفس المقدار الذي نحن فيه غرباء عن فلسطين بفعل التهجير، لكنني في ذات الوقت أجمع بدمي وانتمائي العلاقة بين الحبيبين (الشعب الجزائري والشعب الفلسطيني) وهذه توليفة يدفع الجزائريون عُمرهم لأجل نيلها». 

في بحثنا الميداني عن الجزائريين في فلسطين وجدنا العديد من السيدات الجزائريات، اللاتي جئن مع أزواجهن الفلسطينيين عند تأسيس السلطة الفلسطينية بعد اتفاق أوسلو، كما وجدنا عددًا لا بأس به من العائلات جزائرية الأصل لم تأت لهذه البلاد هربًا من ظلم الاستعمار الفرنسي، وإنما جاء بها الايمان بقداسة هذه البلاد وفضائلها، ذلك أن المسلمين في بلاد المغرب العربي من جزائريين وتونسيين ومغاربة اعتادوا أن يُقّدسوا حجتهم بعد عودتهم من مكة المكرمة بزيارتهم للمسجد الأقصى المبارك والإقامة فيه قبل العودة لبلادهم، ومنهم من أعجبته الحياة هنا وقرر أن يبقى «لنيل البركة ودرجة الرباط». 

  • الهوامش

    * اسم مستعار، وتم تغيير الاسم بناء على رغبة صاحبه بالحفاظ على خصوصيّته.

    [1] سلمان ناطور، «وما نسينا – أو سيرة الشيخ المشقق الوجه»، مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، رام الله، 1998.

    [2] عبد الله صلاح مغربي، «من جرجرة إلى الكرمل ؛ تجربة عائلة عبد الرحمن مغربي في الهجرة والهوية»، 2014.

    [3] المصدر السابق.

    [4] وليد الخالدي، «كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 2001.

    [5] يوسف نحماني، «مذكرات سمسار أراض صهيونية»، ترجمة إلياس شوفاني، دار الحصاد، عمان، 2010.

    [6] عبد الله مغربي، مصدر سابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية