مسلسل «جن»: في ضرورة أخذ الرداءة على محمل الجد

الإثنين 17 حزيران 2019

قبل عرض موسمه الأول الخميس الماضي، لم تكن التوقعات من مسلسل «جن» مرتفعة. فمنذ بداية تقرّب نتفلكس من الجمهور العربي بإنتاجات كان أولها عرضًا مزريًا للكوميدي اللبناني عادل كرم، باتت طبيعة مقاربة الشبكة الأمريكية لإنتاجات المنطقة واضحة. لكن ما حدث ليلة العرض من تفاعل متسارع وتفجر للجدل حول ما اعتُبر محتوى «غير أخلاقي» في المسلسل جعله يتجاوز كونه مجرد عمل فني -رديء كما كان متوقعًا- يمكن الاكتفاء بإشاحة النظر عنه، في ترفع عن فهم الجدل الدائر وتناول أسبابه بجدية لما يكشفه لنا عن واقعنا المجتمعي.

تمثيل من؟

«لا يمثلنا» كان لربما التعليق الأكثر ترددًا على المسلسل في الأيام الماضية، وهو ما ساق ردودًا دارت حول عدم منطقية المطالبات بأن «يمثل» عمل فني واحد مجتمعًا بأكمله، كان من بينها ما جاء في بيان الهيئة الملكية للأفلام (الذي دافع بشكل غير مباشر عن المسلسل، رغم التشديد على أن محتواه لم يمر عبر الهيئة). ورغم صحة هذا الرد، إلا أن التركيز الطبيعي لأي عمل على فئة بعينها تحوّل في هذا السياق إلى إعفاء مسبق للعمل من أي مساءلة لخياراته الأساسية (من اختيار المجتمع الذي تدور فيه الأحداث، والشخصيات التي يشملها، والمسار الذي تسير فيه القصة) ولكيفية تمثيله لهذه الفئة أصلًا. بكلمات أخرى، فإن التأكيد على أن المشاهد بوسعه دومًا إغلاق الصفحة إذا لم يعجبه ما يراه مثّل تعبيرًا -وإن غير مباشر- عن استحقاق المسلسل للإشادة وحدها، من قبل الذين شعروا بأنه «يمثلهم». أما الآخرون، فعليهم أن يمارسوا حقهم في عدم التعبير، لأن الموضوع ببساطة لا يخصهم.

ما يُبرز شعور الاستحقاق بالإشادة هذا أكثر هو التركيز على «عالمية» الإنتاج وأهمية دخول نتفلكس إلى المنطقة، فضلًا عن أهمية دعم المواهب الشابة، بغض النظر عن أي شيء آخر. المفارقة هنا هي أن نتفلكس نفسها والمدافعين عن المسلسل أنفسهم ركزوا على كونه أول عمل «عربي أردني» على الشبكة، كدافع لدعمه، والمخرج نفسه صرّح بأنه سعى لخلق مسلسل «يمثل مراهقين من المنطقة»، ولا يكرر «الصور النمطية والتمثيلات الخاطئة» عنهم، وهو ما يبدو متناقضًا مع القول إنه لا يمكن لعمل التعبير عن مجتمع بأكمله.

في ظل الدور الذي يلعبه الإنتاج الثقافي في تكريس أو محو تصورات معينة عن «المجتمع» أو عن فئات معينة فيه، وفي ظل عدم تكافؤ سطوة أصوات هذه الفئات المختلفة، فإن اعتراض البعض بأن المسلسل «لم يشبههم» سيبقى اعتراضًا مشروعًا، طالما لم يطالب بالمنع أو يشارك في الهجوم الشخصي على فريق المسلسل، خاصة ممثليه. وتوظيف المحددات الفنية لأي عمل من أجل تفادي هذا الانتقاد يتجاهل أن قدرة الفئات الاجتماعية المختلفة على «تمثيل» واقعها هي قدرة تُشكلها رؤوس الأموال المالية والاجتماعية والثقافية، ويعاد من خلالها إنتاج أشكال مختلفة من الهيمنة.

ما تعنيه الرداءة

على كل حال، سواء مثّلنا جميعًا أم مثل بعضنا فقط، فقد أبلى المسلسل بلاءً سيئًا في ذلك على الحالتين. من الآمن أن نفترض أن أي ناطق أو ناطقة بالعربية بإحدى لهجات المشرق سيتشنج لسماع حوارات المسلسل شديدة الركاكة. حتى بدون تفعيل الترجمة الإنجليزية أثناء المشاهدة، من السهل أن ندرك سريعًا أن السيناريو مترجم ومسلوق على عجل، وأن نسأل أنفسنا «من منا يتحدث كهذا؟»، دون إنكار تعدد اللهجات وطرق الحديث في أي مجتمع.

هذه الركاكة ليست مفاجئة نظرًا إلى أن النص كتب فعلًا بالإنجليزية قبل أن يُترجم، وأن صانعيه الثلاثة (اللبناني مير جان بوشعيا، والأخوين الأميركيين إيلان وراجيف دسّاني) ليسوا أردنيين ومن الواضح أنهم لم يعدّوا واجباتهم البحثية لتقريب المسلسل من الواقع المحلي. فهو لا يختلف في عناصره الأساسية عن أي مسلسل أمريكي من المسلسلات التي أنتجتها نتفلكس من الآونة الأخيرة، أبطالها مراهقون يجابهون قوى ما وراء الطبيعة، سوى في أنه ببساطة أقل جودة منها. وهو ما تمت التغطية عليه بالتصوير الجميل والمتقن -بالاستفادة جزئيًا من مناظر البتراء- والمؤثرات البصرية والصوتية المتقدمة. ولعل هذه الجودة البصرية هي الحد الأدنى مما يمكن توقعه من إنتاج شركة بلغت أرباحها العام الماضي قرابة 16 مليار دولار أمريكي.

انبنى المسلسل على شخصيات لم تُطور بشكل كاف وواعٍ يخبرنا لماذا تتصرف بهذا الشكل، وعلى أي أسس تأخذ قراراتها وتغيّر مواقفها

هذا الاستسهال، وعدم فهم السياق المحلي أو الاستناد إليه في بناء القصة، بان في مواضع عدة. فالقصة ظلت على السطح ولم تستفد من الحكايات الشعبية المتعلقة بالجن، التي كانت ستشكل مادة غنية داعمة للعمل لو كان هناك اهتمام من القائمين عليه بفهم موقع الجن في هذه السرديات. من جهة أخرى، انبنى المسلسل على شخصيات لم تُطور بشكل كاف وواعٍ يخبرنا لماذا تتصرف بهذا الشكل، وعلى أي أسس تأخذ قراراتها وتغيّر مواقفها. فمثلًا، شخصية زهير (زوج أم الطالب ياسين، الذي يظهر في المسلسل بكونه أفقر من بقية الطلاب) تم تصويرها بنمطية كسولة: عدواني وعنيف، يمنع زوجته من العمل، لا يهتم بالأقساط المدرسية لابن زوجته، متحكم ومتسلط. ومحاولة المسلسل تنميطه ثقافيًا كرجل فقير تناقضت مع نمط الحياة الذي يعيشه وعائلته وهو نمط حياة أقرب إلى الطبقات الوسطى.

في أكثر من مكان في المسلسل نرى هذا الاغتراب حتى عن أبسط أساسيات الواقع المحلي الذي يشتغل المسلسل فيه. فنرى مثلًا عددًا من الممثلين مرة يقلبون القاف إلى همزة، ومرة يلفظونها كالجيم المصرية. ونسمع بدويًا يتحدث لهجة بعض أهالي عمان، فيقلب القاف إلى همزة، وبدويًا آخر يظهر وكأنه مراهق عمّاني بعد أن يركبه جني، ولا ندري ما علاقة ركوب الجن له بنزع بدويته عنه، إلا إذا كان الجن «عمانيًا» أيضًا.

كل هذه المشاكل في جودة العمل، وإظهاره -ربما غير المقصود- لحدة التفاوت الاجتماعي والطبقي في الأردن، إلى جانب تعليق نتفلكس على الجدل الدائر، أشعرت الكثيرين بالتعالي عليهم عبر استسهال تقديم الرداءة إليهم، وخلقت مسافة بين العمل وبين جمهوره. لكن كل ذلك لا يغير أن السخط الذي وُجه للعمل والمشاركين فيه عبّر في كثير من الأحيان عن إقصائية سعت للمحافظة على صورة سلطوية موحدة لما يجب أن نبدو عليه ونفعله ونقوله كجماعة، في معركة أخلاقوية لا فائز فيها.

العامل الأساسي في شرعنة هذا السخط كان ردة الفعل الرسمية من قبل المدعي العام ودائرة الإفتاء ولجنة التوجيه الوطني والإعلام النيابية وسلطة إقليم البترا. إذ لم تبق تقريبًا أي جهة محلية ساهمت في إنتاج المسلسل من خلال تقديم تسهيلات أو موافقات لطاقمه، أو حتى ظهر اسمها فيه، إلا وأصدرت بيانًا أو تصريحًا تتبرأ فيه منه أو تتوعد بالمحاسبة. عملت هذه الجهات على تأجيج المواقف الشعبية من المسلسل وتصويره وكأنه خطر على المجتمع الأردني و«أخلاقه وعاداته وتقاليده»، وطالبت بمنعه، مثيرة السخرية لسحب آليات الرقابة المحلية على شركات البث عبر الإنترنت.

المجتمع الواحد وسلطاته المتعددة

مرة أخرى، أعاد الاعتراض على المسلسل بوصفه منافيًا «لعاداتنا وتقاليدنا» إنتاج تصور زائف عن المجتمع بوصفه وحدة واحدة، متكاملة ومنسجمة، بدلًا من فهمه بوصفه تشكيلًا من البنى الاجتماعية والدينية والسياسية والثقافية غير المتماهية، التي تخلق فئات تتمايز ثقافيًا عن غيرها في البلد الواحد. فأنماط الحياة والتدين والذوق العام وغيرها مما ينضوي تحت ما يسمى منظومة العادات والتقاليد في مجتمع فلاحي مثلًا ليست ذاتها في مجتمع بدوي أو مديني، وهو ما ينسحب كذلك على الفروقات الثقافية الكبيرة بين الطبقات المختلفة، هذا فضلًا عن التمايزات الواسعة على المستوى الفردي داخل أي من هذه الفئات. لا تفي كلمة «الاختلاف» هذا التمايز حقه، وكثيرًا ما تستخدم لفرض القبول بواقع غير عادل. لكن ذلك لا يغير على أي حال وجود «اختلاف» يصل لحد التناقض في أي مجتمع، بل في أي فئة اجتماعية فيه، وترديد سردية المجتمع الواحد ذي الثقافة الواحدة والأخلاق الواحدة لن يجعله بالفعل مجتمعًا واحدًا. إقصائية هذه السردية وعدم واقعيتها تتكشف أكثر حين توظفها السلطة السياسية باتهام منتقديها بأنهم خارجون عن «ثقافتنا» أو «أخلاقنا»، وهو ما يذكّر بفعل السلطة في ترسيم دائرة «الجماعة الوطنية» التي تحمل «الأخلاق الأصلية».

ردة الفعل المتعلقة بالشتائم الواردة في المسلسل مثال على هذا الترسيم المتغير باستمرار. فمن البديهي أن الشتائم لطالما كانت حاضرة في مجتمعاتنا كما في غيرها، ويشهد عليها عدد كبير من الأمثال والمرويات الشعبية التي تم تناقلها عبر سنين طويلة. لذا فإن الإشكالية في هذا الترسيم لا تكمن فحسب في حصر الأخلاق والقيم باللغة «النظيفة»، بل -وهو الأهم- في منح السلطة سواء كانت مدنية أم دينية صلاحية «تنظيف» المحكيات، تاريخيًا أو حاضرًا، بحذف ما لا يتسق مع مفاهيم وغايات هذه السلطة.

الركن الآخر الذي ارتكز إليه الهجوم الأخلاقوي على المسلسل تعلق بشخصية ميرا، بطلة المسلسل، وسلوكها. فالهجمة عليها لوحدها تقريبًا لا يمكن تفسيرها إلا كجزء من الاستهداف الذكوري السائد للنساء. فكثيرًا ما يستخدم الخطاب الذكوري الدين والأخلاق لتبرير الهجوم على النساء، باعتبارهن مصدر الشرف والكرامة وحراسهما. والغريب أن الاعتراض الديني العام على العلاقات الجنسية خارج الزواج هو اعتراض يشمل الرجال والنساء وليس النساء لوحدهن. فيما لم يحظ بالنقد -أو حتى الملاحظة- العنف الذكوري الذي جسده الفيلم في المشاهد التي أظهرت التنمر أو التسلط الذي تعرضت له شخصيتا ياسين وميرا. والمفارقة أن التشهير بالممثلة الرئيسية باستخدام إيحاءات جنسية يتناقض مع الخطاب الأخلاقي الذي برر الهجوم عليها أساسًا.

النظرة إلى «الإسلام» أو «المجتمع» باعتبارهما شيئًا ثابتًا وساكنًا ولا تاريخيًا هي في جوهرها نظرة استشراقية تُبنى على تعميم يسهل الوصم والتنميط

على مستوى الأحزاب والقوى السياسية، لاقى عرض المسلسل اهتمامًا كبيرًا من قبل الحركة الإسلامية في الأردن، حيث نشرت الحركة العديد من البيانات المستنكرة والرافضة لعرضه. فقد أصدرت كتلة الاصلاح النيابية بيانًا على لسان الناطق باسمها، حمّلت فيه الحكومة المسؤولية الأخلاقية والقانونية تجاه العمل، واصفةً إياه بـ«السيء والماجن» وبأنه «يشوه صورة الأردن وشعبه، وقيمه الأصيلة». ونشر حزب جبهة العمل الإسلامي بيانًا طالب فيه «بمحاسبة كل من أدار وموّل ورعا هذا المسلسل الهابط»، على حد تعبيره. وأصدر مجلس علماء الشريعة في جماعة الإخوان المسلمين استنكارًا لبث المسلسل واصفًا إياه بـ«الجريمة النكراء» التي «تستوجب غضب الله تعالى» كونه تضمن «مشاهد فاضحة، منافية للحياء، وخارجة عن قيم الإسلام»، كما أشار البيان.

كثيرًا ما صورت جماعة الإخوان المسلمين رفضها لبعض الممارسات الاجتماعية والإنتاجات الثقافية كتصدٍ لغزو غربي استعماري لمجتمعاتنا. لكن في الوقت نفسه، تتقاطع الجماعة بخطاباتها هذه مع الخطابات الاستشراقية عن مجتمعاتنا، وتتواطؤ معها معرفيًا. فالنظرة إلى «الإسلام» أو «المجتمع» باعتبارهما شيئًا ثابتًا وساكنًا ولا تاريخيًا هي في جوهرها نظرة استشراقية تُبنى على تعميم يسهل الوصم والتنميط، وترسم للرجال والنساء العرب والمسلمين صورة متخيلة ذات صفات راسخة ومتجانسة. وتتبنى الجماعة في بياناتها هذه نفس العقلية بتصويرها المجتمع والثقافة ومنظومة العادات والتقاليد على أنها كتل واحدة ثابتة عابرة للتمايزات الاجتماعية، وفقًا لفهم سياسي وديني ما.

بذلك، صدّر الإخوان المسلمون خطابًا أخلاقويًا انصب على تمثيل الجسد والشتائم، بوصفها أبرز تهديد للمجتمع بنظرهم. هذا السلوك الذي شهدناه في مواقف شبيهة سابقة يؤكد أن الجماعة تراجع انخراطها في العمل السياسي، تحديدًا بعد مذبحة رابعة والتشديد عليهم من قبل الأنظمة، وتحولت إلى «مراقب سلوك» تضمن معاركها الثقافية بقاءً سياسيًا وهميًا.

بالمقابل، تصدى العديدون للهجمة على المسلسل عبر استخدام انتقائي لخطاب حرية التعبير. فالكثيرون في المشهد الفني الأردني اعتمدوا بشكل ضمني سياسة النأي بالنفس عن الكثير من القضايا السياسية في البلد، حتى المتعلقة منها بالحريات العامة، للحفاظ على خط الرجعة وضمان استمرارية أعمالهم، دون إدراك ارتباط المساحات الإبداعية بمدى انفتاح الحياة السياسية في البلد عمومًا. لذا، فإن بعض التعليقات المتخوفة من أن يقلص هذا الجدل مساحات التعبير المحدودة أصلًا بدت جوفاء وانتقائية، فضلًا عن أنها هي نفسها في بعض الأحيان مارست حجرًا على آراء الآخرين وتتجاهل الانتقادات التي لم تطالب بأي منع ولا مارست أي تنمر على الممثلين. وفي بعض الأحيان، أعادت إنتاج صور نمطية غربية كما جاء في تعليق للمخرج أمين مطالقة قال فيه إن «الجميع يقبل بالعنف والدم، لكن لا يقبلون بلغة [تحتوي شتائم] وقبلة»، أو سخّفت الانتقادات بالدعوة للالتفات لمشاكل أخرى.

لا يعني هذا بأي حال مطالبة الفنانين بالتحول لنشطاء سياسيين أو هتّيفة، لكن من الطبيعي في هذا الإطار أن تُفهم هذه الانتقائية بوصفها محاولة لحماية امتيازات فئوية. فحرية التعبير تؤسَّس سياسيًا أولًا، والحريات السياسية هي الوعاء الضامن لحماية الحريات الأخرى.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية