السكري

جائحة السكري: أبعد من مشكلة إنسولين

تصميم محمد شحادة.

جائحة السكري: أبعد من مشكلة إنسولين

الإثنين 04 نيسان 2022

هذا المقال جزء من ملف خاص أنتجته حبر حول السكري. للاطلاع على الملف اضغط/ي هنا.

لو حاولنا تصور نموذج نمطي لمريض السكري، قد تتكون في أذهاننا صورة لكهل سمين خَمول، يسكن مدينة، ويعيش على الوجبات السريعة، ويشرب الكوكاكولا أكثر من الماء. هناك بعض الصحة في هذه الصورة بالطبع، فالسمنة وطبيعة النظام الغذائي وقلة الحركة ترتبط جميعها بشكل قاطع باحتمالية الإصابة بسكري النوع الثاني، الذي يشكل المصابون به 90-95% من مرضى السكري عمومًا. لكن لو طلبنا من أي مريض سكري أن يشرح طبيعة مرضه كما يعيشها، سيخبرنا غالبًا أن الأمر أعقد من ذلك.

يشيع تفسير السكري بوصفه مرضًا منفردًا ناتجًا عن نقص هرمون الإنسولين أو مقاومة الخلايا له، يستلزم تغييرات في نمط الحياة من أجل تنظيم مستوى الغلوكوز في الدم. ولا تزال الكثير من الكتب الدراسية تفسر ظهور السكري بزيادة توفر الطعام في الدول الصناعية وتغير الوظائف فيها بشكل أنتج نمط حياة قليل الحركة، ثم انتشار هذا النمط إلى بقية العالم «الحديث».[1] لكن هذا التصور المبسط، الذي يلقي بمسؤولية العلاج بالدرجة الأولى على المريض نفسه، يعجز عن تفسير الكثير من التغيرات في خريطة السكري عالميًا. فهو باطراد يصيب أشخاصًا أصغر عمرًا وأقل وزنًا، وينتشر بصورة أسرع بين الدول الفقيرة ومتوسطة الدخل، وقرابة نصف هذه الإصابات لا تُشخص.[2] من بين الـ6.7 مليون شخص الذين توفوا بسبب السكري عام 2021، 77% كانوا خارج أوروبا وأمريكا الشمالية.

شيئًا فشيئًا، بدأت ملامح مريض السكري النمطي تتغير. وفي محاولة لتفسير هذا التغير، تزايدت الدراسات التي تنظر في عوامل جديدة قد تؤثر على الإصابة بالسكري، وتميل لفهمه كحالة صحية متعددة الأبعاد. في عام 2009، طوّرت الباحثة في الأنثروبولوجيا الطبية، ميريل سينغر، مفهوم الوباء المركب (Syndemic)، لوصف الأمراض التي تتفاعل فيها عوامل بيولوجية وصحية واجتماعية على نحو يصعب اختزاله سريريًا. تشرح سينغر المصطلح والتوجه الطبي الذي يعبر عنه بأنه «مبني على الاعتراف بالأهمية الجوهرية للعلاقات البيو-اجتماعية في الصحة». فهذا المنظور لا يتوقف عند النظر في التداخلات البيولوجية المعقدة التي تشكل حالة مرضية ما، بل يضعها ضمن إطار اجتماعي. «ففي العالم البشري، يتطور المرض في السياق الاجتماعي لمن يعانون منه، ويتأثر به».[3]

بعد سنوات، وظّفت الباحثة إيميلي مندنهال المفهوم لدراسة انتشار سكري النوع الثاني بين العاملات المكسيكيات المهاجرات بشكل غير قانوني للولايات المتحدة. بالنسبة لها، لم يكن الانتشار الواسع للمرض بين هؤلاء النساء العالقات في حلقة مفرغة من المرض والفقر والعنف والاكتئاب، صدفة.[4] قادت النتائج التي توصلت إليها مندنهال إلى دعوة العلماء إلى «إعادة التفكير بالسكري»: بدلًا من فهمه كنتيجة للتحديث والتمدن، الأمر الذي خلق «خيارات» غذائية غير صحية واستبدل فلاحة الأرض بالجلوس وراء شاشة لثمان ساعات يوميًا، تدعو مندنهال إلى فهم السكري بصفته مرضًا يرتبط بالفقر قبل أي شيء آخر، وبما يجرّه من عنف وتوتر واكتئاب.[5]

إن علاقة السكري الوثيقة بالشروط الاجتماعية والاقتصادية لحياة المريض تجعله مدخلًا مهمًا لفهم محدودية ما يمكن أن نسميه الفهم البيولوجي للمرض، الذي يوازيه فهمٌ بيولوجي للصحة، بوصفها حصيلة ما يجري من تفاعلات في جسم الفرد. لكن تجاوز هذه المحدودية لا يعني الانتقال من دراسة الجسم كنظام مغلق إلى النظر في عدد من العوامل الخارجية المؤثرة فيه فحسب، بل يعني الذهاب أبعد من ذلك، لفهم كيف تتشكل الصحة كمنتج اجتماعي ذي حمولة تاريخية، وكيف يحتّم ذلك على الرعاية الصحية أن تنبع من قلب السياسة.

«عوامل الاختطار» خارج المختبر

في التسعينيات، بدأت علاقة انخفاض وزن حديثي الولادة بإصابتهم لاحقًا بأمراض مزمنة تدخل حيز الدراسة العلمية. خلصت دراسات غير مسبوقة إلى أن ضعف النمو لدى الأجنة والرضع يساهم في رفع مقاومة الإنسولين لديهم وإصابتهم لاحقًا بسكري النوع الثاني،[6] فيما أكدت دراسات لاحقة أن ضعف النمو هذا مرتبط بالفقر وسوء التغذية أكثر بكثير مما هو مرتبط بالجينات.[7] فتحت هذه النتائج الباب لدراسات تناولت صلة السكري بعوامل اجتماعية واقتصادية، امتدت من الطبقة والعرق والجنس والصحة النفسية إلى الموقع الجغرافي وحتى مرافق الحيّ.

إن علاقة السكري الوثيقة بالشروط الاجتماعية والاقتصادية لحياة المريض تجعله مدخلًا مهمًا لفهم محدودية الفهم البيولوجي للصحة.

تظهر البيانات الإجمالية تركز السكري وارتفاع كلفته البشرية بشكل متزايد في البلدان الأفقر. لكن المستويات التي يؤثر فيها الفقر على المرض أشد تشعبًا مما تظهره هذه البيانات. فهو لا يؤثر على السكري في البلدان الأفقر فحسب، فانتشار المرض بين فقراء الولايات المتحدة مثلًا هو الأعلى، وهو أعلى بضعفين ونصف منه في الشريحة العليا من حيث الدخل.[8] كما أن الفقر لا يرفع احتمالية الإصابة بالسكري فحسب، بل يؤخر التشخيص، ويمنع حصول المريض على الرعاية المناسبة، حتى في ظل أنظمة صحية توفر التأمين الشامل. فكثير من مرضى السكري الفقراء يكتشفون إصابتهم فقط عند دخولهم المستشفى نتيجة إحدى مضاعفات المرض.[9] 

إذن، للفقر تأثير ممتد وواسع، لكنه يتضاعف أكثر حين يتقاطع مع عوامل أخرى، كالعرق والجنس ومكان السكن. فالفقر أشد تأثيرًا على النساء، إذ يرفع احتمالية الإصابة بالسكري وخطورتها لديهن أكثر مما يرفعها لدى الرجال، رغم أن نسبة انتشاره عمومًا بينهن أقل قليلًا من الرجال.[10] وفي الولايات المتحدة، فإن البيض، رجالًا ونساءً، هم الأقل إصابة بالسكري. وقد وجدت دراسة بريطانية أن انتقال جزء من النساء اللاتي شملتهن من أحياء فقيرة إلى أخرى أقل فقرًا انعكس في تحسن صحتهن بشكل عام، وأن نسبة السمنة والسكري بينهن بعد عامين على بدء الدراسة كانت أقل بشكل ملحوظ من المجموعات الأخرى في العينة، حتى دون تغير فعلي في دخل هؤلاء النساء.[11] دراسة أخرى أوضحت أن هذه الاحتمالية تنخفض بنسبة 38% إذا كان الحي صديقًا للمشي، ويوفر مساحات خضراء أو أماكن للرياضة،[12] بل أن هذه الاحتمالية تنخفض أيضًا حين تتوفر في الحي أسواق استهلاكية أكبر وأكثر، توفر خيارات طعام صحية أكثر.[13]

الاكتئاب، من جهة أخرى، تربطه بالسكري علاقة ذات اتجاهين، فكل منهما يساهم في الإصابة بالآخر. فالاكتئاب يصّعب اتباع حمية غذائية، إذ يرفع الميل نحو الإفراط في الأكل.[14] وفي المقابل، يشيع الاكتئاب أكثر بمرتين إلى ثلاثة مرات بين مرضى السكري مقارنة بغيرهم.[15] كما يؤخر الاكتئاب تشخيص المرضى بالسكري، ويرفع من فاتورة علاجهم، وهو كثيرًا ما يعني المزيد من الإفقار.[16] بات محسومًا كذلك أن التوتر المزمن يساهم في الإصابة بالسكري. فالكورتيزول، أو هرمون القلق، يجعل خلايا الدهون مقاومة للأنسولين، ويسهم في فتح الشهية واشتهاء السكر وزيادة الوزن، مما يعقّد قدرة الجسم على تنظيم عملية الأيض، وهي مسألة جوهرية لتجنب السكري.[17]

السكري كتراكم تاريخي

تتفرع كل هذه العوامل الاقتصادية والاجتماعية والنفسية وتتداخل، مشكّلة شبكة كثيفة الروابط. لكن حصيلة هذه العوامل ليست مجرد عملية حسابية. إن كان لهذه الشبكة بعدان، أحدهما يمثل عامل الاختطار والآخر يمثل احتمالية الإصابة بالسكري، فالزمن، أو التاريخ، هو بعدها الثالث. فالسكري مرتبط بشدة بالتراكمات التاريخية المتعلقة بالاضطهاد الممنهج، والمجتمعات الأطول تأثرًا بالاضطهاد هي الأكثر تأثرًا بالسكري.[18]

تضرب مندنهال مثالًا واضحًا على أثر مثل هذه التجربة التاريخية. ففي منتصف القرن التاسع عشر، رُسّمت الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك (باتفاقية سلبت المكسيك أكثر من نصف مساحتها)، قاسمةً مجتمع السكان الأصليين من قبيلة البيما إلى نصفين. في عام 1924، هُجّر الذين أصبحوا في الشطر الأمريكي قسرًا إلى محمية في ولاية أريزونا من أجل إنشاء سدٍ في مناطقهم، بالتالي انقطعوا عن أراضيهم وأصبحوا يعتمدون على بطاقات الإعاشة والمساعدات الغذائية، التي شملت الحد الأدنى من متطلبات العيش، أي كانت تشمل أغذية عالية الطاقة ومنخفضة التغذية. أما الذين أصبحوا في المكسيك، فاستمروا بالزراعة وتربية الماشية، لتصبح معدلات السكري بينهم بعد عقود أقل بكثير من نظرائهم على الجانب الآخر من الحدود (رغم أنها مرتفعة أيضًا). ينسحب هذا على ما تبقى من السكان الأصليين في الولايات المتحدة، الذين عاشوا ظروفًا مشابهة، لتكون نسبة الإصابة بالسكري بينهم اليوم الأعلى بين كل المجموعات العرقية الأمريكية، وهي ضعف مثيلتها لدى البيض.[19] 

أكثر من 80% من السعرات الحرارية المستهلكة في المناطق الحضرية في جزر المارشال تأتي من الأطعمة الجاهزة المستوردة، في حين أصبحت الأطعمة المحلية أقل توفرًا وأعلى سِعرًا.

حتى اليوم، ما يزال الخبز المقلي، الطبق «التقليدي» للسكان الأصليين رغم أنه لا يمت لثقافتهم الغذائية -الممحية- بصلة، شاهدًا على هذه التجربة. فحين أرسلت الولايات المتحدة الطحين والزيت والسكر والملح لمحمياتهم، أعد السكان الأصليون ما يمكن إعداده من هذه المكونات، فولد الخبز المقلي، وأصبح نموذجًا لنمط الغذاء المسبب للسكري في هذه المجتمعات.

لا يظهر هذا المثال الأثر التراكمي لاختلال النظام الغذائي والتغذية السيئة والعبء النفسي والاجتماعي للتهجير القسري فحسب، بل يظهر أن سلب الأرض كان أساسًا لهذا التراكم، أي كان بحد ذاته عاملًا في الإصابة بالسكري.[20] لكن لو نظرنا إلى قائمة الدول الأعلى في نسب انتشار السكري حول العالم، فسنجد مثالًا آخر أشد سطوعًا لهذا الأثر التاريخي التراكمي، في النصف المقابل من الكرة الأرضية.

على مدى سنوات، ظلت جزر المحيط الهادئ، التي لا يعدو مجموع سكانها 2.3 مليون نسمة، تتصدر هذه القائمة. ست من أول عشر دول في العالم اليوم من حيث نسبة انتشار السكري هي من بين هذه المجموعة الصغيرة، بمعدلات تصل إلى ربع السكان البالغين. قد نتخيل أن الاستهلاكية لم تخترق هذه الجزر الاستوائية بالكامل، وأن سكانها ما زالوا يعيشون -ولو جزئيًا- على الصيد وجمع الثمار، وأن حياتهم صحية إجمالًا، نظرًا للمجهود البدني الذي تتطلبه الحياة فيها في ظل تنمية محدودة أو شبه معدومة. ما الذي يجعل السكري، إذًا، يضرب جزيرة نائية في وسط المحيط بهذا الشكل؟

يعيدنا هذا السؤال للتاريخ والحاضر الاستعماري لهذه الجزر. فقد تعاقبت عليها كل من إسبانيا واليابان وألمانيا وأخيرًا الولايات المتحدة كقوة مستعمرة أخضعتها وتحكمت بنمط حياتها، وهو الأمر الذي ما يزال سكان الجزر يعودون إليه لتفسير إصاباتهم بالسكري. أحدثت حقبة الاستعمار الياباني خلال الحرب العالمية الثانية، والحقبة الأمريكية التي تلتها، تغيرات كبيرة في نمط الحياة والغذاء. إذ أحلّ اليابانيون الأرز محل النشويات المحلية، ثم استبدل الأمريكيون مصادر البروتين المحلية باللحوم المعلبة والأطعمة الجاهزة والمشروبات المحلّاة، ما جعل النظام الغذائي للجزر ممهدًا للسكري. ومع تحكم الأمريكيين بسوق الغذاء، تراجعت أنشطة الصيد والزراعة وجمع الطعام، ومعها تراجع النشاط البدني، وطغى السوق الجديد على آليات التبادل والمقايضة التقليدية.[21] 

كانت الأنشطة العسكرية الأمريكية بذاتها جزءًا من قصة السكري في جزر الهادئ. فبين عامي 1946 و1958، أجرت الولايات المتحدة اختبارات نووية، فجّرت فيها 67 قنبلة قرب جزر المارشال التي كانت حينها «تحت حمايتها»، ملوثةً المياه والتربة في ما لا يقل عن 10 من أصل 34 جزيرة وشعبة مرجانية يضمها الأرخبيل.[22] نزح سكان تلك الجزر إلى المناطق الحضرية، وفي محاولة لاحتواء تبعات تعرضهم للإشعاع النووي، بدأت الولايات المتحدة ترسل مساعداتها الغذائية وأطعمتها الجاهزة. كانت الحصيلة أن بلغت جزر المارشال، التي «استقلت» عن الولايات المتحدة عام 1979، أعلى نسبة سكري في العالم عام 2019،[23] (فضلًا عن الآثار الأخرى للإشعاع، كالانتشار الواسع للسرطان، خاصة سرطان الغدة الدرقية الذي بات أحد أكبر مسببات الوفاة في الجزر).[24] 

حتى اليوم، ما يزال أكثر من 80% من السعرات الحرارية المستهلكة في المناطق الحضرية في جزر المارشال تأتي من الأطعمة الجاهزة المستوردة، في حين أصبحت الأطعمة المحلية أقل توفرًا وأعلى سعرًا للسُعرة الحرارية الواحدة.

ثمن السُعرة

تقودنا هذه القصة إلى التفكير بدور اقتصاد السوق، الذي فُرض غالبًا بالحديد والنار، في خلق جائحة السكري. على مستوى عام، لم يعد أثر اقتصاد السوق الرأسمالي على الصحة العامة، خاصة في مرحلته النيوليبرالية، بحاجة لشرح طويل. فتبعات سياسات الخصخصة والتقشف على مستوى الرعاية الصحية وشموليتها ظاهرة للعيان في أعقاب جائحة كورونا. هذا الأثر لا يتوقف عند الأمراض المعدية، بل يطال مختلف الخدمات الصحية المتاحة، وبالأخص رعاية الأمراض المزمنة، ومنها السكري، في سياق تُسلّع فيه الصحة، وتتراجع في الأولوية أمام الربح، ويصبح فيه الدواء حقًا لمن يملك ثمنه فقط.

لكن على مستوى الغذاء، فإن القصة لا تتعلق برفع سعره فقط، بل بتخفيضه أيضًا. جزر المارشال ليست المكان الوحيد الذي أصبح الطعام الصحي فيه مكلفًا وصعب المنال، فالتوسع الكبير لشركات الغذاء سبّب تحولًا سريعًا في التغذية، تستبدل فيه الأغذية العضوية الطازجة بالأغذية المصنعة السريعة والمقلية المشبعة، نتيجة لما أسمته مندنهال «زواج الرأسمالية والسكر».[25] إن ما يسمى «جائحة السمنة» مرتبط بشكل وثيق بالاستخدام المتزايد للسكر في الصناعات الغذائية، فهو يؤثر على الدماغ بطرق تجعل البعض يعتبره مسببًا للإدمان. لكن السكر أيضًا من أرخص المدخلات في صناعة الغذاء، مما ساعد شركات الأغذية على تخفيض أسعارها ورفع أرباحها.[26] 

إن «جائحة السمنة» مرتبطة بشكل وثيق بالاستخدام المتزايد للسكر في الصناعات الغذائية، ويعتبره البعض مسببًا للإدمان، لكنه أيضًا من أرخص المدخلات في صناعة الغذاء.

بدأت موجة إضافة السكر إلى الأغذية المصنعة عام 1906 مع شركة كيلوغ الأمريكية، التي اكتشفت أن إضافته تجعل رقائق الذرة الشهيرة التي تنتجها هشة ومقرمشة، وطبعًا ألذ طعمًا. ولم يفت كثير من الوقت حتى بدأت الشركات تكتشف استخدامات مربحة أخرى للسكر. وحين تزايدت الدراسات التي تشير للآثار السلبية له والحمية الغذائية المعتمدة على هذا النوع من الأطعمة، رصّت صناعة السكر الأمريكية صفوفها وجهزت هجومًا مضادًا. إذ أسّست وموّلت مؤسسة بحوث السكر (لاحقًا أصبح اسمها مؤسسة السكر) وهي منظمة غير ربحية تهدف إلى «تثقيف العامة حول مزايا السكر وقيمته وأهميته في النظام الغذائي للإنسان». كما أسّست مركز مونيل، وهو مجمع علمي ضخم تموله كبرى شركات الأغذية، مثل كوكا كولا وبيبسي وكرافت ونستله، بهدف البحث عن إجابات علمية لسؤال «لماذا نحب السكر؟». سوّقت الشركات دعمها لهذه المشاريع البحثية على أنه استجابة للمخاوف الصحية، في حين كانت تستبق اكتشاف أضرار السكر وتعمل على تقديمها بشكل مطمئن أو أقل إثارة للريبة.[27] 

وصل تأثير صناعة السكر الأمريكية حتى إلى منظمة الصحة العالمية والفاو. فحين قدمتا في تقرير عام 2003 اقتراحًا دعمه بشدة أخصائيو التغذية يوصي بألا تتجاوز نسبة السكر المضافة إلى الأغذية أكثر من 10% من الحصة اليومية من السعرات الحرارية، هددت الشركات بالضغط على الكونغرس لإيقاف التمويل الذي يقدمه للمنظمتين إن لم يُشطب الاقتراح من التقرير، وهو ما رضخت إليه المنظمتان الأمميتان بالفعل.[28]

عنى هذا النفوذ المتعاظم أن شركات الأغذية الكبرى بوسعها أن تستمر بإغراق الأسواق حول العالم بالمشروبات الغازية والسكاكر والأطعمة الجاهزة، دون اكتراث بالكوارث الصحية التي تخلفها. ففي حين أُجبرت البلدان التي تصدّر المواد الخام لهذه الصناعة، في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، على فتح أسواقها لنهب الشركات متعددة الجنسيات، استطاعت هذه الشركات تخفيض أسعارها إلى حد تصعب منافسته. وفي الوقت نفسه، دمّر هذا «التكيف الهيكلي» قدرة العديد من هذه البلدان على المحافظة على زراعتها لتوفير الخضار والفواكه ومنتجات الألبان، ما رفع أسعار هذه الأطعمة، وجعل الغذاء الصحي ترفًا لا يملكه الكثيرون.[29]

نحو فهم اجتماعي للصحة والمرض

ليس الهدف من هذه القراءة خلق نوع من «الحتمية المرضية»، التي تصبح معها فرصة الإصابة بالسكري محددة بشكل ثابت وفق عوامل خارجة عن قدرة الإنسان، أو الإيحاء بأن لا نفع من السعي للحفاظ على الصحة إلى أقصى حد ممكن، ولا خلق صورة للمرض شديدة التعقيد لدرجة تعيق الفهم. بل القول إن محاولة تفسير السكري دون فهمه كنتيجة لعمليات اجتماعية متعددة لن تقود إلى مكافحته أو حتى احتوائه، كما لم تفعل حتى الآن، رغم كل التطورات العلمية والتكنولوجية في مجال الطب.

هذا الفهم يعني أن تُقرأ الصحة، لا كمعطى بيولوجي أو مسؤولية فردية على طريقة «المستهلك الحر»، وإنما بوصفها الحصيلة التراكمية لما تمر به أجسادنا من تجارب تتأثر بالنظم التي نعيش فيها؛ إنها السجل الذي دُونت فيه جودة حياتنا. لذلك، فإن مطلب تحسين الصحة على نطاق واسع هو مطلب سياسي، لأنه يتعلق أساسًا بالسيادة على الموارد، وتوزيعها في المجتمع، وتحديد المصالح والأولويات، والسياسة هي مجال الصراع على هذه المسائل. دون مقاربة مختلفة لكل هذه الصراعات، سيبقى مستقبل مرض كالسكري مظلمًا.

  • الهوامش

    [1] Raymond E. Bourey et al, 2014. «Diabetes». In: C. Murray Ardies (ed.), Diet, Exercise, and Chronic Disease: The Biological Basis of Prevention. CRC Press.

    [2] Altamash Shaikh, K. V. S. Hari Kumar, 2018. «Diabetes and poverty: A primer for resource poor countries.» Journal of Social Health and Diabetes, 6(1).

    [3] Merrill Singer, 2009. Introduction to Syndemics: a Critical Systems Approach to Public and Community Health. Jossey-Bass, San Francisco.

    [4] Emily Mendenhall. 2016. Syndemic Suffering: Social Distress, Depression, and Diabetes among Mexican Immigrant Women. Routledge, London and New York.

    [5] Emily Mendenhall, 2019. Rethinking Diabetes: Entanglements with Trauma, Poverty, and HIV. Cornell University Press.

    [6] C Nicholas Hales, and David J P Barker. 2001. «The Thrifty Phenotype Hypothesis». British Medical Bulletin 60 (1): 5-20.

    [7] A. A. Vaag, et al. 2012. «The Thrifty Phenotype Hypothesis Revisited». Diabetologia 55 (8): 2085-2088.

    [8] الشريحة العليا هي من يبلغ دخلهم خمسة أضعاف خط الفقر الوطني الأمريكي أو أكثر.

    [9] Chih-Cheng Hsu, et al. 2012. «Poverty Increases Type 2 Diabetes Incidence And Inequality Of Care Despite Universal Health Coverage». Diabetes Care 35 (11): 2286-2292.

    [10] المصدر السابق.

    [11] David Stuckler and Sanjay Basu, 2013. The Body Economic: Why Austerity Kills Recessions, Budget Battles, and the Politics of Life and Death. Basic Books.

    [12] Amy H. Auchincloss, et al. 2009. «Neighborhood Resources For Physical Activity And Healthy Foods And Incidence Of Type 2 Diabetes Mellitus». Archives Of Internal Medicine 169 (18): 1698.

    [13] Cynthia Herrick, et al. 2015. «Implications of Supermarket Access, Neighbourhood Walkability and Poverty Rates for Diabetes Risk in an Employee Population.» Public Health Nutrition 19, no. 11: 2040–48.

    [14] Emily Mendenhall, 2016. Syndemic Suffering: Social Distress, Depression, and Diabetes among Mexican Immigrant Women. Routledge, London and New York.

    [15] World Health Organization. Global report on diabetes. 2016.

    [16] Yatan Pal Singh Balhara, and Rohit Verma. 2013. «Management Of Depression In Diabetes: A Review Of Psycho-Social Interventions». Journal Of Social Health And Diabetes 1 (1): 22.

    [17] Emily Mendenhall, 2016. Syndemic Suffering: Social Distress, Depression, and Diabetes among Mexican Immigrant Women. Routledge, London and New York.

    [18] Emily Mendenhall, 2019. Rethinking Diabetes: Entanglements with Trauma, Poverty, and HIV. Cornell University Press.

    [19] المصدر السابق.

    [20] المصدر السابق.

    [21] Timothy D V Dye, et al. 2018. «Critical Medical Ecological Perspectives On Diabetes In The Pacific Islands: Colonialism, Power, And Balance In Human-Environment Interaction Over Time». The Lancet Global Health 6: S36.

    [22] Tatsuya Takahashi, et al. 2003. «The Relationship of Thyroid Cancer with Radiation Exposure from Nuclear Weapon Testing in the Marshall Islands». Journal of Epidemiology, 13(2), 99–107.

    [23] Brenda C. Davis et al. 2019. «An Intensive Lifestyle Intervention To Treat Type 2 Diabetes In The Republic Of The Marshall Islands: Protocol For A Randomized Controlled Trial». Frontiers In Nutrition 6.

    [24] Tatsuya Takahashi, et al. 2003. «The Relationship of Thyroid Cancer with Radiation Exposure from Nuclear Weapon Testing in the Marshall Islands». Journal of Epidemiology, 13(2), 99–107.

    [25] Emily Mendenhall, 2019. Rethinking Diabetes: Entanglements with Trauma, Poverty, and HIV. Cornell University Press.

    [26] Robert Albritton, 2009. «Between Obesity and Hunger: The Capitalist Food Industry». In: Leo Panitch and Colin Leys (eds.), Morbid Symptoms: Health Under Capitalism. Monthly Review Press.

    [27] Dianne Rubinstein, 2014. «Neoliberalism And The ‘Obesity Epidemic’». M.A., City University of New York.

    [28] Robert Albritton, 2009. «Between Obesity and Hunger: The Capitalist Food Industry». In: Leo Panitch and Colin Leys (eds.), Morbid Symptoms: Health Under Capitalism. Monthly Review Press.

    [29] المصدر السابق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية