ديوان الأعشاب

الأحد 26 أيار 2019

مقدمة لرفع العتب ودفع اللَبَس

عندما أرسلتُ المسودةَ الأولى من هذا المقال طلب مني محررو حبر الكرام أن أضيف إليه مقدمة. ولم أجدها، للأمانة، مهمةً سهلة. فأنا لا أريد من القرّاء أن يأخذوا هذا المقال بجدية تامة؛ ولا أريدهم أن يأخذوه بخفة كذلك.

تجدون في هذا المقال تبويبًا لبعض الأعشاب العطرية مع بيان صفاتها واستخداماتها وفوائدها وذِكرِها في تراث الشعوب وأدبها.

ربما لأننا في شهر الصوم والذهن مشغول بالطعام وما يتعلق بإعداده،[1] وربما لأننا في موسم زراعة تلك الأعشاب وازدهارها في فصل الربيع. وربما لأني مفتون بأساليب الكتابة التراثية وفنون التبويب المدهشة فيها، والذرائع التي تتخذها من أجل السرد والاقتباس، ومولعٌ بمحاكاتها.

هو مقال عن الأعشاب ولكنه كذلك مقال عن الحكايات الشعبية والاستعارات الأدبية وعن الإحالات التاريخية والسياسية، وعن أشياء أخرى.

إكليل الجبل

يُسمَّى إكليل الجبل لأنه يُكلّل أعالي الجبال في إسبانيا، ولأن العرائس في أوروبا القديمة كن يتكللن به في أعراسهن حتى سماه شعراء التروبادور الإسبان «كوروناريا» أي التاج أو الأكليل. يعرفه الكثير منّا باسمه اللاتيني، روزماري؛ من روزمارين وتعني ندى البحر.

إن قصصتم رأسه فستتكاثر أغصانه أفقًيا، كما تفعل معظم النباتات العشبية، أمّا إن تركتموه فسيعلو وقد يصل إلى مترين (بحسب النوع). ولهذا يتخذ بعض الزُرَّاع منه سياجًا. وفي الصيف تنبت له أزهار زرقاء أو بنفسجية في أغلب الحالات، وقد تختلف باختلاف النوع. أمّا إن كان مزروعًا للاستخدام في الطبخ فيُقَصّ قبل أن يُزهِر فتستأثر زهوره بالغذاء وتذهب بطعم الغصن وعطره.

لا يدخل إكليل الجبل على طعام إلا وجعله أشهى، خاصة وإن امتزج بالثوم ويمكن نقعه في زيت الزيتون ليضوع فيه عطره ونكهته. ويصلح طعمه مع اللحوم والخُضَر بأنواعها ويُستخدم بكثرة في المطبخ الفرنسي.

وكان في أوروبا القديمة يرمز للتذكر، تقول أوفيليا: «هاك إكليل الجبل، هذا للتذكر، حنانَيكَ تذكّر[ني]!«[2] ربما جعلوه رمزًا للتذكر لأنه قادر على البقاء طوال شتائهم القارص، وربما كانوا يظنون فعلا أنه ينشط الذاكرة، وقد قيل إن فلاسفة اليونان وتلاميذهم كانوا يربطونه في شعورهم ليساعدهم على استذكار دروسهم (حتى أن العلماء المعاصرين قد بدأوا في استكشاف فوائد الروزماري المحتملة للذاكرة).

وكانوا يعتقدون أن الحوريات يحببنه ويختبئن تحته وقيل إنهم كانوا في الوقت ذاته إذا وُلد لهم طفل علقوا أغصان إكليل الجبل فوق مهاده كي لا تسرق الحوريات الرضيع.

وكانت البنات يضعن في ليلة منتصف الصيف صحنًا من الدقيق تحت أغصان الأكاليل اعتقادًا بأنهم في اليوم التالي سيرون الأحرف الأولى من أسماء الرجال الذين سيتزوجونهن مكتوبة على الدقيق. وكن ينثرن أغصانه على فراش الزواج ليضمنَّ ولاء الزوج، وقيل إن الإمبراطورة جوزفين أصرت أن يتحمم نابوليون بإكليل الجبل قبل أن يدخل إلى مخدعها وأن الإمبراطور الفرنسي تُيِّم منذ تلك اللحظة بهذا النبات وأنه كان يتبخر به على فراش مرضه إيمانًا منه بأن هذا النبات سيعيد له صحته. وكانوا يتخذون منه غسولًا ليحافظ على نضارة الوجه ومنهم من قال بأن الذي يشم إكليل الجبل بشكل منتظم يظل طول حياته يافعًا. وينسب إلى إليزابيث ملكة المجر قولها بأنها حين تداوت بإكليل الجبل بدت جميلة ويافعة حتى شغفت ملك بولندا الشاب وطلبها للزواج.

وكانوا يؤمنون بأنه يطرد الأرواح الشريرة فكانوا يضعونه تحت الوسائد لمنع الكوابيس، وكانوا يؤمنون كذلك أنه يطرد الأسقام وكانوا في زمن الطاعون يتخذون من أكاليل الجبل حِرزًا وكانوا يتبخرون به لتنقية الهواء؛ وحين تستحضر وصيفة جولييت كيف تسقم سيدتها إن ذُكِر لها من هو دون روميو تقول «ألا يبدأ الروزماري وروميو بنفس الحرف؟«[3]

وكان يرتبط عندهم كذلك بمراسم الدفن وتزيين الموتى، يقول الراهب لورانس، مخاطبا أبا جولييت، أمام جسد جولييت التي تظاهرت بالموت لحين رجوع روميو «جفف دموعك وازرع إكليل جبلك على الحسناء المسَجَّاة أمامك، وكما تقتضي الأعراف خذها للكنيسة في أحلى زينتها».

وكانوا يطردون به الضار من الهوام وكان صناع السجاد وتجارُه يطوون بضاعتهم على أغصانه ليطردوا السوس الذي لو تسربت منه واحدة لأفسدت عمل شهور.[4] ولنفس السبب كانوا يستخدمونه لحفظ الأطعمة وقد أقرهم داود الأنطاكي في «تذكرة أولي الألباب» على هذه العادة إذ يقول «وإذا حشي به اللحم ناب مناب الملح في دفع فساد الرائحة».

اسم روزماري كذلك تتسمى به النساء وكانت أول روزماري سَمِعتُ عنها هي عالمة الاجتماع بريطانية المُواطَنَة وفلسطينية الهوى روزماري صايغ، وحين قرأت لها لأول مرة ضقت بهذه الأجنبية التي تكتب عن معاناة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان كما لو كانت مشكلة لبنانية صرفة وكأنها تُسقط دور الغرب في خلق هذه المعاناة وبالتالي واجبه الأخلاقي، إن كانت له أخلاق، في دعم حق العودة. ثم اقتربتُ أكثر من وضع الفلسطينيين في لبنان ورأيت بعيني كم يعانون على يد أشقائهم. ثم كان لي الحظ أن أتتلمذ على يد روزماري صايغ وعرفت أنها لا تُسقط دور الغرب أو مسؤولويته وإن كانت كتاباتها قد تشي بذلك. لم تتلاش تحفظاتي إزاء الباحثة الأمريكية التي تَدرُس المخيمات ميدانيًا من دون أن تتقن العربية أو تتحرر تمامًا من بعض تحيزاتها الغربية، وإزاء تقليد بالٍ في الإثنوغرافيا يدّعي حياد الباحث ويطمس انحيازاته تحت فيض من التفاصيل المملة، إلّا إني تعلمت كذلك أن أحترم دماثة روزماري صايغ وتفانيها والتزامها بالقضية الفلسطينية.

أما أشهر امرأة تسمت بهذا الاسم فهي بلا شك روزماري التي تنجب ابن الشيطان في فيلم رومان بولانسكي البديع «طفل روزماري».

ارتبط هذا العشب، خاصة في حكايات الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى، بمريم العذراء، وقيل إنها أوت إليه في رحلتها إلى مصر هربًا من الرومان، وإنها فرشت عليه عباءتها الزرقاء فأصبح من وقتها يزهر تلك الزهور الزرقاء التي تميزه. ربما -أقول ربما ولا أجزم- جانَبَ اللغويين الصوابُ حين قالوا بأن كلمة روزماري تأتي من المصطلح اللاتيني «ندى البحر»، وكانت روز-ماري تعني من البداية «زهرة مريم».[5]

المريمية

أمّا عندنا، فإن العشبة التي ترتبط بمريم العذراء وتُنسب إليها هي بلا شك عشبة المريمية، والتي قيل إنها سميت بهذا الاسم بعد أن باركتها السيدة مريم. وقيل إنها كانت تهدئ بها المسيح الرضيع أثناء رحلتها بين فلسطين ومصر هربًا من السلطات الرومانية؛ ثم أصبح الناس يمسونها مع مرور الوقت بالميرمية، وفي الخليج مرامية وفي مصر مرمرية، ورغم أن الفراعنة قد عرفوا هذه النبتة التي ربما كانت مصر القديمة أصلها، ورغم أنها تنبت بكثرة في سيناء إلّا إنها ليست عشبة معتادة لدى المصريين.

ترتبط هذه العشبة بطقوس الشاي الفلسطينية، وترتبط في ذهن الكثير منّا بفلسطين والفلسطينيين وفي قصيدة حالة حصار جعلها محمود درويش رديفة للجوهر الفلسطيني الذي لا يستطيع المحقق الإسرائيلي أن ينفذ إليه، وللجوهر السابق على الاحتلال وكرهه (أو محبته):

«لا أحبك، لا أكرهك
 قال معتقل للمحقق: قلبي مليء
بما ليس يعنيك، قلبي يفيض برائحة المريمية،
قلبي بريء، مضيء، مليء،
ولا وقت في القلب للامتحان. بلى،
لا أحبك. من أنت حتى أحبك؟
هل أنت بعض أناي، وموعد شاي،
وبحة ناي، وأغنية كي أحبك؟
لكنني أكره الاعتقال ولا أكرهك
هكذا قال معتقل للمحقق: عاطفتي لا تخصك.
عاطفتي هي ليلي الخصوصي».

طبعا من الممكن أن ننتقد درويش، من منطلق فلسفي، في ما يتعلق بوجود ذلك الجوهر المتجاوز لتجربة الاحتلال، أو أن نتساءل إن كان اختلاقه لذلك الجوهر المتجاوز لبغض المحتل أو محبته هو أحد مقدمات درويش الشعرية العديدة لمشاريع التسوية والتعايش، إلّا إننا لا ننكر أن صورة القلب الذي يفيض برائحة المريمية جميلة، وأن الإشارة إلى أن هذا القلب المريمي لا يعني الإسرائيلي في شيء هي إشارة في موضعها.

وفي قصيدة «الحمامة والعنكبوت» يذهب تميم البرغوثي بالمريمية إلى أبعد من ذلك فيأخذها من الخصوصية الفلسطينية إلى رحاب الأمة جمعاء ويرجع بها في التاريخ إلى الحدث التأسيسي للنظام السياسي الإسلامي، أعني الهجرة النبوية. إذ تقول الحمامة التي قيل إنها وضعت عشها أمام الغار لتحمي الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر الصديق من كفار قريش:

«لقد كان في الغار دنيا
من الصين حتى بلاد الفرنجة
أسواقها وميادينها وقوافلها
وعساكرها، صياح المنادين
بسط الجوامع آيُ المصاحف
أضرحة الصالحين نقوش الأواني
وشاي الصباح يُعَطَّرُ بالمريمية والياسمين».

قد يقول قائل بأن الشاعر يخلط ما بين النسق «المريمي» والنسق الإسلامي ولكننا نقول بأن تميم إذ يؤسلم المريمية فهو يجعل الإسلام فلسطينيًا أو يضع القضية الفلسطينية في قلب الإسلام، المفتاح هنا هو إشارة البرغوثي في نهاية القصيدة إلى الرسول وأبي بكر بأنهما «عربيان» حلّا وارتحلا. تأتي المريمية هنا كلحظة الذروة في سرد القصيدة التصاعدي للدنيا-الأمة التي سيؤسس لها حدث الهجرة -أو حدث اختباء غريبين ضعيفين ومطاردين من «الوجوه المقيتة» التي تمثل السلطة القائمة- ويشمل هذا السرد التصاعدي كل البلاد التي سيدخلها الإسلام «من الصين حتى بلاد الفرنجة» وكل المعاني الروحية والاقتصادية والعسكرية لهذه الدنيا الجديدة؛ إلّا إن تميم، على عكس المعتاد في شعر الحماسة، يفاجئنا لا بذروة حماسية وملحمية بل بذروة في غاية الرقة والعذوبة تستلهم طقسًا يوميًا بسيطًا؛ فالذروة لا تأتي مع العساكر أو المنادين أو المساجد أو حتى مع أضرحة الأولياء ولكنها تأتي مع «شاي الصباح يُعَطَّرُ بالمريمية والياسمين». وأزعم أن البرغوثي تعمّد أن يجعل الذروة فلسطينية وأن تلك المواءمة ما بين أممية الدعوة (من الصين حتى بلاد الفرنجة) وعروبتها (عربيان وارتحلا) التي تضع فلسطين و«مريميتها» (مع الإحالة المسيحية الكامنة في الكلمة وفي تاريخ العشبة) في القلب أو الذروة، لا تنفصل عن مشروعه السياسي الذي يريد أن يبحث عن رابط يتخطى الفكرة القومية التي صاغها لنا الاستعمار دون أن ينزلق بخروجه عن القومية إلى الطائفية أو إلى تهميش قضية فلسطين.

وسواء كانت مريم العذراء قد باركت المريمية أم لم تباركها فإن هذا النبات انتقل إلى روما التي اكتشفت خواصه المقاومة للأمراض وأصبح نباتًا طبيًا ودينيًا لديها حتى قال بعضهم بأن المريمية هي التي تحمي الجنس البشري. وأصبح اسمه اللاتيني والعلمي هو «سالفيا» أي نبات السلامة أو الخلاص، ليتحور بعد ذلك إلى «سايج» (حكيم/رزين) بالإنجليزية[6] فكأنه نبات الرزانة والحكمة.

إلّا إن مكانة المريمية لم تتوقف عند أوروبا القديمة، فلهذا النبات الفلسطيني أخ في القارتين الأمريكيتين تزرعه شعوبها الأصلية وتُقدِّسُه من قبل الاحتلال؛ وحين نَزَلَت أستاذةُ «دراسات الشعوب الأمريكية الأصلية» والناشطة ضد الاستعمار مارغو تاميز ضيفةً كريمةً علَيَّ في نيو يورك (حين دعوتُها لإلقاء محاضرة في جامعة كولومبيا عن جدران الفصل الاستعمارية في فلسطين وتكساس) أثلج صدرَها أنْ وجَدَتْ في مطبخي علبة مليئة بالمريمية وأخذت تلهج بفوائد هذه العشبة في مقاومة البكتيريا والفيروسات وفوائدها الروحية المختلفة بحسب فلسفة شعب الندي (الأباتشي) الذي تنتمي إليه، وأخذت تخبرني عن أهمية المريمية لثقافات شعوب أمريكا الأصلية وسألتني إن كانت لها نفس الأهمية في ثقافتنا وإن كنا نغليها ونشربها أم نحرقها لنتبخر بها كما تفعل بعض الشعوب الأصلية في أمريكا. ربما سيكون الاحتفال بزوال الاحتلال، في قارتينا وقارتيهم، معطّرًا كذلك بالمريمية.

الريحان

ورد ذكر الرَيحان مرّتين في القرآن الكريم في معرض وصف الجنة، إلا إننا لا نعرف يقينًا إن كان الرَيحان المقصود في الآيتين هو نفس النبات الذي نعرفه الآن بالرَيحان. فقد قيل إن كل نبات له رائحة هو في العربية رَيحان، وشاهده ما جاء في الحديث عن رَيحان يفوح منه المسك وعن أن الحناء من صنوف الرَيحان. وقيل إن الرَيحان يعني كذلك الرزق وشاهده قول أهل حِميَر «خرجنا نطلب ريحان الله».

يَسُرُّ الريحان الناظرين بساقه المزهرة التي تضرب، بحسب النوع، إلى الأزرق أو الأخضر أو الأقحواني، ويسر المُتَنَسِّمين برائحته العطرة التي يقال إنها تطرد الذباب، ويسر الآكلين بمذاقه الغني الذي جعله من ثوابت المطبخ الإيطالي. وقد وجدتُ الطباخين يستخدمون أوراقه الخضراء من دون ساقه المزهرة، إلّا إني قد جربت زهوره فوجدت لها نفس الطعم ووجدتها في بعض الأحيان أكثر غنى. ويمكن غليه وشربه كذلك ومنقوعه يشبه النعناع.

وقد كثرت الإشارة إليه في الشعر العربي، ففي مطلع قصيدة عماد الدين الأصبهاني في مدح الشام وأهلها:

أهدى النسيم لنا ريا الرياحينِ          أم طيب أخلاق جيراني بِجيْرُونِ

وكان بشار بن برد يمدح نفسه بالريحان فيقول، يرثي حاله حين ساءت بعد أن أحب امرأة لم تحبه:

أمِن ريحانةٍ حَسُنَت وطابت          تبَيت مُروَّعًا وتَظَلُّ صَبّا

ويقول معاتبًا ولي نعمته الوزير يعقوب بن داود الذي كان قد بدأ في التَنَكُّر له (هذا التنكر الذي سوف ينتهي بالوزير ابن داود إلى تحريض الخليفة المهدي على ضرب بشار وقتله)[7]:

فسَقيتهم وحَسِبتَني كمونةً          نبتت لزارعها بغير شرابِ

مه لا أبا لك إنني ريحانةٌ          فاشمُمْ بأنفك واسْقِها بِذِنابِ

ومثل ذلك قول امرأة كانت تناظر في الطريق شاعرًا، قيل هو الإمام الشافعي، فقالت متفاخرة

إن النساء رياحين خلقن لكم         وكلكم يشتهي شم الرياحين

ومن الأعلام الذين تَسَمُّوا بهذا الاسم أبو الريحان البيروني عالم الفلك الذي قال بحركة الأرض حول محورها.

الزعتر

«ليدين من حجر وزعتر
هذا النشيد، لأحمد المنسي بين فراشتين
مضت الغيوم وشردتني
ورمت معاطفها الجبال وخبأتني».

ربما لم يرتبط عشب، ولا حتى المريمية، بالجرح الفلسطيني مثل الزعتر. فالزعتر يحيل إلى قصيدة محمود درويش الشهيرة، وإلى مخيم تل الزعتر ويذكرنا بأن المجازر لا ترتكبها فقط إسرائيل ولكن ترتكبها أيضا فاشيات وانعزاليات محلية، وأن التآمر على المقاومة الفلسطينية ليس حكرا على الأنظمة «الرجعية» ولكن تتنافس معها فيه الأنظمة «التقدمية». تل الزعتر أصبح تذكيرًا بصمود الفلسطيني بعد أن تركته كل القيادات، بما في ذلك قيادته، وحيدًا. أصبح تل الزعتر، بحسب وصف محمود درويش «مخيمًا ينمو وينجب زعترًا ومقاتلين»، وكما جعل درويش الزعترَ رديفَ المقاوم، مَنَحَ ابنَ المخيم الواقفَ وحدَه أمام غدر الأشقاء والأعداء اسم «أحمد الزعتر» (حين غنّى مارسيل خليفة القصيدة غير العنوان إلى «أحمد العربي» ولكن الإشارت إلى الزعتر وإلى المخيم بقيتا حتى مع محاولات مارسيل خليفة اجتثاثها). ربما كان الزعتر في قصيدة محمود درويش يشير إلى التقاء اليومي بالملحمي، وإلى التقاء المادي النابت من الأرض بالرمزي والأثيري.

مثّلت هذه الاستعارة الزعترية لحظة فارقة في شعر محمود درويش. فإن مسيرة محمود درويش الشعرية شهدت محاولات حثيثة للمواءمة بين سريالية كان درويش يحبها («للحصى عرق ومرآة») وبين نمط من «الواقعية الاشتراكية» أملته الذائقة العامة في تلك المرحلة وأملته كذلك علاقة درويش بالحزب الشيوعي («وكفي صلبة كالصخر تخمش من يلامسها»). هذه المواءمات قبل قصيدة أحمد الزعتر كانت تصل بدرويش في بعض الأحيان إلى صياغات مدهشة في جمالياتها ولكنها تفتقر إلى النضج الذي نعرف به شعر درويش (مثلا: «وأقسم من رموش العين سوف أخيط منديلًا وأكتب فوقه شعرا») وفي بعض الأحيان إلى تلفيقات ساذجة إلى حد الإضحاك وإن لم تخل من جمال (فمثلًا بعد أن يتحدث عن هيروشيما التي تبكي على الحائط يقول «وكان الأسبرين يرجع الشباك والزيتون والحلم إلى أصحابه»).

أما في قصيدة أحمد الزعتر فإن الصوتين يجتمعان لينتجا، على سبيل المثال، التضافر الناضج للسريالية مع الواقعية الاشتراكية في «جلدي عباءة كل فلاح سيأتي من حقول التبغ كي يلغي العواصم». توائم هذه الصورة، وقصيدة أحمد الزعتر في مجملها كذلك، بين الثوري إلى حد المثالية والرومانسية (الفلاح الذي سيلغي العواصم) وبين الحياتي واليومي (الزعتر وحقول التبغ والطحين والحجر). وأحمد «المولود من حجر وزعتر» هو كذلك «أحمد العادي» وهو الذي استطاع أن يمحو «الفارق اللفظي بين الصخر والتفاح، بين البندقية والغزالة». وتبشر نهاية القصيدة بصعود أحمد الزعتر الذي تجتمع فيه كل هذه الأشياء عبدًا ومعبودًا ومعبدًا.

طبعا لا ننسب الفضل للزعتر في إنضاج تجربة درويش ولكننا نقول بأن دوره يتعدى الإحالة إلى هذه القصيدة؛ فالزعتر هو أحد مفردات القصيدة التي يجتمع فيها اليومي والواقعي (الزعتر هو الطعام الذي ينبت من الأرض ويصبح في متناول الفقراء والمقاومين قبل الأغنياء والمترفين) بالرمزي (فالزعتر ينبت بأرض فلسطين التي ارتبط رمزيًا بها وبتاريخ المقاومة وبتل الزعتر وبمعارك المقاومة الفاصلة).

لم يبدأ ارتباط الزعتر بالمقاومة الفلسطينية بقصيدة محمود درويش ولم يكن عَرَضًا من عوارض حصار تل الزعتر، بل ظهر ذلك الارتباط مبكرًا (1968) عند غسان كنفاني في مجموعته القصصية «عن الرجال والبنادق» في التناقض ما بين منصور المقاوم الذي كان «يرش الزعتر الجاف في نصف رغيف أسمر شديد الخشونة، ويعيد النصف الآخر إلى جيب سرواله فيسقط فوق الرصاص» وما بين قاسم «المثقف» المتماهي مع الصهيونية والذي كان «يفرش شريحة من الخبز المحمص بالزبدة ثم [يطليها] بكمية كبيرة من المربى» وهو جالس إلى صديقته الإسرائيلية. ونترك التعليق هنا لرضوى عاشور التي تقول: «والصورتان تجسيد لنمطين متناقضين تمامًا في الحياة أحدهما ريفي وأصيل والآخر غربي ووافد».[8]

المفارقة طبعًا هي أن كنفاني وأبناء المخيم والمحاصرين في تل الزعتر ثم المحاصرين في غزة بعدها بعقود كانوا يتعاطون الزعتر والخبز الجاف والرصاص بينما يتشارك درويش وأولياؤه في منظمة التحرير ثم في سلطة أوسلو ما هو أكثر من الخبز المحمص والمربى مع أصدقائهم من مثقفين ونجوم عالميين وانعزاليين لبنانيين (أثناء حصار تل الزعتر عام 1976 وقبله وبعده) وإسرائيليين (سواء في حالة سلطة أوسلو أو في حالة درويش الذي لم يتبرأ من أصدقائه الإسرائيليين[9] ولا من علاقته بسلطة أوسلو بينما كان حريصًا على التبرؤ من حماس).[10] 

 وحين أردت أن أكتب مقالًا بريئًا عن الأعشاب العطرية أخذني الزعتر إلى المجازر وإلى الصمود وإلى الخلافات الداخلية.

الشيح

لم يتعّرض عشب إلى الظلم كما تعرض له الشِيْح؛ لم يمنحه الزارعون واللغويون اسمًا أنيقًا كإكليل الجبل أو المريمية، ولم يجعله الأدباء رديفًا لشيء كما فعلوا مع المريمية والزعتر. لم يحظَ بشيء من رونق ابن عمه الإفرنجي الذي اشتهر بتهدئة الأعصاب، شيح البابونِج، ولا من المصير الشاعري لأزهاره التي تزهر في أول الربيع ولا تدوم لآخر الصيف. ولم يكن له حظ ابن عمه الشامي، الطرخون، الذي مدحه نزار قباني والذي وجد طريقه إلى المطبخ الفرنسي ومنه إلى المطبخ العالمي وأطباقه الفاخرة. لعنة الشيح هي خصائصه المساعدة على الهضم والمهدئة لآلام المعدة، حتى أصبح رديفًا للتقلبات المعوية؛ وأنه يطرد الزواحف والقوارض فارتبط في ذهن الناس بالثعابين والِجرذان. ولهذا لم يتغن شاعر بالشيح المنقوع في زيت الزيتون في الصباح ولا بكوب الشيح المغلي في المساء. لم ينصف الشيحَ سوى الأطباء فترى داودَ الأنطاكي في تذكرته يعدد فوائده للتنفس والهضم وعلاج الأوجاع والحمى.

يقول المرجفون بأن هذا العشب مر؛ كل الأعشاب لها مرارة لا يستشعرها إلّا من بالغ في المقادير أو الغلي. ولكن جربوا قليلًا منه مع الجبن الأبيض أو البيض أو بين لحم الطير وجلده وستجدون أن وقتكم لم يذهب في قراءة هذا المقال سدى.

خاتمة

هذا غَيضٌ مِن فَيض ولولا أنْ نُطيل لعددنا أنواع الزعتر البري والبلدي والجبلي، ولتكلمنا عن النعناع والبردقوش ومليسة الليمون مرطبة البشرة وطاردة البعوض، وعن أوراق اللَورَى وشجيرة الغار وكيف طاف أبولّو بالكرة الأرضية ذهابًا وإيابًا بسببها، وعن الزعفران ومكانته عند الفرس، وذكره في معلقة عمرو بن كلثوم، وعن الكَمّون وذِكْرِه في الشِعر وكيف أصبح مثلًا للوعود الكاذبة؛ ولأسهبنا في بيان الفوائد الطبية وفي وصفات الطهي.

  • الهوامش

    [1] لا يفوتني هنا أن أتوجه بالتحية إلى الصديق عمر خليفة الذي كتب «في مديح الكنافة» فسبقني إلى الكتابة عن الطعام على صفحات حبر، وإلى محرري حبر لإتاحتهم المجال لهذا الشكل من الكتابة.
    [2] وليام شكسبير، هاملت.
    [3] وليام شكسبير، روميو وجولييت.
    [4] نشير هنا إلى استحضار الروائية تريسي شيفالييه البديع لإكليل الجبل ودوره في حفظ السجاد ورمزيته في ما يخص التذكر والبقاء على الرغم من الشتاء القارص في: (Tracy Chevalier, The Lady and the Unicorn).
    [5] يرى قاموس أوكسفورد للغة الإنجليزية أن العكس هو الصحيح وأن العوام قد حرفوا اسم النبات من روزمارين إلى روزماري تيمنًا بمريم العذراء. ربما؛ ولكن يبقى في نفسي شك لأن إكليل الجبل لا ينبت على شواطئ البحر حصرًا. وأشكر هنا الصديق كريم ملاك الذي ساعدني في تقصي أصول الكلمة.
    [6] ينظر قاموسا أوكسفورد وويبستر للغة الإنجليزية. والشكر موصول لكريم ملاك لمساعدته القيمة في تقفي أصول الكلمات.
    [7] ينظر على سبيل المثال شرح محمد الطاهر بن عاشور لديوان بشار بن برد
    [8] رضوى عاشور، الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني، 59.
    [9] لا ننسى على سبيل المثال دعوته إلى الحوار ما بين «المثقفين» الفلسطينيين والإسرائيليين ورد ناجي العلي البليغ «محمود خيبتنا الأخيرة».
    [10] ينظرعلى سبيل المثال لقاؤه مع أخبار الأدب في 11/2/2001 وتحديدا قوله: «السلطة من؟ هم أصدقائي (..) لدي علاقات ممتازة بالجميع على مستوى السلطة وعلى مستوى المعارضة غير الإيديولوجية. أنا علاقتي ممتازة مع كل الناس ما عدا حماس (..) أنا لا أعرف أحدا من حماس».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية