سجنان ومخيمان وعائلة: زكريا الزبيدي على خطى جدّه

الأربعاء 15 أيلول 2021
أم سمير تحمل صورة زوجها محمد علي أسعد أبو جهجاه، جد الأسير زكريا الزبيدي. تصوير مؤمن ملكاوي.

في بيتها في الأردن، تسمع التسعينيّة فوزة مصطفى (أم سمير) الأحاديث عن فرار حفيدها زكريا الزبيدي مع خمسة أسرى آخرين من سجن جلبوع الواقع غربيّ مدينة بيسان داخل الأراضي المحتلة عام 1948، وتتذكر سيرة زوجها أبو سمير الجهجاه، الذي فرّ من سجن شطّة عام 1958 مع أسرى فلسطينيين وعرب.

كان محمد علي أسعد أبو جهجاه، المولود يوم 22 تموز 1918 في بصّة الفالق قضاء طولكرم، قد طلب يدها في أربعينيات القرن الماضي، فتزوجته وأنجبا ولدًا وبنتًا هما سمير وسميرة، وعندما وقعت النكبة لجأت العائلة إلى جنين، ثم انتقلت عام 1951 إلى منطقة وادي الريّان في الأغوار الشمالية في الأردن، حيث تسكن أم سمير الآن.

في الأيام الأولى للعائلة في بلدة وادي الريّان، قطع أبو سمير نهر الأردنّ وسار غربًا ثم تسلّل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، دون أن يعرف أحد من العائلة وجهته. وقد كان خطّ الهدنة بين الأردن وسوريا ولبنان ومصر من جهة، و«إسرائيل» من جهة أخرى، يشهد دومًا تسلل لاجئين فلسطينيين إلى ديارهم بهدف العودة، أو مهاجمة المستوطنات الإسرائيلية التي أقيمت على أراضيهم.

آنذاك، أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي النار على المتسللين لمنعهم من العودة، فيما قُتل وجُرح 112 إسرائيليًا عام 1951 نتيجة الاشتباكات[1] التي وقعت بين متسللين وقوات حرس الحدود الأردنية من جهة، وجيش الاحتلال من جهة أخرى.

أسَرَ جيشُ الاحتلال من استطاع القبض عليه من المتسللين، وحكم عليهم بالسجن المؤبد، أو أحكام سجنٍ طويلة الأمد،[2] كان أبو سمير جهجاه واحدًا من الأسرى الذين نُقلوا إلى سجن شطّة، المخصص حينها للمجرمين الجنائيين الإسرائيليين والأسرى السياسيين العرب.[3]

وكانت سلطات الاحتلال البريطاني قد شيّدت سجن شطّة الواقع في غور بيسان كمقرٍ لقيادة شرطتها، إضافةً إلى مقراتٍ أخرى في رام الله والخليل ونابلس وعكّا، وحملت هذه المباني اسم «تيجارت» نسبةً إلى الضابط الإنجليزي المشرف على بنائها تشارلز تيجارت، ثم حولت «إسرائيل» المقر عام 1952 إلى سجن وضمّت له محطة قطار قريبة، وسمّي سجن شطّة نسبة إلى قرية شطّة الفلسطينية القريبة منه.

وبعدما طال غياب أبو سمير، جاء أهل أم سمير إلى الأردن لأخذها معهم، لكنها قالت لهم: «إذا ما أشوف أبو سمير ميت ويجيبوه قدامي ما أروّح، بدي أربّي سمير وسميرة».

أبو سمير في «خميس «إسرائيل» الأسود»

في حزيران 1958 كان في سجن شطّة 190 أسيرًا فلسطينيًا وعربيًا،[4] بينهم الأسير المصري أحمد عثمان،[5] بالإضافة إلى سبعة سجناء جنائيين إسرائيليين. وبحسب ما رواه أبو سمير لابن شقيقه خليل جهجاه، فقد كان بين الأسرى أسيران لبنانيّان، تراوحت أعمارهم بين 16 و17 عامًا.

في ذلك العام، كان العمل جاريًا على توسيع السجن وبناء سور خارجيّ له، وقد شغّلت إدارة السجن الأسرى في أعمال البناء،[6] فيما شغّلت الأسيريْن اللبنانيّين في تنظيف غرف ضباط السجن، كما روى أبو سمير لخليل. واستغلّت مجموعة من ثمانية أسرى قدرة الأسيرين اللبنانيّين على الوصول إلى غرف الضباط، ومعرفة بعض الأسرى في أعمال التوسعة بالسجن، في التخطيط لعملية فرارٍ منه.

ضمّت المجموعة المصريَّ عثمان، وفلسطينيًا من غزة عرف باسمه الأول صبحي، وآخر من الخليل، ومعهم سمير جهجاه، إضافة إلى أربعة أسرى آخرين، وضعت المجموعة خطة الفرار وحددت الساعة السادسة من مساء يوم 31 تموز 1958 موعدًا لتنفيذها.

حصَل الأسيران اللبنانيّان على مفاتيح القسم الذي يوجد فيه الأسير الغزيّ صبحي، فحرّر الأسرى في قسمه، وأعطوا إشارة بدء العملية لبقية أفراد المجموعة في قسمٍ آخر، ففتح عثمان الباب الفاصل بين أقسام الأسرى ومكاتب إدارة السجن، وتوجهت المجموعة إلى غرفة السجّانين وسيطروا على أحد الضباط، ثم «قطعوا خط الهاتف، وحطموا جهاز اللاسلكي لعزل السجن عن العالم الخارجي، وقطعوا التيار الكهربائي».[7] ومن أصل خمسة حراسٍ على أبراج المراقبة تواجد اثنان فقط في مكانيهما، فيما كان بعض السجانين في استراحة، والبعض الآخر في إجازاتهم الأسبوعية.

خليل جهجاه ابن شقيق أبو سمير رفقة أم سمير. تصوير مؤمن ملكاوي.

هكذا سيطرت المجموعة على مخزن الأسلحة، وتبادل الحرّاس والأسرى إطلاق النار، وكان أبو سمير قد حصل على بندقية من غرفة الحراسة وشارك في إطلاق النار الذي أدى إلى مقتل السجانيْن يوسف شيبح وإلكسندر ياغر وجرح ثلاثة آخرين، فيما استشهد الأسير الخليلي وأصيب الأسير المصري عثمان.[8] فرّ الأسرى وعبَرَ بعضهم إلى الأردن، أما أبو سمير فوصلَ إلى جنين حيث يسكن أولاد عمّه.

أعلنت «إسرائيل» أن عدد الأسرى الفارّين بلغ 66 أسيرًا، بعد أن قبَضتْ على بعضهم في السهول المجاورة للسجن. بحث جيش الاحتلال وقواته الأمنية عن الأسرى الفارّين، وفرض حظر التجوال في بعض المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، حتى وصل الحظر إلى مدينة شفا عمرو على بُعد عشرات الكيلومترات عن السجن، «وجرى تفتيش المنازل بدقة من دون إعلان السبب، وتناقل الناس لاحقًا القصص عن الهروب الكبير في سجن شطّة»،[9] فيما أطلقت وسائل الإعلام الإسرائيلية على ذلك اليوم: الخميس الأسود.[10]

شكّلت «إسرائيل» لجنة تحقيق في عملية الفرار برئاسة موشيه عتسوفي، قاضي المحكمة المركزية في حيفا حينها، «وهي لا تزال تجتمع إلى اليوم [2006]، وتعقد سنويًا حلقات نقاشٍ لبحث الموضوع واستخلاص العبر منه».[11]

حين وصل أبو سمير إلى جنين حقق معه الجيش الأردني الذي كان يدير الضفة الغربية آنذاك، ثم عيّنه مراقبًا على حاووز الماء في جنين كما يقول خليل الجهجاه.

«إسرائيل» لا تنسى أبو سمير

«هو زلمة قدْ حاله، زلمة إن عدّيت الزلام ينْعد منهم» تقول أم حيدر المصيعي؛ قريبةُ أم سمير، ومن سكان مخيم الحصن الذي جاء إليه أبو سمير -برفقة عائلته- عام 1967 ضمن جيش التحرير الفلسطيني التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، وأقام فيه أربع سنوات.

تتذكر أم حيدر سنوات أبو سمير في المخيم: «المشاكل الي تصير بالمخيم هو يحلّها، زلمة متسلط على ابنه يحلها، [زلمة] يحط سلطته على بنته، على مرته، يحلها بالعقل».

أم حيدر المصيعي؛ قريبة أم سمير في مخيم الحصن. تصوير مؤمن ملكاوي.

كبرت عائلة أبو سمير، فإلى جانب سمير وسميرة المولوديْن قبل العام 1948، وُلد له كل من ذياب وذيب ونمر وسميح وأميرة. وعندما بدأت أحداث أيلول مطلع السبعينيات سافر أبو سمير وخليل جهجاه إلى ألمانيا للعمل هناك.

عمل أبو سمير في مدينة فرانكفورت عامل بناء فور وصوله، وتوفي عام 1973 أثناء العمل تحت ناقلة أسمنت، ونقل إلى الأردن ودفن في مقبرة شرحبيل بن حسنة بمنطقة وادي الريّان.

وقبل وفاته بعامين، تزوجت ابنته سميرة وانتقلت للعيش في جنين، وقد سعت منذ انتقالها للحصول على لمّ شملٍ، لكن الحاكم العسكري الإسرائيلي رفض كل محاولاتها بحسب ما يقوله لـ«حبر» ابنها البكر عبد الرحمن: «كل ما تطالب بلمّ شمل عند الحاكم العسكري (..) كانوا يقولوها إنتِ بنت أبو سمير أبو الجهجاه، ممنوع».

إضافةً إلى عبد الرحمن، وُلد لسميرة في مخيم جنين عام 1976 طفلٌ نحيفٌ اسمه زكريّا.

وكانت كلما انتهت مدة تصريحها تأتيها دوريات الشرطة الإسرائيلية وتطلب منها المغادرة إلى الأردن لإصدار تصريح زيارة كونها من حملة الهوية الأردنية، وهكذا أمضت سميرة، التي صارت تعرف بأم العبد، سنواتها بين الأردن ومخيم جنين. وفي العام 1980 حصلت أم العبد على لمّ الشمل، لكنها بعد ذلك أمضت حياتها «رايحة جاية» في زيارات السجون؛ فقد أمضى زوجها محمد الزبيدي، سنواتٍ طويلة من حياته في السجون، إذ اعتقل قبل زواجه بتسعة أشهر بسبب عضويته في حركة فتح، ثم خرج من الأسر وتزوج أم العبد، واعتقل بعدها، «وظل ينحبس من الـ89 حتى الـ93. صابه سرطان بالدماغ، وما رضيوا يعالجوه»، يقول عبد الرحمن. وسُجن ابنها يحيى 17 عامًا، فيما حُكِم عبد الرحمن بالسجن أربع سنوات، أمّا زكريا فسجن تلك الفترة لفترات قصيرة.

شكّلت «إسرائيل» لجنة تحقيق في عملية الفرار من سجن شطّة ظلّت تجتمع حتى عام 2006، و«تعقد سنويًا حلقات نقاشٍ لبحث الموضوع واستخلاص العبر منه».

وعند اجتياح مخيم جنين عام 2002،[12] وقفت دبابة إسرائيلية عند باب بيت أم العبد الذي تحوّل إلى ثكنة عسكرية، «كان في شباب كثير من التنظيمات يفوتوا ويطلعوا»، وفقًا لعبد الرحمن. وقد كان ابنها طه ضمن صفوف سرايا القدس التابعة لحركة الجهاد الإسلامي، أما زكريا فكان مع كتائب شهداء الأقصى التابعة لحركة فتح.

انتقلت أم العبد وبناتها وزوجة عبد الرحمن إلى بيت جيرانٍ لهم في حارةٍ لم تشهد اشتباكات مسلحة، إذ كانت تحت سيطرة «الشباب» كما يقول عبد الرحمن. لكنّ قناصًا إسرائيليًا وقفَ على جبلٍ قريب مقابل البيت، «ومن على بعد 500 متر هوائي» أطلق رصاصة على أم العبد التي كانت تقف بجوار النافذة، فاستشهدت في آذار 2002.

وحين وصل خبر استشهادها، أقام لها أخوتها بيت عزاء في وادي الريّان بالأردن وفقًا لابنها سميح، وبعد شهرٍ استشهد ابنها طه الذي كان يقود حينها مجموعة من سرايا القدس. وقد أُسر أغلب أبناء أم العبد في فترات متقطعة بعد الاجتياح، فيما ظلّ ابنها زكريا الزبيدي مطارَدًا.

تزوج زكريا عام 2002 وهو مطاردٌ، وأنجب أول أطفاله عام 2004، وأسماه محمد تيمنًا بجدّه أبو سمير، ثم أنجب ابنةً سمّاها سميرةعلى اسم أمه.

وفي عام 2007 شمل عفو إسرائيليّ زكريا، لكن «إسرائيل» أسرته عام 2019، وحُبس في سجن جلبوع الذي أنشئ عام 2004 كامتدادٍ لسجن شطّة، وظلّ في الأسر حتى فجر السادس من أيلول، حين أفاقت «إسرائيل» على فراره ضمن مجموعة من ستة أسرى فلسطينيين.

بفراره من سجن جلبوع، أحيا زكريا ذكرى فرار جدّه أبو سمير جهجاه عام 1958 من سجن شطّة. طوال السنين الماضية لم تنسَ «إسرائيل» ما فعله الجدّ، ولا يبدو أنها ستنسى ما فعله الحفيد.

  • الهوامش

    [1] وقُتل وجُرح 116 من الجيش الإسرائيلي عام 1952، و117 عام 1953، بحسب ما وثّقه قائد قوات حرس الحدود في الجيش الأردني، اللواء صادق الشرع في مذكراته «حروبنا مع إسرائيل 1947-1973»، دار الشروق، ط1، 1997، ص 309. 

    [2] إلياس نصرالله، شهادات على القرن الفلسطيني الأوّل، دار الفارابي، لبنان، ط1، 2006، ص 599.

    [3] المصدر السابق، ص 598.

    [4] بحسب شهادة الأسير المصري أحمد عثمان لإلياس نصرالله، ضمن كتاب شهادات على القرن الفلسطيني الأول، ص 599.

    [5] جنّدت مصر أحمد عثمان كجاسوس في «إسرائيل»، ودخلها عام 1957 على أنه صحفي فرنسي يرغب بتأسيس إذاعة معادية لعبد الناصر، لكن أمره اكتشف في تل أبيب، بحسب ما روى لإلياس نصرالله.

    [6] المصدر السابق ص 601.

    [7] المصدر السابق ص 603.

    [8] المصدر السابق ص 604 و605.

    [9] المصدر السابق ص 583.

    [10] المصدر السابق ص 606.

    [11] المصدر السابق ص 582.

    [12] دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلية مخيم جنين على مرحلتين: الأولى نفّذتها وحدة كوماندوز صبيحة 28 شباط 2002، والثانية يوم 3 نيسان من نفس العام. بين التاريخين لم تتوقف توغلات بعض الدبابات والحشود العسكرية الإسرائيلية من عدة محاور.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية