سبيل معان

«سبيل معان»: من إطعام عابري السبيل إلى إطعام محتاجي المدينة

جانب من مطبخ سبيل معان. تصوير مؤمن ملكاوي.

«سبيل معان»: من إطعام عابري السبيل إلى إطعام محتاجي المدينة

الأربعاء 27 نيسان 2022

طرقت قوافل الحجّاج منذ مئات السنين دروبًا رئيسيّة في طريقها إلى مكة المكرمة. وكان الحجاج يتجمعون بأعداد كبيرة تصل إلى الآلاف في واحدةٍ من أربعة أماكن هي العراق، ومصر، واليمن، والشام، ثم تخرج القافلة لأداء الفريضة بإمرة أمير الحج.

ونظرًا لطول المسافة فقد قسّمت طريق الحج إلى منازل أو استراحات عرفت بمنازل الحج، حيث تنزل فيها القافلة للاستراحة عدة أيّام، وعادة ما تحتوي هذه المنازل آبارًا وتجمعات سكانيّة وأسواقًا ومساجد.

بالإضافة إلى حجّاج بلاد الشام، ضمّت قافلة الشام حجّاجًا من آسيا الصغرى وشبه جزيرة البلقان[1]، حيث يبدأ مسيرها من دمشق وتشق طريقها عبر قرى الشام إلى أن تقطع عرض البلقاء[2] حتى تصل إلى معان، وكانت معان عند الحجاج أول الحجاز في الذهاب، وآخره في الإياب[3]، وظلّت حتى منتصف القرن التاسع عشر من أكبر البلدان في طريق الحجّ[4] كما يصفها الرحالة الفنلندي جورج فالين عام 1845.

حوت طريق الحج الشامي 10 منازل في الأردن خلال العهد العثماني هي: الرمثا، والمفرق، والزرقاء، والبلقاء، والقطرانة، والحسا، وعنيزة، ومعان، والعقبة، والمدورة[5]. وقد سجّلت المدونات التاريخية اهتمامَ حكام المنطقة بطريق الحج وخدمة الحجاج بما في ذلك بناء القلاع، وحفر الآبار، وشراء الأمن من البدو بالمال فيما عُرف بالـ«الصرّة».

فضلًا عن ذلك، كان أهالي معان يهتمون بالحجاج كذلك، وتعود الذاكرة الشعبيّة هناك إلى 70 سنة مضت، قدّم فيها المعانيون الطعام والسقاية للحجاج دون مقابل في ما عرف بإطعام عابر السبيل.

درب الحج الشامي. المصدر الموسوعة العربية.

يروي الثمانيني أبو ماجد طويلة عادة أهل معان في الخمسينيات في استقبال الحجاج، إذ وفرّ المعانيون مياهًا لعابري السبيل مثلما فعل درويش المكيّ صاحب محل بيع الحلويات الشاميّة من بئر في بيته. وفي السبعينيات بعثت نساء المدينة الطعام مع أطفالهن إلى المساجد الرئيسية التي ينزل فيها الحجاج. يتذكّر محمود أبو صالح الذي كان في التاسعة من عمره حينها كيف خرج من بيته، وكان الفصل شتاء، وشاهد الحجاج في المسجد الهاشمي، وحين عاد أخبر والدته بما رأى فقالت له:«منتا زلمة؟ روح جيبهم»، فرجع إلى الحجاج وقال لهم: «لازم تيجو تتعشوا عنا من المقسوم».

ظل أهل معان يطعمون الحجاج بمجهودات فردية حتى قبل عشرين سنة مضت حين أسّس تجار من المدينة وفاعلو خير مكانًا لإطعام الحجّاج والمسافرين (عابري السبيل) بالمجّان في ما سيعرف لاحقًا بسبيل معان.

البداية

قبل حوالي 20 عامًا، وبأيام قليلة تسبق شهر رمضان، دخل زبون إلى متجر محمود أبو صالح في السوق القديم بمعان وطرح عليه فكرة تقديم العصير والعدس للمسافرين الذين لا يحضرون وقت الإفطار في منازلهم. ثم بعد أيام من رمضان مرّ عليه فاعلو خير يجمعون التبرعات لتوزيع التمر والماء فردّ عليهم أبو صالح: «عنا سالفة أفضل؛ نبني صيوان على مثلث دوار سليمان عرار [عند مدخل المدينة] لأنه موخذ طريق خط السعودية والعقبة وعمان، وبنسوّي وجبات عدس وعصير».

في اليوم الأول من عمر السبيل تبرّع فاعل خيرٍ بأجرة الصيوان، وتبرّع آخر بثمن 100 دجاجة، فجُهّزت القدور وطبخ الطعام ثم وزّع معظمه على الحجّاج والمسافرين، فيما خصص بعضه للعائلات المعوزة في المدينة.

تبيّن للقائمين على السبيل، سنة بعد أخرى، وجود أصحاب حاجة من أهالي المدينة، فوجهوا السبيل لإطعام المحتاجين في المدينة بشكل رئيسي، محافظين على تقديم الطعام للمسافرين والحجاج. لكن، في السنوات التالية زادت نسبة الطعام المخصص للعائلات المعوزة فيما انخفضت حصة عابري السبيل، «بدايتها على المسافرين 80% لكن لما ييجي محتاج ما تقول لأ، بعدين انقلبت [الآلية] وصارت 80% للمحتاجين»، يقول أبو صالح.

محمود أبو صالح في محله حيث خرجت فكرة السبيل.

وجبات عائلية

يقدّم السبيل بشكل رئيسيّ وجبات الدجاج مع أرز بخاري، أو مندي، أو كبسة، أو أوزي. يقول ماهر القريشي، أحد القائمين على السبيل منذ بدايته، عن سبب اختيار الأرز والدجاج: «هذول اللي نقدر نطبخهن بكمية كبيرة، الرز هو المادة الأساسية، لما يكون عندك 8-9 أنفار إذا ما ودّيتلهم رز كيف بدهم يشبعوا؟».

في مرات نادرة يقدّم السبيلُ اللحم؛ ليوم أو يومين فقط خلال رمضان، حيث تقدّر قيمة اللحم الذي يطبخ بحوالي 12-15 ألف دينار في اليوم الواحد. فيما تصل تكلفة الدجاج مع الأرز يوميًا إلى 2,300 دينار تقريبا، لكن ارتفاع أسعار المواد الأولية مؤخرًا زاد من تكلفة وجبات الدجاج 200 دينار على الأقل.

أحد المتطوعين لسكب الطعام.

يوزّع الطعام في السبيل على ثلاث فئات، أولها العائلات المعوزة التي يوثق العاملون في السبيل أوضاعها بعد عملية تدقيق وسؤال بين الأحياء قبل رمضان. وتعمل 9 سيارات على إيصال 300-400 وجبة إلى هذه العائلات بالدور؛ وجبةً واحدة كل يومين، نظرًا لمحدودية إمكانيات السبيل.

أما الفئة الثانية فهي الحجاج والمسافرون وعمال المياومة وطلبة جامعة الحسين بن طلال. والثالثة هي ممن يأتي إلى السبيل من أهل المدينة ويقدّر عدد الوجبات التي يحصلون عليها بـ200-300 وجبة.

عابرو سبيل يتناولون الإفطار عند مقر السبيل.

متطوعون

يقسِّم العاملون على السبيل أنفسهم على عدة دوريّات في السبيل؛ التوزيع، والطبخ، والسكب، والتنظيف، والتحضير. ولا يكاد السبيل يفرغ من المتطوعين على مدار اليوم، بعضهم  بين الثالثة عشر والعشرين من أعمارهم، وقد ورثوا فكرة العمل في السبيل من أبائهم أو أخوتهم الكبار. وهم يشتغلون في مهن مختلفة، فبينهم المدرس، والعامل في شركة الفوسفات، والمتقاعد، والطالب، وعامل المياومة مثل عبدالله البزايعة (33 عامًا) الذي يعمل في الطوبار ويشرف على المتطوعين هذا العام، حيث يترك البزايعة عمله في الطوبار خلال رمضان ويتفرّغ للعمل في السبيل، وكان قد بدأ التطوع فيه قبل حوالي 18 عامًا جاء به أخوه الذي كان طباخًا في السبيل آنذاك.

يبدأ البزايعة عمله في العاشرة صباحًا بتدوين أعداد الوجبات لتوزيعها في أحياء المدينة، ويطابقها بالأعداد في دفاتر الموزعين، ثم عندما يبدأ توزيع الطعام بعد الثالثة ونصف عصرًا يتفرّغ للإشراف على توزيع الطعام للعائلات التي تطلبه مباشرةً من السبيل، فيوزّع عليهم من شباكٍ صغير في مبنى السبيل أوراقًا مختومة حتى يتأكد من عدم تكرار الصرف للشخص الواحد مرتين.

قبيل آذان المغرب ينتهي عمل البزايعة في الإشراف، لكنه يظل يقظًا متلفّتًا حوله لخدمة عابري السبيل ممن لم يحصلوا على وجبة بعد. وهو يعتبر تطوعه في السبيل عمل خير للمجتمع، ولا يتوقف عند رمضان، بل يواصل بعده أعمال خير أخرى منها حفر القبور المتوفين الذين لا تستطيع عائلاتهم توفير أجرة الحفر.

وبين الثالثة حتى السادسة والنصف مساء تعمل مجموعة من 4-6 متطوعين على سكب الطعام في أكياس نايلون وتجهيزها للموزعين في الأحياء، ثم يسكبون الطعام لطالبيه في السبيل، ثم للمسافرين والحجاج وطلبة الجامعة الجالسين في خيمة منصوبة بالقرب من باب السبيل. عبد الله صلاح (23 عامًا) أحد أفراد هذه المجموعة، وهو يأتي إلى السبيل بعد انتهاء دوامه في كلية معان الجامعة عند الثانية ظهرًا، وقد اعتاد التطوع في السبيل منذ 2012 عندما اصطحبه أخوه الذي يتطوع هو الآخر في السبيل منذ افتتاحه، ويقول عن عمله في السبيل أنه «عادة متوارثة».

يلاحظ أن العاملين في سكب الطعام يلبسون الفوتيك العسكري، وهو لباس العمل في المدينة عموما، «أحسن للشغل كلهم يلبسوا زي هيك، اللي بده يشتغل يلبس جيش، مريح بوخذ راحته فيه»، يقول أحد المتطوعين.

مع العاشرة ليلاً تنهي مجموعة تنظيف المعدات مهمتها وتعيد الأدوات إلى مكانها، ثم يمر الطبّاخ عطالله البزايعة على السبيل حيث تكون مجموعة التحضير قد نظّفت الدجاج، فيبدأ بتتبيله ولفّه بالقصدير، ثم يضعه في سدور كبيرة داخل الأفران لطبخها في اليوم التالي.

تعلم عطالله الطبخ من شقيقه الذي كان هو أيضًا طباخًا في السبيل لسنوات بعد تأسيسه، وترهقه أثناء العمل درجة حرارة الجو المرتفعة حيث يظل يراقب الأفران بين فترة وأخرى، وهو يصف تعاقب أبناء معان على التطوع في السبيل قائلا: «الصغار يستلموا محل اللي بروحوا».

متطوعون في السبيل.

سبيل جديد

في رمضان الحالي تأسس سبيل جديد في منطقة سطح معان، ويقول المشرف عليه ماهر القريشي إنه يعتبر مكمّلًا للسبيل الرئيسي عند مدخل المدينة، «معان كل مالها بزيادة، والفقر بازدياد». وكانت الإغلاقات التي فرضتها الحكومة بسبب جائحة كورونا قد رفعت عدد العائلات المعوزة في معان كما لاحظ عاملون في السبيل، ما دفع القريشي لافتتاح السبيل الجديد.

يقدم هذا السبيل 80-90 وجبة تقريبًا إلى العائلات في أحياء المدينة، كما يقدم الطعام لحوالي 30-50 شخصًا يأتون لمقر السبيل ليأكلوا فيه وقت الإفطار.

تحضير الطعام في السبيل تحت إشراف القريشي (الثاني من اليمين).

متبرعون ثابتون

يتقاضى غالبية المشتغلين من أهل معان رواتب شهريّة تتراوح بين 300-499 دينار شهريًا، وقد ارتفعت نسبة هذه الفئة من 66% إلى 74% بين الربعين الأول والأخير من العام الماضي. 13% فقط من المشتغلين في معان تتجاوز رواتبهم الشهريّة 500 دينار، وفقًا لآخر مسح حول العمل لدى دائرة الإحصاءات العامة لسنة 2021.

يَعتبر أحد وجهاء المدينة، عادل المحاميد، أن عمل المتطوعين في السبيل جزء من عمل كان يفترض بالحكومة أن تقوم به تجاه العائلات الفقيرة والمحتاجة في المدينة، أما إطعام المسافرين والحجاج فهذه عادة سيظل أهل معان يحافظون عليها كما جرت العادة، ويقومون بها عن طيب خاطرٍ، إضافة إلى أعمال تطوعية أخرى مثل «فزعة الشباب» حين يحصل حادث على الطريق الصحراوي وتحتاج المستشفيات متبرعين بالدم.

يقوم على تمويل السبيلين؛ القديم والجديد، متبرعون ثابتون كل عام، وهم يغطون تكلفة تجهيزات الطعام لنصف أيّام رمضان تقريبًا، فيما يتواصل القائمون على السبيلين مع تجار وفاعلي خير محتملين أو أصحاب شركات لتغطية النقص، كما تأتي بعض التبرعات من أشخاص يتكفلون بالتجهيزات ليوم واحد.

  • المراجع

    [1] محمد محمود السرياني، منازل الحج الشامي في الأردن، دراسة في الجغرافيا التاريخية، دارة الملك عبد العزيز، 2004، ص 153.
    [2] عبد القادر الحنبلي، الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة، ج2، دار اليمامة، الرياض، أعده للنشر حمد الجاسر، ص 1254.
    [3] المصدر السابق ص 1258.
    [4] الرحالة جورج فالين، صور من شمالي جزيرة العرب في منتصف القرن التاسع عشر، ترجمة سمير شبلي، ص 20.
    [5] محمد محمود السرياني، منازل الحج الشامي في الأردن، دراسة في الجغرافيا التاريخية، دارة الملك عبد العزيز، 2004.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية