سكان كهوف البترا: عندما يهمّش المخططون حاجات الناس

بين جبال البترا جنوب الأردن. تصوير علي السعدي.

سكان كهوف البترا: عندما يهمّش المخططون حاجات الناس

الثلاثاء 25 حزيران 2019

يجلس قاسم السماحين (53 سنة) على البسطة الحجرية المقابلة لتجمع الكهوف التي يسكنها مع زوجتيه وأبنائه، على سفح أحد الجبال المُطلّة على قلب المنطقة الأثرية في البترا. هيأ قاسم هذه الكهوف للسكن، فركب لها أبوابًا وأقفالًا، وصنع لها أرضيات من الإسمنت، وزودها بالأثاث والأجهزة الكهربائية التي تعمل على ألواح الطاقة الشمسية. في حين تأتي المياه من خط مياه مجاني، مدّته سلطة إقليم البترا التنموي السياحي إلى المكان قبل أكثر من 20 عامًا، لتستخدمه عشرات العائلات المقيمة في كهوف المنطقة، بعد أن كانوا معتمدين على عيون المياه في الجوار.

كانت أصوات صغار الماعز التي ترعى على مقربة منه، تختلط بهدير غسالة الملابس التي تقف أمامها زوجته أم فراس، تنقل الملابس من حوض إلى آخر، وهو يشير إلى الفضاء الشاسع المفتوح أمامه مؤكدًا إنه لا يفكر أبدًا في المغادرة إلى منازل الإسمنت. لقد حدث هذا من قبل، عندما غادر مراهقًا منتصف الثمانينيات، مع عائلته، ومئة عائلة أخرى من سكان الكهوف إلى تجمّع للوحدات السكنية بنتها الحكومة لهم على حد المحمية الأثرية. لكنه عندما قرر الزواج وتأسيس عائلته الخاصة، اختار مثل كثيرين غيره، أن يترك الوحدات التي اكتظت على مر السنوات بسكانها، واستُنفذت فيها كل إمكانيات التوسع، وعاد إلى ما يسميه سكان المنطقة «أرض أجدادنا».

ولد قاسم المتزوج من امرأتين، ولديه 11 ابنًا وابنة، في الكهوف التي ولد وعاش فيها من قبله أجداده من «البدول»، القبيلة الصغيرة، التي تقاسمت مع قبائل المنطقة تاريخيًا النفوذ على مساحات واسعة من جنوب المملكة. وكانت المنطقة الجبلية الوعرة جنوبي البترا، التي تقع فيها الآثار، هي «الواجهة العشائرية» التي تخصهم. الواجهات العشائرية هو مصطلح يطلق على أراض كانت في الماضي ضمن مناطق نفوذ القبائل، وهي حاليا بحكم القانون ملكية حكومية، لكن هذه القبائل ما زالت تطالب بما ترى أنه حقوق لها في هذه الأراضي.[1] لقد استوطن البدول تاريخيًا كهوف هذا الجزء من البترا، وعاشوا فيه شبه مترحلين، يربون الماشية، ويزرعون القمح والشعير، ويعملون في السياحة، التي كانت آنذاك، مورد رزق ناشئ، ساعد البدول الأوائل على اجتياز الأوقات الاقتصادية الصعبة التي كانوا يمرون بها. فقبل السياحة، كانوا مثل بقية قبائل المنطقة، يكسبون عيشهم من تقديم خدمات الحماية، والعمل أدلاء لقوافل الحجاج الذين يقطعون منطقة نفوذهم في طريقهم إلى الحجاز، إضافة إلى تربية الماشية. كما انخرطوا في أنشطة تجارية مع الأسواق الناشطة آنذاك في مصر وغزة وبئر السبع. لكنهم تعرّضوا، مع بقية القبائل، لضربة اقتصادية في القرن التاسع عشر، عندما أدى إنشاء خط سكة قطار الحجاز، وافتتاح قناة السويس، التي سمحت بتسيير رحلات بحرية إلى الحجاز، إلى الاستغناء عن خدماتهم للمسافرين. ثم أغلقت بعد قيام «إسرائيل» الطرق أمامهم إلى الأسواق المجاورة.[2] وكانت السياحة قد بدأت تنمو ببطء من العام 1812، وهي السنة التي زار فيها الرحالة السويسري يوهان بيركهارت البترا، وكشفها للعالم. فبدأ من وقتها توافد بعثات التنقيب والسياح، الذين كان البدول يعملون لديهم عمالًا وأدلاء، ويساعدونهم على التنقل بواسطة الرواحل، ويبيعونهم التذكارات، ويقدمون لهم خدمات الطعام والشراب والمبيت، متوارثين هذه المهن جيلًا بعد جيل.

قاسم السماحين أمام الكهف الذي يسكن فيه مع عائلته.

كان هذا هو نمط العيش الذي وعى قاسم على الدنيا ووجد عائلته والعشرات غيرها من عائلات القبيلة، تمارسه. لكنه ولد في زمن كانت قد بدأت تتعالى فيه أصوات دولية، تحذر من أن الأنشطة البشرية داخل الموقع الأثري الهش تدمره ببطء. في العام 1968، أعدت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) خطة [3] لتطوير الموقع الأثري، كان أحد توصياتها إعادة توطين أبناء القبيلة، التي قدرت عددهم بـ200 شخص، داخل المنطقة الأثرية. الوكالة التي وصفت الترحيل بأنه «أحد أكثر متطلبات تنفيذ الخطة إلحاحًا»، عللت ذلك بسببين، الأول أنهم «عالقون في دورة لا متناهية من الفقر»، والثاني، هو أنهم يقومون بأنشطة تؤذي المعالم الأثرية، والبيئة الطبيعية المحيطة بها؛ مثل الرعي والحراثة والزراعة وإطلاق النار، والتنقيب عن الآثار لبيعها للسياح. وبذلك فإن من المفترض أن يحقق نقلهم هدفين؛ تحسين ظروفهم المعيشية، وحماية آثار البترا. ونبهت الخطة آنذاك إلى ضرورة ألا ينفذ قرار الترحيل بـ«خفة»، فيكون مجرد إزاحة لمجموعة بشرية من مكان إلى آخر، من دون دراسة احتياجاتهم، وتوفير مصدر دخل بديل لهم. لهذا أوصت بأنه يمكن استلهام تجارب توطين سابقة لقبائل من الحويطات في الحسينية والجفر، تمّت في إطار مشاريع زراعية مدرّة للدخل.

لكن الترحيل المترافق مع مشاريع مدرّة للدخل، لم يكن الصيغة التي نُفذت فيها خطة إعادة توطين البدول،[4] الذين نقلوا إلى وحدات سكنية ضيقة، لا يمكنهم فيها تربية الحلال ولا الزراعة، فاضطروا لأن يكافحوا لسنوات طويلة خططًا حاولت إبعادهم عن الموقع الأثري الذي يعتاشون منه، من دون أن تضمن هذه الخطط لهم أي بدائل.

لقد تأخر كثيرًا تنفيذ هذه التوصية، كما يقول مدير محمية البترا الأثرية السابق، الدكتور سليمان الفرجات،[5] وذلك عندما شُرع ببناء قرية أم صيحون عام 1980، بتمويل من البنك الدولي والمجلس القومي للتخطيط. احتاج الأمر إلى سنوات من التفاوض مع السكان الذين كانوا، وفق الفرجات، متمسّكين بشدة، أولًا بالبقاء في مناطق واجهاتهم العشائرية، ولم يريدوا الخروج إلى أراضي قبائل أخرى، وأرادوا ثانيًا أن يكونوا قريبين من الموقع الأثري، الذي باتوا يعتمدون عليه مصدر دخل رئيسي، إضافة إلى تربية الحلال والزراعة. ورفضوا بالتالي المقترحات الحكومية بنقلهم إلى مناطق في وادي موسى، كانت تبعد عن الموقع الأثري ستة أو سبعة كيلومترات: «طلبوا سطوح النبي هارون أو التركمانية، لكن الحكومة رفضت، لأن التركمانية تقع وسط المنطقة الأثرية، وسطوح النبي هارون لا يمكنهم الوصول إليها إلا من خلال المنطقة الأثرية».

الموافقة على بقائهم في المناطق التي طلبوها، كما يقول الفرجات، الذي خدم في المحمية الأثرية 26 سنة، قبل أن يغادرها العام 2008، كان سيعني بقاء مشكلة الضغط السكاني على المعالم الأثرية الهشة التي تعاني أصلًا من الضغط الهائل للأعداد الكبيرة من السياح الذين يزورون المدينة يوميًا.

قاسم السماحين مع خيوله، وأطفال يتنقلون على ظهر حمار.

أم صيحون.. الحل الوسط

ثم توصلت الحكومة أخيرًا مع وجهاء البدول إلى حل وسط، بنيت القرية على أرض ملاصقة لحدود المحمية الأثرية الجنوبية. صحيح أنها جزء من الواجهة العشائرية لقبيلة أخرى هي اللياثنة، إلا أنها لا تبعد عن الموقع الأثري أكثر من دقائق سيرًا على الأقدام. كانت هذه قرية «أم صيحون»، التي بنيت على مساحة كيلومترين مربعين، على جرف محصور بين واديين عميقين.

افتتحت القرية العام 1985، وهو العام الذي أعلنت فيه اليونسكو البترا، جزءًا من التراث الإنساني العالمي. لتنضم إلى قائمة مواقع عددها الآن 1093 موقعًا في العالم يحمل هذه الصفة، التي تخول اليونسكو الإشراف على هذه الأماكن، وتقديم المساعدة الفنية لمساعدة الحكومات المحلية على اتخاذ تدابير حمايتها. في حالة البترا، فإن نقل سكان المحمية الأثرية إلى خارجها، كان على رأس هذه التدابير.

غادر قاسم مع والديه وأخوته إلى أم صيحون، ضمن 102 عائلة، استلمت وحداتها بين العامين 85 و87. رجال ونساء وأطفال يختبرون لأول مرة العيش في بيوت من الاسمنت، التي توفرت فيها الكهرباء والمياه، لكنها كانت، في المقابل، نقلة مفاجئة من الفضاء المفتوح على امتداده إلى تجمع للوحدات المكونة، وفق وثائق «إقليم البترا»، من غرفة ومطبخ وحمام، مساحتها 40 مترًا مربعًا، أقيمت كل منها على قطعة أرض تتراوح بين 380-450 مترًا مربعًا.

منظر عام لقرية أم صيحون التي أعيد توطين البدول فيها.

يقول الفرجات إن البدول رفضوا في البداية الانتقال، لأن مساحات الغرف كانت صغيرة جدًا، مقارنة بالمساحات التي كانوا يشغلونها في الكهوف، ولم يكن هناك مكان يتسع للحلال، ولم يكن هناك أيضًا مجال ليزرعوا الأراضي المحيطة بالقرية لأنها واجهات عشائرية لقبيلة أخرى. لكن النقل تم أخيرًا عندما تقرر منح العائلات التي يزيد عدد أفرادها على تسعة وحدتين سكنيتين. كما ووفق لهم، ضمن ترتيبات محددة، على الاحتفاظ بأراضيهم الزراعية ومحلاتهم التجارية داخل الموقع الأثري. وتقرر وقتها أن تضبط حركة الدخول إلى الموقع الأثري بتصاريح، وتحصر بمن لهم مصالح داخل الموقع الأثري، وأيضًا بمن تبقى من سكان في الكهوف، الذين كانوا وفق الفرجات، بضع عائلات، كان من المقرر أن تلحق بجيرانها عندما تبنى لها وحدات إضافية. ليكتمل بذلك المشروع الطموح بإفراغ الموقع الأثري من سكانه. وتمّ بالفعل بداية التسعينيات توزيع 12 قطعة أرض، كي تبني عليها هذه العائلات منازل، في ما كان من المفترض أن يكون المرحلة الثالثة في مشروع إسكان أم صيحون. لكن هذه المرحلة تعثّرت، وفق الفرجات. فلم تُبن وحدات سكنية للعائلات الباقية التي ظلت في الموقع الأثري وتكاثرت. ثم أضيف إليها عائلات وأفراد، بدأوا هجرة عكسية من أم صيحون إلى الكهوف.

وتفسير ذلك أن القرية التي لم تزد مساحتها عن كيلومترين مربعين، حكمت توسعها العمودي والأفقي كودات بناء صارمة، سببها خليط من تعقيدات حسابات الواجهات العشائرية لقبائل المنطقة، وحساسية وقوعها على حد المحمية الأثرية. وهي كودات لم يلتزم بها السكان في الغالب. يذكر تقرير أصدرته وزارة الشؤون البلدية والقروية والبيئة العام 1994، لتقييم الوضع في أم صيحون، أن السكان بعد استلامهم الوحدات «لم يلتزموا بالأحكام التنظيمية المقررة (…) وبدأوا بالنمو والتوسع العشوائي، لمبانيهم السكنية والتجارية، بطريقة سريعة وعشوائية». وهو أمر، قال التقرير إنه يشكل «خطورة إنشائية تهدد سلامة المبنى من جراء بناء طوابق علوية على الوحدات السكنية التي تم تصميمها وإنشاؤها لطابق واحد فقط».

مناظر من قرية أم صيحون.

بدأ التوسع العمراني استجابة لنمو السكان، الذين ارتفع عددهم من 824 في العام 1990 إلى 1352 العام 2004، ليصل 3923 العام 2018.[6] وفي خضم التجاذب بين تجمع سكاني كان تحت ضغط الحاجة المتزايدة إلى مساحات إضافية من أجل مواليده الجدد، وأبنائه الذين كبروا وصار عليهم تأسيس عائلاتهم الخاصة، من ناحية، والسلطات التي تقع عليها مهمة حماية البيئة الطبيعية في النطاق العازل الذي تقع القرية بالضبط على حدّه، بدأ السكان بهدم وحداتهم السكنية المصممة لطابق واحد، وبناء منازل بطوابق متعددة. وقد فعلوا ذلك على نفقتهم الخاصة، مستفيدين من نمو دخلهم من العمل في السياحة.[7] وفي الأثناء، كانت كودات البناء، خلال المجالس المتعددة لـ«إقليم البترا»، تتغير استجابة لهذا الضغط. وفق وثائق زودت سلطة إقليم البترا حبر بها، فقد سمح ببناء طابق ثانٍ، ثم بطابق ثالث، قبل أن تعود السلطة فتلغي، بتوصية من خبراء، منح رخص لطابق ثالث، إلى أن اوقفت أخيرًا في نيسان 2014، كل أشكال التوسع الأفقي والعمودي. لكن المفوضية، في رد مكتوب على أسئلة حبر، أقرت ببقاء المخالفات في أم صيحون، فذكرت أن «هناك اعتداءات على المرافق العامة، من شوارع وطرق وساحات عامة، سواء بالأبنية أو الأسوار أو الجدران».

خلال كل هذه السنوات، كانت عائلة قاسم، قد فعلت ما فعلته بقية العائلات في أم صيحون، بنت طوابق إضافية، يقول قاسم إنه يتوزع شققها الآن أبناؤه المتزوجون، وبعض أشقائه وأبنائهم. وهو ما حدث مع آخرين غيره، والآن، بعد 34 سنة من مشروع الترحيل، هناك كما يقول المسؤولون تجمعان سكانيان مفتوحان على بعضهما وعلى البترا. وما تزال كهوف الموقع الأثري مأهولة بعشرات العائلات. ووفق مسؤول عن المراقبة داخل الموقع الأثري، طلب عدم الكشف عن هويته، فإن هناك تجمعين رئيسيين للعائلات في سطوح النبي هارون، والبطحاء، يقدر المسؤول عددها بـ42 عائلة في المنطقتين.

أحد الكهوف التي جُهزت للسكن قرب أم صيحون.

«هذي بلادنا»

رغم أن قانون الآثار يحصر ملكية المواقع الأثرية بالدولة إلا أن سكان المكان لديهم وجهة نظر مغايرة تمامًا. إذ يتعاملون معه بإحساس عالٍ من الاستحقاق. تقول الستينية حِسِن علي البدول «كنا من أول ساكنين هني، وكنا نزرع قمح وشعير (…) هذي بلادنا. هذي أرضنا. كل هذي أراضي البدول. ما بنقدر نطلع منها، ولا بنقدر نعطيها. من جبل النبي لوادي صبرة، كل الأراضي هذي كلها ملكنا».

تقيم حِسِن في تجمع للكهوف على سطوح النبي هارون، مع ابنها وزوجته وأطفالهما الخمسة. عندما التقيناها، كانت توقد النار تجهيزًا لخبز الشراك، فالناس هنا، رغم امتلاكهم مواقد تعمل على الغاز، إلا أنهم يعتمدون بشكل كبير على النار للطبخ والخبيز. ومثل كثيرين من سكان المنطقة، ركّبت عائلة حِسِن ألواح طاقة شمسية، تقول إنهم اشتروها بالتقسيط. في حين يتعاون أفراد العائلة، بمن فيهم الأطفال على جلب المياه يوميًا من «ماسورة السلطة»، فيحملونها في جراكن بلاستيك على الحمير. الابن الذي تقيم معه حِسِن هو واحد من عشرة أنجبتهم من زوجها الراحل، الذي أنجب من زوجتين أخريين 12 ابنًا آخرين. في منتصف الثمانينيات، انتقلت حِسِن مع زوجها والعائلة إلى إسكان أم صيحون. صمدت فيه سنتين، ثم عادت بأبنائها إلى الكهوف، ثم لحقتها الزوجة الثانية، وحاليا تقيم في منزل أم صيحون الزوجة الثالثة فقط مع أبنائها. لقد واجهوا، كما تقول حِسِن، صعوبة كبيرة في التأقلم مع ضيق المساحة، وفي الحفاظ على نمط عيش العائلة المعتمد على تربية الحلال والزراعة «يعني الواحد كان وده ينخنق يموت. إحنا مش تبعين نقعد في البيوت. نحب نروح على الحلال، ونروح نشتغل، ونمشي ونسكن في البر. أحلى من عيشتنا في الإسكان».

حِسِن تجمع الحطب لخبز الشراك برفقة حفيداتها. والحفيدة غزل (4 سنوات) تساعد في نقل المياه على ظهر حمار.

هذا الانتماء للمكان، يترجم على الأرض في صيغة أعراف داخلية تنظم سكنى الكهوف، التي يشرح دخل الله البدول (42 سنة)، أن أبرزها هو أن حق السكنى داخل الموقع الأثري محصور بعشائر البدول ولا يسمح لغيرهم إلّا في حالات استثنائية، كما يقول. منها مثلًا ما يحدث في حالات قليلة أن يطلب راعي حلال الإذن بالسماح له أن يقضي شهور الشتاء في الكهوف كي يخزن فيها أغنامه. حيث تتوفر كهوف ضخمة يمكن للواحد فيها أن يسع 200 رأس غنم. ما عدا ذلك فهذه المنطقة هي أرض البدول. وليس هناك، بحسبه، نزاعات بين أبناء القبيلة، لأن الكهوف أصلًا مقارنة بأعداد الناس كثيرة جدًا. وهناك دائما متسع لأفراد جدد لأن يأتوا ويستصلحوا كهفا ويسكنوه، إمّا بشكل دائم، أو لقضاء فترة محددة. يقول دخل الله إنه لا يوجد، بالطبع، «سندات طابو» بالكهوف، لكن من المتعارف عليه أن الشخص الذي يرث مغارة، أو «هرابة» كما تسمى في المنطقة، أو يضع يده عليها، يظل محتفظًا بحقه فيها، حتى لو غادرها. إلّا إذا نزع التجهيزات منها، وتركها مشرعة. حينها ستكون رسالة للجميع أنه لم يعد يريدها، وتصبح بذلك متاحة أمام الآخرين. أمّا «إذا كان كهف مسكر، وعليه المفتاح، ما حدا ييجيه، حتى الدولة ما تيجيه».

ويقول إن ما سبق يشمل بالطبع سكان أم صيحون، الذين يشكلون مع سكان الموقع الأثري عمليًا مجتمعًا واحدًا. وليس ذلك فقط لأنهم ينحدرون من القبيلة ذاتها. بل لأن التجمعين متداخلان بشدة، وكثير من الأسر الصغيرة منقسمة بين أم صيحون والكهوف، بالتحديد الشباب «في شباب عندهم مُغُر، يكون أهله أخذوا وحدات، بس عامل مغارة زينا. نوب [مرة] ببيت فيها ونوب بروح على الدار».

لا يملك دخل الله وحدة سكنية، وهو على عكس قاسم وحِسِن لم يجرب قط سكنى البيوت «أنا كل سكنتي هون بالبر. انولدت هون وبعدني عايش هون. ما تحضّرت». وهو يعيش مع زوجته و11 ابنًا وابنة أعمارهم بين 21 سنة وثلاثة أشهر في «منزل» مكون من ست كهوف، هي في الأصل مغارة واحدة شاسعة، قسمت، وبنيت لها واجهة زودت بأبواب.

يملك دخل الله استراحة يبيع فيها المرطبات والشوكولاتة وبعض التذكارات. وإضافة إلى ذلك يؤجر واحدًا من كهوفه للسياح الراغبين في خوض تجربة المبيت في كهف. وهو كهف جهّزه بسجاد وفراش، ودهن جدرانه، التي علّق عليها بساطًا من صوف الغنم صنعته زوجة أبيه، وربابة صنعها بنفسه، وصورة كبيرة لوالده الراحل.

دخل الله البدول في الاستراحة التي يعمل فيها، ومع ابنه في الكهف الذي يؤجره للسياح. وبيت شعر منصوب في الساحة المقابلة لكهوف دخل الله.

بنى دخل الله إلى جانب الكهف، الذي يستخدمه مضافة، عندما لا يكون هناك سياح، حمامًا إفرنجيًا مزودًا بمغسلة وحنفيات، تأتيها المياه من خزان فوق الحمام، تملأه العائلة من خط المياه القريب جدًا من منزله. وهو نوع من التجهيزات، لا يتوفر في الغالبية العظمى من الكهوف التي تفتقر أساسًا إلى حمامات.

ليس لدخل الله مصادر دخل أخرى باستثناء الدخل المتأتي من الاستراحة ومن تأجير الكهف. ويقول إن هذا حال الأغلبية الساحقة من أبناء القبيلة، الذين أصبحت السياحة العمود الفقري لرزقهم «لو توقف السياحة، والله ما واحد يقدر على باكيت دخان أو كاسة شاي».

من المدرسة إلى الحمار «التاكسي»

يلاحظ من يزور الموقع الأثري أن العمل في الموقع «عائلي»، رجال ونساء وأطفال، شباب ومراهقين وكهول. الجميع يعملون أدلاء سياحيين وفي بيع التذكارات، ومصاحبة السياح على الحمير والبغال. المردود المالي المجزي والفوري مغرٍ بشكل خاص للأطفال. قال لنا محمد ابن دخل الله، وهو تلميذ في الصف الثالث إنه يريد أن يترك المدرسة ليعمل مع السياح. وإنه يخطط لشراء لحمار، وسينادي السياح بقوله «Taxi here». وعندما سألته «Do you speak English» أجاب ضاحكًا «only little English». تعلق أمه بأنه لو كان الأمر بيده لترك المدرسة بالفعل ونزل للعمل في السياحة، مثل مئات الأطفال غيره العاملين حاليا في الموقع الأثري، من الذين يعملون في بيع التذكارات، أو على الحمير.

لكن محمد يذهب فعلًا إلى الموقع في نهايات الأسبوع، ويختلط بالسياح. هكذا التقط الإنجليزية القليلة التي يعرفها، وإذا كان مصيره مثل مصير الآلاف من أبناء المنطقة، الذين تسرّبوا من المدارس في سن الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة، فإنه سيكبر في الغالب مثلهم يتحدث، ليس فقط الإنجليزية، بل والفرنسية والإيطالية والإسبانية وغيرها من لغات، يتحدثها الشباب بطلاقة، لكن من دون أي معرفة بالقراءة والكتابة فيها، كما أخبرونا.

في أم صيحون ثلاثة مدارس؛ ابتدائية مختلطة، وأخرى للمرحلتين الأساسية والثانوية للإناث، ومدرسة ثالثة للذكور، تتبع مديرية الثقافة العسكرية. تشير تربوية متقاعدة، عملت 18 سنة في مدارس القرية، وطلبت عدم ذكر اسمها، إلى أن التحدي الأكبر في هذه المدارس هو تسرب تلاميذها إلى سوق العمل في السياحة. تسرب تقول إنه يبدأ في الصفوف الابتدائية الدنيا، حيث يخرج الأطفال، بصحبة ذويهم أو وحدهم، إلى الموقع الأثري، يبيعون للسياح الاكسسوارات، أو قطع الحجارة الملونة التي يجلبونها من جبال المنطقة. ويجني هؤﻻء مبالغ كبيرة، مستفيدين، كما تقول، من تعاطف السياح «كان في طالبة تقوللي اليومية اللي بجيبها قد راتب المعلمة».

لكن جاذبية السياحة ليست العامل الوحيد الذي يدفع الأطفال إلى خارج المدرسة. هناك، كما تؤكد هذه التربوية، مشكلة المعلمين والمعلمات الذين يعينون في مدارس القرية من دون أي خبرة، ولا استيعاب لخصوصية البيئة التي قدم منها التلاميذ، ما يولّد في أحيان كثيرة احتكاكات بين الطرفين. يبقى هؤﻻء فترات قصيرة ثم ينتقلون ليأتي غيرهم.

بالنسبة للعائلات التي تسكن الكهوف، فإنه حتى لو أرادت لأطفالها إكمال تعليمهم، فإن ارتياد المدرسة في أم صيحون، ليس أمرًا يسيرًا، كما يقول دخل الله، إذ يقطع هؤﻻء الأطفال على أقدامهم كل يوم ما يزيد على أربعة كيلومترات للوصول إلى المدرسة في قرية أم صيحون. لهذا يقول إن أبناءه الذكور فقط يذهبون إلى المدرسة، أما البنات «أكثر وحدة درست للثالث. المسافة بعيدة، وبنت وِدَّكْ تِرخيها لحالها صعب. فضّلت أترِّكهن من المدرسة».

لقد كانت هذه شكوى جميع من قابلناهم، الذين قالوا إن أطفالهم يكونون محظوظين أحيانًا، فتقف لهم السيارات التي يصدف مرورها وتحملهم. يساعد على ذلك أن الجميع أقارب ويعرفون بعضهم البعض. لكن ما يحدث في العادة هو أنهم يقطعون على أقدامهم الرحلة التي تستغرق، كما أخبرنا مجموعة من التلاميذ الذين قابلناهم أثناء عودتهم من المدرسة، أكثر من ساعة. اثنان من هؤلاء الأطفال كانا على ظهر حمار؛ قاسم وعبد الله إبراهيم، وكلاهما في الصف الخامس، كانا يعلقان حقيبتيهما على جانبي الحمار. قال قاسم إنهم يخرجان صباحًا من كهف العائلة على الحمار، وعندما يصلان إلى أم صيحون، يربطانه عند منزل جده الساكن هناك، ثم يعودان إليه بعد انتهاء الدوام.

الحمار سيكون أيضًا الوسيلة التي تقول حِسِن إنها ستلجأ إليها العام الدراسي القادم، عندما تلتحق حفيدتاها بالمدرسة. إذ تخطط لإيصال الطفلتين وإعادتهما على الحمار بنفسها. لأنها لن تطيق أن تراهما تقاسيان مثل بقية الأطفال الذين «بيجونا من الإسكان مقتّلهم الظما، ووجوهم سود سود». هذا رغم سنوات، تقول حِسِن من مطالبات الأهالي لسلطة الإقليم تخصيص باص لتلاميذ العائلات الساكنة في الكهوف.

يؤكد المدير السابق لـ«إقليم البترا»، الدكتور محمد النوافلة، الذي استلم الإدارة العام 2013 وغادرها نهاية العام 2017، أن السلطة استلمت بالفعل طلبات لتسيير باص لهؤلاء التلاميذ، لكنها رفضتها، لأن القبول يعني ببساطة «شرعنة المخالفات»، الذي يقول أن مدّ خط مياه إلى سكان الموقع الأثري، يقع في الإطار ذاته.

قاسم وإبراهيم عبد الله في طريق إلى المدرسة في أم صيحون على ظهر حمار، وطفلان آخران يعودان من المدرسة إلى سطوح النبي هارون.

الكهوف الأثرية مستودعات للدوابّ

يقول النوافلة إن كمّ المخالفات المرتكبة داخل المحمية الأثرية، تجعل الوضع، «قنبلة موقوتة، إذا لم توضع لها الحلول فإنها ستنفجر وتدمر كل شي. ستدمر حتى الموقع الأثري». وهي تتسع لتشمل إضافة إلى السكن داخل الموقع الأثري، استخدام الكهوف مستودعات، وحظائر لمبيت الحيوانات. وهناك أيضًا الحمير والبغال المقدر عددها بـ400 حيوان داخل الموقع الأثري، والتي تدك بحوافرها أدراج الدير والمذبح مسببة تآكلها. علمًا بأنها تعمل جميعها بشكل غير قانوني، لأن الترخيص داخل الموقع، وفق النوافلة، هو فقط للخيول والجمال.

يضيف النوافلة إلى ذلك المحلات التجارية داخل الموقع التي يقول إنها أيضًا غير مرخصة قانونيًا، إذ لا يجوز أن يوجد هذا النوع من المنشآت داخل المواقع الأثرية. لكن مجالس سابقة، في محاولة منها لضبط النشاط التجاري داخل الموقع، حصرت المحلات التجارية بـ18 محلًا، ووزعت أسهم كل منها على مجموعة من الأشخاص. لكن أحدًا لم يلتزم، فإضافة إلى تزايد أعداد المحلات التجارية والاستراحات، والباعة المتجولين، فإن المحلات المسموح لها بالعمل توسعت إلى مساحات إضافية، أو بدأت ببيع ما لا يجوز لها بيعه.

وهناك أيضًا، بحسبه، مخالفات استضافة السياح للمبيت داخل الموقع. وهو نشاط تمارسه بشكل أساسي تجمعات كبيرة من الشباب الذين ينشرون إعلانات التأجير على مواقع الحجز العالمية. وما سبق من مخالفات، ليست محصورة، بحسب النوافلة على ساكني الموقع الأثري، بل ينضم إليهم سكان أم صيحون، الذين يتوافدون يوميًا للعمل في الموقع الأثري، الذي لا يبعد عن قريتهم أكثر من خمس دقائق سيرًا على الأقدام.

لقد كانت الخطة عندما رُحّل السكان إلى أم صيحون، أن تضبط حركة الدخول والخروج بتصاريح. لكن مسؤول المراقبة سابق الذكر، يقول إنه لا يمكن عمليًا ضبط حركة الدخول إلى المحمية التي تبلغ مساحتها تقريبًا 260 كم، خصوصًا أن عدد المراقبين في المناوبة الواحدة لا يزيد عن 22، ولا يمكنهم مراقبة كل المنافذ «الواجهة من جهة أم صيحون شبه مفتوحة. ما في حاجز ولا سيطرة».

وبالنسبة لمخالفات الحيوانات، والمحلات التجارية، يقول المراقب إن المشكلة هي أنهم حتى بعد إجراء الضبوطات اللازمة، فإنه لا إجراءات تتخذ بعد ذلك. الأمر الذي يفسره النوافلة بأنه ناجم، في جزء منه، عن ضآلة الغرامة على كثير من المخالفات. لكن العامل الأساسي، بحسبه، هو وعي «إقليم البترا» ضرورة اتباع سياسة «غير صدامية»، مع واقع هو في النهاية نتاج تراكم سنوات طويلة من الاختلالات، والتطبيق الحرفي للقانون، لن يكون حكيمًا، لأنه سيقود إلى صدامات مع المجتمع المحلي. يوافق على ذلك المدير الحالي لـ«إقليم البترا»، الدكتور سليمان علي الفرجات، الذي يشبه وضع المخالفات القائم في البترا بسيارة تسير على سرعة 200 في الساعة، وإيقافها لا يجوز إلا بالتدريج، وإلا كانت النتيجة مدمرة. «التغيير الناعم» يقول سليمان هي سياسة «الإقليم» في حل المشكلة التي لا تقتصر على سكنى الكهوف، بل هي أيضًا في قرية أم صيحون التي حُصر سكانها في بقعة ضيقة، جعلت من قريتهم واحدة من أكثر التجمعات كثافة سكانية في الأردن. وهي علاوة على ذلك، تقع في في بقعة بالغة الحساسية على حد المنطقة العازلة للمحمية الأثرية. لذلك فإن أي خطط لنقل سكان الكهوف ستركز على الأجيال الجديدة.

لا تملك المفوضية، بحسب رئيس «الإقليم» بدائل محددة في الوقت الحالي، لكن الخطوط العريضة لأي بدائل ستوضع على الطاولة يجب أن تتضمن أمرين: توفير فرص مدرة للدخل، وتوفير نمط من السكن، يناسب نمط حياتهم، فيوفر مساحات تسمح لهم بالاحتفاظ بمواشيهم.

يشترك نوافلة والرئيس الحالي للإقليم في تأكيد أن الخطط المستقبلية يجب أن ترتكز على التسليم بأن لا مهنة أخرى يمكن أن تنافس في مردودها الاقتصادي مهنة السياحة، لهذا فإن الحلول المستقبلية يمكن أن ترتكز على بقائهم في العمل السياحي. التحدي، كما يقول الرئيس هو أن «المنتج السياحي هو فقط داخل الموقع، وبالتالي الذي يريد العمل بالسياحة لازم يروح على الموقع. إحنا بدنا نشتغل على سياحة خارج الموقع. يكون في خبرات للسائح وتجارب خارج الموقع». هذا سيشجع بحسبه الناس على الاستمرار في العمل في السياحة، ويضمن في الوقت نفسه، بقاءهم بعيدين عن المنطقة الأثرية. ويقترح نوافله، في هذا السياق، مشاريع حرفية، توظف الأيدي العاملة المحلية لإنتاج مشغولات يدوية بمواصفات عالمية، خصوصًا وأن معظم ما تبيعه محلات بيع التذكارات مصنوع في الصين.

يقول رئيس «الإقليم» إن المفوضية تعمل حاليًا على دراسة الواقع في المنطقة، كي تستطيع بناء خطط تتناسب واحتياجات كل الفئات المختلفة في مجتمع البدول، الذي يقول إنهم ليسوا أبدًا «المشكلة بل الضحية»، ضحية فشل تخطيط لم يكن بعيد المدى، ولم يراع احتياجاتهم. وهذا ما يقول إن الخطط الحالية تحاول تلافيه.

  • الهوامش

    [1] Tourism and Archaeological Management at Petra, Driver to Development or Destruction?, The B‘doul and Umm Sayhoun: Culture, Geography,

    and Tourism, chapter 7, Suleiman Farajmat. 2012.

    [2] Draft Management Plan for Petra Archaeological and Natural Park. UNESCO, 1993.

    [3] Master Plan of the Protection & use of the Petra National Park, USAID, 1968.

    [4] Draft Management Plan for Petra Archaeological and Natural Park. UNESCO, 1993.

    [5] هناك مصدر آخر في التقرير، أيضا باسم الدكتور سليمان الفرجات، هو رئيس سلطة إقليم البترا. منعًا للبس، سيشار إليه باسمه الثلاثي «سليمان علي الفرجات».

    [6] الأرقام من دائرة الإحصاءات العامة.

    [7] Tourism and Archaeological Management at Petra, Driver to Development or Destruction?, The B‘doul and Umm Sayhoun: Culture, Geography, and Tourism, chapter 4, Christopher C. Angel, 2012.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية