يوميات طبيب أردني في العناية الحثيثة في مدينة نيويورك

طبيب في وحدة العناية الحثيثة لمرضى كوفيد-19 في مستشفى في مدينة بنما، خلال شهر أيار 2020. تصوير لويس أكوستا. أ ف ب

يوميات طبيب أردني في العناية الحثيثة في مدينة نيويورك

الثلاثاء 12 أيار 2020

في نهاية آذار الماضي، أطلق حاكم ولاية نيويورك أندرو كوومو نداءً إلى الأطباء في مختلف الولايات الأمريكية: «أرجوكم تعالوا وساعدونا في نيويورك الآن». كانت نيويورك قد تحوّلت إلى البؤرة العالمية الجديدة لجائحة فيروس كورونا المستجد، بعد إيطاليا، إذ سجّلت فيها حتى اليوم 335 ألف حالة، وأكثر من 21 ألف حالة وفاة.

محمد دلابيح طبيب أردني، تخرّج من الجامعة الأردنية عام 2007 ثم حصل على الاختصاص في الطب الباطني وزمالة طب الرئتين والعناية الحثيثة من جامعة أريزونا، ويعمل حاليًا في مستشفى ناشيونال جوِيش هيلث في مدينة دنفر، عاصمة ولاية كولورادو. عندما قرر المستشفى الذي يعمل فيه الاستجابة لنداء حاكم نيويورك بإرسال طبيبين كل أسبوع، سارع دلابيح بالتطوع. «هذا أكبر تحدٍ للعناية الحثيثة في حياتنا»، يقول دلابيح.

يشاركنا دلابيح هنا جانبًا من يوميّاته أثناء عمله في مستشفى ماونت سيناي في مدينة نيويورك لمدّة أسبوع، كان يدوّنها صوتيًا مساء كل يوم بعد انتهائه من عمله. 

الثلاثاء 7 نيسان 2020

هبطت بنا الطائرة، أنا وزميلي جوشوا جمال سولومان من مستشفى ناشيونال جويش هيلث، بعد الساعة الواحدة بقليل، وأخذنا سيارة أجرة إلى مانهاتن. 

كانت الشوارع خالية تمامًا، لدرجة أني لم أشعر أنني في مدينة نيويورك. ذهبنا إلى الفندق لنترك حقائبنا هناك، ووجدنا أن زميلينا اللذين كانا هناك قبلنا تركا لنا كيسًا من عدّة الوقاية الخاصة PPE، ونحن أحضرنا معنا كمية كذلك، بالتالي لدينا ما يكفي ويزيد.

شوارع نيويورك الخالية، تصوير الطبيب محمد دلابيح

في اللحظة التي وطئنا فيها المستشفى كنّا في عالم مختلف تمامًا. في الخارج هناك هدوء غريب، أمّا داخل المستشفى فالوضع «معجوق» جدًا. المستشفيات عادةً بيئات تتبع نظامًا صارمًا، بمعنى أن كل شيء في مكان محدد، لكل قسم وظيفة محددة وكل شخص في القسم لديه مهمّات محددة. لذلك عندما ترى الوضع الآن، تدرك كم هو غير اعتيادي. هناك أجهزة تنفس في كل مكان، غالبية الكوادر ترتدي لباس وقاية طوال الوقت، وكلّ من تحدّثنا معهم من الكادر الطبي يعالجون حالات التهاب تنفسيّ سيئة، حتى الجرّاحين. بدا قسم العناية الحثيثة معجوقًا لكن ليس في حالة فوضى. الجميع كانوا هادئين، لم أشهد حالة من الهلع أو أي شيء جنونيّ، لم أشعر أنني في ساحة حرب. فقط ضغط عمل كبير، لكنّه تحت السيطرة. هذه هي المشكلة، لا أعلم كم يمكنك أن تعمل تحت مثل هذا الضغط لفترة متواصلة.

الأربعاء 8 نيسان 2020

أموري جيدة. لا أشعر بألم في الحلق أو قصور في التنفس أو آلام في العضلات أو أي شيء من هذا القبيل. كان هذا يومي الأول في العناية الحثيثة. جميع الحالات هم مرضى كوفيد-19. رأيت مريضًا واحدًا لم يكن هناك بسبب التهاب رئوي ناتج عن كوفيد-19 لكنّه كان مصابًا بفيروس كورونا فوق كل ما كان يعاني منه. أصعب ما في الأمر هو كمية المعلومات التي لا نمتلكها. إنه مرض فريد من نوعه إلى حد ما، ولأنه حديث جدًا ولا توجد تجارب سريرية كبيرة حقيقية للأدوية أو الإجراءات، الكثير مما نقوم به، لسنا متأكدين تمامًا إذا ما كان يعمل أم لا. 

الجزء الآخر الصعب حقًا هو عدم رؤية أي من عائلات المرضى في وحدة العناية الحثيثة أو في أي مكان في المستشفى. عندما يوضع مريض على جهاز التنفس الصناعي، فأنت تعتمد على العائلة لإعطائك فكرة عمّن هو هذا الشخص، حتى يصبح شخصًا بالنسبة لك، من خلال تفاعلك مع عائلته. لأنه عدا عن ذلك، فإن المريض في غيبوبة مستحثة طبيًا معظم الوقت على جهاز التنفس الاصطناعي. وبسبب ضغط العمل العالي، فإنك تفوّض التواصل مع العائلات لأشخاص آخرين. وهذا مفيد حقًا من ناحية، لأن العائلات يمكنها أن تسمع من شخص في المستشفى ما يحدث مع المرضى، ولكن من ناحية أخرى يكون الأمر صعبًا عليك لأن هذا المنظور غائب عنك.

لا شك أنني أرى مرضى في سن الشباب. كان لدي مريض اليوم، ليس على جهاز تنفس اصطناعي لكنّه في وضع سيء ويحتاج كمية كبيرة من الأكسجين. عمره 37 عامًا، صحته جيدة، لا يوجد لديه حالات طبية، لا يعاني من السمنة، ليس مدخنًا، ليس مريضًا بالسكري أو الضغط أو أي شيء من هذا القبيل.

المثير للاهتمام هو أن أصعب الحالات التي رأيتها هي لمرضى السكري ومن لديهم استعداد للسكري (Pre-diabetic)، وهم عالقون في نفس الحالة على جهاز التنفس الاصطناعي، بنفس متطلبات الأكسجين ومتطلبات الضغط، دون وجود ما يشير إلى أنهم يتجهون نحو التحسن. وهذا محبط للغاية. 

غادرت المستشفى في السابعة مساءً، واحتجت بضع ثوانٍ لإدراك ما يحدث. كان هناك صوت صافرات مفاجئ ومن ثم صراخ وتصفيق وقرع على الطناجر على ما أعتقد. كانت هذه تحية أهل المدينة للكوادر الطبية، التي يقومون بها كل مساء في تمام الساعة السابعة. كان المشهد مؤثرًا للغاية، ولبرهة اغرورقت عيناي بالدموع. أشعر بأنني أقوم بعمل جيد، بأننا نساعد وأن هناك حاجة لنا. وأقول لنفسي أنني في أسوأ الحالات، أقدّم دعمًا لأطباء وعاملي العناية الحثيثة، وهم يرون أنهم ليسوا وحدهم في هذه الأزمة وأن هناك من يمكن أن يحمل عنهم جزءًا بسيطًا من حملهم.

الخميس 9 نيسان 2020

كان اليوم كثيفًا جدًا، ومحبطًا جدًا. بالإضافة لكل ما لاحظته من قبل -حول سوء حالة المرضى وبطء تحسّنهم وكم منهم لا يتحسّنون- ما أحبطتني بشكل خاص اليوم هو صعوبة تحسين مستوى الأكسجين لديهم. جرّبت كل الحيل الموجودة لدي والتي دائمًا ما تنجح في حالات مشابهة، لكنها لم تُجدِ نفعًا هنا. مهما تفعل لتحسين مستوى الأكسجين، في مرحلة ما يتوقف المريض عن الاستجابة. الرئتان متيبّستان بشكل كبير، ومن الصعب جدًا ضخ الهواء فيهما. ليس في حالة واحدة أو حالتين، بل عند كل مرضى العناية الحثيثة. تسير في الطابق وتشعر بأنك تحارب غريزتك الطبية. تلك الغريزة التي شحذتها وطوّرتها عبر سنوات حتى تعرف من سيصبح أسوأ ومن سيتحسن، فجأة لا تعمل ولا تعطيك أي معلومات. وهذا صعب للغاية. 

تلك الغريزة التي شحذتها وطوّرتها عبر سنوات حتى تعرف من سيصبح أسوأ ومن سيتحسن، فجأة لا تعمل ولا تعطيك أي معلومات. وهذا صعب للغاية. 

كان لدي مريض اليوم، عندما سألته كيف يشعر، نظر إليّ نظرة ساخرة وبسلوك نيويوركي نموذجي قال لي: «ما رأيك أنت يا دكتور؟ كيف تعتقد أنني أشعر؟»، دفعني إلى الضحك، وفلتت منه هو قهقهة صغيرة. بعد ذلك بفترة قليلة كنت في مكان آخر وسمعت نداء استجابة سريعة فذهبت لأرى ما الذي يحدث، وأثناء سيري رأيت ذلك المريض مع مقيم السنة الأولى الذي أُشرف عليه، يقوم بعملية تنفس اصطناعي يدوي للمريض باستخدام بالون «أمبو» عبر أنبوب تنفس في حلقه. لم أصدّق عيناي. متى حصل هذا؟ تبيّن أن كل هذا حدث في غضون 15 دقيقة. تدهور وضعه بتلك السرعة، وجاء فريق التخدير ووضعوا أنبوب التنفس في حنجرته وغادروا ليهتموا بالمريض الذي يليه، وبقي المقيم لوحده في الغرفة يقوم بعملية ضخ الأكسجين. إنه مقيم خارق، وقفت أنظر إليه وأتذكر نفسي عندما كنت مكانه مقيمًا في السنة الأولى. لو كنت وحدي مع مريض أقوم بهذه العملية كانت ستصيبني نوبة ذعر. الموضوع أكبر منك كثيرًا. طبعًا دخلت واعتنيت بالمريض ونسيت فضولي حول ما كان يحدث في الغرفة المجاورة لأن لا وقت للفضول.

بعدها عدت إلى العناية الحثيثة لاستقبال مريضة جديدة، امرأة في أواخر الأربعينات من العمر، تعمل في مركز لعلاج مرضى السرطان. هذه أول حالة أتعامل معها لمريض مصاب بفيروس كورونا يعمل في القطاع الطبي. شعرت بأن الأمر يمسّني شخصيًا. لست ساذجًا، أعلم أن الكوادر الطبية تصاب بالعدوى وبأننا مجموعة أكثر عرضة للخطورة، لكن رؤية مريضة تعمل في مستشفى، وغالب الظن أنها التقطت العدوى من عملها فيه، موضوعة على جهاز تنفس، على أكسجين 100 بالمئة، على ضغط عالٍ، وبدرجة إشباع أكسجين متدنية جدًا، وأنت تحاول لفترة طويلة أن تحسّن وضعها لكنّك لا تحقق أي نتيجة مهما فعلت. كان هذا صعبًا بشكل خاص. 

غادرت المستشفى بعد 13 أو 14 ساعة. لم أفعل شيئًا اليوم باستثناء الجري من مكان لآخر وإطفاء الحرائق.

لم أرَ شيئًا مثل هذا من قبل، إنه مختلف عن متلازمة الضائقة التنفسية الحادّة المألوفة، ولا شك أن هذا كان مخيفًا جدًا بالنسبة للأطباء الصينيين الذي واجهوا الفيروس لأول مرة.

فكّرت كثيرًا بالأطباء الصينيين الذين كانوا أول من رأى هذا المرض. عندما بدأت أسمع عن فيروس كورونا المستجد -كم كنت ساذجًا- تساءلت: كيف عرفوا أنهم يواجهون شيئًا جديدًا أو غير اعتيادي؟ في العناية الحثيثة نرى مرضى مصابين بالتهاب رئوي حاد أو متلازمة الضائقة التنفسية الحادة (ARDS) طوال الوقت، وفي كثير من الأحيان لا نعرف ما الذي سببها ونفترض أنه فيروس ما. لذا وجدت نفسي أتساءل، كيف عرفوا أنهم يتعاملون مع شيء مختلف؟ لكنني الآن وبعد أن رأيت ما رأيته من حالات هنا أدرك أنهم كانوا بلا شك مرتبكين تمامًا من شيء لم يعرفوا اسمه بعد، في منطقة مجهولة تمامًا. لم أرَ شيئًا مثل هذا من قبل، إنه مختلف عن متلازمة الضائقة التنفسية الحادّة المألوفة، ولا شك أن هذا كان مخيفًا جدًا بالنسبة لهم. عدم اليقين، الخوف من الإصابة، سؤال «ما هذا الذي يحصل هنا؟ هل هناك شيء ما يفوتني؟» لا بد أن ذلك كان مريعًا للغاية. ولا أعلم ما كنت سأفعل لو كنت مكانهم، لم أكن لأعرف ما ينبغي فعله.

إنني آكل كثيرًا هنا، الناس يتبرعون بالطعام للمستشفى طوال الوقت، وآكل نحو سبع وجبات في اليوم، جميعها وأنا أمشي من مكان لآخر، ولا شيء منها صحّي. لذلك فإن خطتي ليوم غد هي أن أصل إلى المستشفى في ساعة أبكر من اليوم، وأن أحاول ألا آكل طعامًا غير صحّي طوال اليوم.

الجمعة 10 نيسان 2020

أموري الصحية جيدة لكنني أشعر بآلام في العضلات. أعتقد أن هذا لأنني لم أنم جيدًا ليلة أمس، وسأخبركم لماذا. بدأت الكوابيس. أحد الأمور المثيرة للجدل فيما يتعلق بموضوع كوفيد-19 هو أنه يجعل دم المرضى كثيفًا وأكثر عرضة للتخثر، لذلك نحن نعطي المرضى الكثير من مميّعات الدم، وهو أمر لست مرتاحًا تمامًا معه لأنه قد يسبب أعراض جانبية منها زيادة احتمال حصول نزيف. ليلة أمس رأيت في المنام نفس المريض الذي أخبرتكم عنه، الذي اضطر أن يوضع على أنبوب تنفس في وقت سابق من اليوم، كان الدم يخرج من فمه ويملأ المكان وينتشر على واقي الوجه الخاص بالممرضة وعلى لباسي الواقي. تمكّن المريض من النهوض خارج السرير، ولو متعثّرًا، وفتح باب غرفة العناية الحثيثة والخروج منها وهو يسعل دمًا في كل مكان. جرينا خلفه بقسطرة شفط في محاولة لإيقافه، وطلبت من المقيم أن يستدعي فريق الأشعة للتدخل، ثم استيقظت. لم أتمكن من العودة للنوم بعد ذلك وكانت النتيجة أنني وصلت إلى المستشفى في الصباح منهكًا للغاية.

تشعر في المستشفى أحيانًا وكأنك أليس في بلاد العجائب، لكثرة ما ترى من أمور غير اعتيادية لكنك لا تنتبه لذلك إلا بعد فترة. مثلًا اليوم كنت أمشي في المستشفى وأرى الناس يحملون في أيديهم أكياس خبز هامبرغر من النوع المتصل بعضه ببعض، ثمانية في كل كيس، رأيتهم أكثر من مرّة ولم أنتبه إلا بعد فترة وتساءلت «لماذا يحمل الناس أكياس خبز هامبرغر؟» ثم في استراحة الغذاء عندما ذهبت إلى الكافيتيريا وجدت سيدة تجلس مع صناديق وصناديق من هذا الخبز، تبرّع به مخبز ما، وتوزعه على العاملين في المستشفى. سألتني إذا كنت أريد خبزًا وقلت لها «لا شكرًا».

كان هناك اليوم مريضة عمرها 83 سنة، لطيفة جدًا، تم إدخالها ليلًا بعد تشخيصها بكوفيد-19. استلمناها في الصباح، وذهبنا أنا والمقيم إلى غرفتها لنتحدث إليها. سألها المقيم «هل تعلمين ما الذي يحدث؟»، فردّت «نعم، لدي سرطان». تبادلنا نظرات جانبية وقلنا لها: «كلّا، أنت مصابة بكوفيد-19». فقالت: «آه، أصبت بالفيروس؟». كانت على جهاز تنفس خارجي (يسمّى جهاز الضغط الهوائي الإيجابي ثنائي المستوى BiPAP)، وقلت لها إنني قلق عليها لأنها لا تبدو بحالة جيدة. فردّت «أريد العودة إلى المنزل». قلت لها إنه لا يمكننا إرسالها إلى المنزل، لكنّها ظلت مصرّة. 

قلت لها إنني سأكون واضحًا ولا يمكنها العودة إلى المنزل. سألتني كم أعتقد أنها ستبقى في المستشفى، فأجبتها «أسابيع، اثنين، أربعة، ستّة، بهذه الحدود». ثم سألتها إذا كانت ترغب أن نضعها على جهاز تنفس اصطناعي نافذ إذا تطلّب الأمر، فقالت لا، وطلبت أن تتحدث مع زوجها ومع طبيبها المختص بالأمراض التنفسية. لم نتمكن من الوصول إلى الطبيب لكن المقيم تحدث مع زوجها. 

تركناها لتفقد مريض آخر، لكنني عدت لأطمئن عليها وسألتها إذا كانت تحتاج أي شيء، فطلبت أن تتحدث مع زوجها. قلت لها، حسنًا. جهاز الـ(BiPAP) الذي كانت عليه يدفع الهواء المضغوط عبر قناع إلى المجاري التنفسية، ويعمل كبخّاخ، إذ أنه يضع القطرات التنفسية في جزيئات صغيرة جدًا معلقة في الهواء، لذلك فإنه من أكثر الإجراءات تسببًا بانتشار الفيروس. وها أنذا، أجلس بجانبها، وأمسك الهاتف على وجهها لأنها لا تستطيع حمله بنفسها، وأرفع جزءًا من القناع حتى تتمكن من التحدث مع زوجها، وبعد حوالي دقيقتين من ذلك خطر على بالي «ما الذي أفعله؟»، فقلت لها إنه لا يمكننا الاستمرار في الحديث هكذا مع زوجها. تحدثت معه لبرهة أخرى ثم أعدنا القناع مكانه. وتملّكني قلق كبير بعد ذلك. بدأت أتخيل الأشياء. مثلًا، لدي دائمًا سيلان في الأنف بعد تناول الطعام، ولكنني الآن عندما يصيبني سيلان في الأنف بعد الأكل، أشعر بالقلق الشديد. شعرت بدغدغة في حلقي بعد أن أكلت اليوم وكنت قلقًا بشأن ذلك. سنرى ما سيحدث.

الطبيب الأردني محمد دلابيح (الأول من اليسار) مع زملائه من الكوادر الطبية في مستشفى ماونت سيناي في مدينة نيويورك

طلبوا منّي البقاء أسبوعًا آخر، أجبت المسؤول عنّي في دنفر أن لا مانع لدي. هناك شخصان مسؤولان عنّي؛ مسؤول العناية الحثيثة، الذي سألني وأجبته بنعم، ومسؤولة قسم الجهاز التنفسي، التي ردّت على الإيميل «لن تبقيا، ستعودان. متأسفة. نقطة». جادلناها، فقالت أنها لا تريد أن تزيد من تعرضنا للخطر. قلنا لها أن الخطورة كانت أعلى في اليومين الأولين لأننا لم نكن نعلم كيف نرتدي اللباس الواقي ونخلعه كما يجب، لكننا الآن تمكّنّا من هذه العملية ونعلم مكان كل شيء ونعرف المرضى. لماذا تريد إعادتنا وإرسال طبيبين آخرين وتعريض المزيد من الأشخاص للخطر؟ فردّت: «هذه جميعها حجج جيدة ومقنعة لكنني متأسفة، ستعودان». أعتقد أنني أعرف السبب وراء قرارها هذا. في معظم الحالات تكون فترة حضانة الفيروس من يوم لسبعة أيّام. فلنفترض أنني التقطت العدوى في اليوم الثالث، على الأغلب لن أعرف ذلك ولن يسوء الوضع حتى اليوم السابع لغاية العاشر، وأعتقد أنها لا تريد لنا أن نمرض ونحن في نيويورك. أتفهم هذا تمامًا، لأنه حتى وإن لم يتمكن أفراد عائلتك وأحباؤك من زيارتك في المستشفى، لكن على الأقل ستكون في نفس المدينة. تخيلت إذا مات أحدنا في نيويورك بعيدًا على عائلاتنا في دنفر، أعتقد أن هذا ما دفعها لتقول «ستعودان، متأسفة».

السبت 11 نيسان 2020

أموري الصحية جيدة لكن لدي تقرّح على أنفي من ضغط الكمّامة. أنا متأكد أنني سأخسر مريضًا الليلة، ولربّما سأنجح في تحسين وضع اثنين آخرين بشكل ملموس، أحدهما كبير في السن نوعًا ما (72 عامًا) والآخر شاب (47 عامًا).

لا أعلم ماذا أقول، أنا مستمتع بالعمل بشكل عام لكنني في هذه المرحلة أريد العودة إلى المنزل. أحب أن أعود هنا، بعد أسبوع ربّما، لكنني مرهق جدًا. تذكرت اليوم قصة أخبرني إيّاها الطبيب الذي كان مشرفًا علي في أريزونا. خلال انتشار وباء فيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)  في الثمانينات. كان في سان فرانسيسكو، وكانوا يجرون تنظير القصبات الهوائية للمرضى لأنهم كانوا مصابين بالتهاب رئوي، ولم يكن الأطباء في ذلك الوقت يعلمون ما هو فيروس نقص المناعة المكتسبة ولماذا يمرض أولئك الشبّان. أخبرني عن حلم رآه، كان يرتدي اللباس الواقي كاملًا، ويحمل منظار القصبات، ويدخله حتى الرئة ويقوم بعملية تسمّى غسيل (lavage) حيث يضع سائلًا معقّمًا مالحًا ومن ثم يشفطه خارجًا، ومن ثم يأخذ نفس المنظار ويقوم بنفس الإجراء لمريض تلو الآخر، في صف طويل من المرضى. 

تذكرت القصة اليوم، لأننا عادة نرتدي العدة الواقية ثم نخلعها فور انتهائنا من المريض، إلا إذا كنّا سنذهب مباشرة من غرفة إلى أخرى، لا نضطر لخلع العدّة. اليوم، ارتديت العدّة الواقية، وذهبت من غرفة لأخرى، وقمت بإدارة أجهزة التنفس بشكل دقيق واحدًا تلو الآخر حتى أنهيت 12 مريضًا ومن ثم خلعت العدّة. لم يكن لدي أي مريض ليس على جهاز تنفس اصطناعي اليوم.

الأحد 12 نيسان 2020

إحدى مريضاتي، التي تعمل في مركز للسرطان، عندما لم تظهر في مكان عملها، اتصلوا بأختها، وحاولت أختها الوصول إليها لكنها لم تتمكن من ذلك، وبعد عملية بحث وبطريقة ما عرفت أنها هنا في مستشفى «ماونت سيناي». شقيقتهما الثالثة هنا في المستشفى كذلك، مصابة بكوفيد-19. مريضتي في العناية الحثيثة ووُضعت على جهاز تنفس اصطناعي قبل ثلاثة أيّام وهي تبدي تحسنًا طفيفًا، وآمل أن تكون لديها فرصة للتحرر من الجهاز. اليوم، أثناء جولاتنا بين المرضى، سمعنا نداء استجابة سريع تحوّل إلى صافرة السكتة القلبية، وعلمت لاحقًا أن المريضة التي ماتت هي صديقة مريضتي المقرّبة. إذا استيقظت مريضتي، ستكتشف أن صديقتها ماتت، والأسوأ أن صديقتها أصيبت بعد إصابتها ودخلت المستشفى ووضعت على جهاز التنفس قبل أن تعلم.

هذه ثيمة القصص التي أواجهها. مثلًا، أحد الأطباء في العناية الحثيثة في المستشفى، أدخل والداه المستشفى لإصابتهما بالفيروس، أحدهما على جهاز التنفس. لذلك فهو مختفٍ منذ فترة. إحدى مساعدات الأطباء في قسم الباطنية، كانت خالتها في العناية الحثيثة وتوفيت، ووالدتها في المستشفى في حالة صعبة جدًا. لكن هذا الوضع لم يتمكّن منّي بعد. ما زلت محافظًا على تماسك ما، ولم أتعلّق عاطفيًا بأي من المرضى، وهذا يعود بشكل كبير لأنني لم أتعرف على أي من أفراد عائلاتهم، وجميعهم في غيبوبة ولا أعرف خلفياتهم أو قصصهم أو أي شيء عنهم، وهذا لربّما يجعل الوضع أقل صعوبة ولو بشكل طفيف.

أعتقد أن أربعة من مرضاي يسيرون بالاتجاه الصحيح، وأنا متحمّس جدًا لذلك. 

بعض الأمور المثيرة للاهتمام التي تعلّمتها عن هذا الفيروس أنه سيء للغاية، ويسبب التهابات منتشرة في كافة أجهزة الجسم. معظم المرضى يموتون بسبب ما يسمى بعاصفة السايتوكاين Cytokine Storm، [وهي رد فعل مبالغ به لجهاز المناعة ضد الفيروس، يؤدي لالتهاب الأنسجة في أعضاء الجسم المختلفة]. أعتقد أن أكثر الناس هشاشة أمام هذا المرض هم مرضى السكري. لا شك أن المرض يؤثر على كبار السن بشكل أكبر كثيرًا من غيرهم. لدي مرضى شبّان، لكن غالبية مرضاي في السبعينات والثمانينات من عمرهم. طبعًا كل هذه انطباعاتي المبنية على مشاهداتي الشخصية، لا على دراسات أو أدلّة.

مشكلة العمل الذي نقوم به أنه تحت ضغطٍ عالٍ لفترات طويلة جدًا، وعليك أن تكون حذرًا للغاية لفترة طويلة جدًا أيضًا.

مشكلة العمل الذي نقوم به أنه تحت ضغطٍ عالٍ لفترات طويلة جدًا، وعليك أن تكون حذرًا للغاية لفترة طويلة جدًا أيضًا. قبل يومين، كنت أبحث عن سمّاعاتي، واعتقدت أنني أضعتها وغضبت من نفسي، لكنني عثرت عليها بعد ساعتين تقريبًا، على أذني. ماذا تخبرني هذه الحادثة؟ أن تركيزي ليس كما ينبغي أن يكون. أخطر جزء فيما نقوم به هو عملية خلع اللباس الواقي (doffing)، واليوم ارتكبت خطأً كبيرًا أثناءها. عندما تدخل غرفة مريض فإن سترتك الواقية تلامس كل شيء، السرير والمريض وجهاز التنفس وما إلى ذلك، وينبغي أن تفترض أنها ملوّثة تمامًا بالفيروس، وتكون قفازاتك على يديك. ينبغي أن تخلع القفازات والسترة في نفس اللحظة (يمكنكم مشاهدة فيديو عن طريقة الارتداء والخلع). ما حدث أنني خلعت القفازات قبل أن أخلع السترة، مما يعني أن يدي لامستا السترة. لحسن الحظ أنني انتبهت فورًا ونظّفت يدي جيدًا، لكنني كنت أرتدي ساعتي ولم أخلعها، وأعتقد أنها تلوثت قليلًا. بكلمات أخرى، هذه الفترة الطويلة من الضغط وقلة النوم تؤثر على التركيز وتؤدي إلى ارتكاب الأخطاء. وأعتقد أن هذه أكبر فائدة من قدومي إلى هنا. لا أعتقد أنني أنقذ حياة أي مريض، لكنني أساعد الأطباء. لأنني أتيت، تمكّن أحد أطباء العناية الحثيثة والذي عمل أسبوعًا متواصلًا من أن يأخذ إجازة لخمسة أيّام. رأيته اليوم وكان شخصًا مختلفًا تمامًا عمّن رأيته لدى وصولي. ليس لديه أكياس تحت عينيه، يبدو مرتاحًا، ويمزح ويطلق النكات. وهذا أسعدني جدًا جدًا. هذا الشكل من العمل تحت الضغط ليس مستدامًا. حاكم نيويورك أندرو كوومو عبّر عن الفكرة بشكل جيد: «صحيح أن نيويورك نجحت في تسطيح المنحنى، لكنّها سطّحته في نقطة عالية، والنظام الصحي يعمل بأقصى طاقته». لم يؤد هذا لانهياره، لكنّه مثل محرّك يشتغل عند المؤشر الأحمر، إلى متى تستطيع أن تعمل بالطاقة القصوى؟ لا أعلم.

الإثنين 13 نيسان 2020

تستمر مأساة العائلات. اتصل بي قريب أحد مرضاي (الذي لن ينجو غالبًا)، وسألني إذا كان بإمكاني إخباره أن والدته توفيت من كوفيد-19، في الحقيقية لا يمكنني إخباره بأي شيء لأنه في غيبوبة مستحثة طبيًا. مريضتي التي توفيت في العناية الحثيثة قبل أيّام، والدتها الآن في العناية الحثيثة في وضع حرج جدًا.

كل هذا في وحدة العناية الحثيثة الصغيرة التي أشرف عليها والتي تضم 14 مريضًا.

هذا المرض ما زال يثير ذهولي. إنه غريب جدًا. أعتقد أنني لاحظت نمطًا، كنت قد قلت سابقًا بأن المرضى يبدون في حالة تحسن ومن ثم فجأة يتحول وضعهم للأسوأ ثم يموتون.

هذا المرض ما زال يثير ذهولي. إنه غريب جدًا. أعتقد أنني لاحظت نمطًا، كنت قد قلت سابقًا بأن المرضى يبدون في حالة تحسن ومن ثم فجأة يتحول وضعهم للأسوأ ثم يموتون. أعتقد أن أول إشارة لأن وضعهم يسوء هو تسارع نبضات القلب. يصيبهم عدم انتظام دقات القلب، ثم يقفز مستوى ثاني أكسيد الكربون لديهم، وبعد ثلاثة أيّام يموتون. وليس لدي أدنى فكرة لماذا. الموضوع يدفعك للتواضع، كنت دائمًا أعتبر نفسي جيدًا جدًا في التنفس الاصطناعي، لكن هذا المرض يجعلك تتواضع.

اليوم طلبت كنافة من محل تركي، وهذا أحد الأشياء التي أحبها كثيرًا في نيويورك. الأكل رائع. القطر كان عظيمًا، والكنافة كانت شهية، تمامًا كما يجب أن تكون، بدرجة الملوحة المطلوبة ودرجة الحلاوة المطلوبة.

الثلاثاء 14 نيسان 2020

اليوم هو يومي الأخير في المستشفى، وأشعر بأنني تمام، لا صداع ولا أوجاع في الحلق أو حرارة أو ألم في العضلات أو أي شيء.

تعلّمت الكثير في هذا الأسبوع، عندما أنظر إلى ممارساتي الطبية عند وصولي ولدى مغادرتي، أجد أنها اختلفت كثيرًا. كان لدي حالة نجاح اليوم، نزعت جهاز التنفس عن أحد المرضى، وهناك اثنان آخران قريبان من التحرر من جهاز التنفس. هذا يعطيني شعورًا ممتازًا. 

تعلّمت أن هذا المرض يمكن أن يكون قاسيًا جدًا وعنيفًا جدًا، لكن في النهاية هؤلاء المرضى هم مرضى عناية حثيثة وبالتالي تصيبهم كل المضاعفات التي تصيب مرضى العناية الحثيثة في العادة، ومن ضمنها ما نسمّيه «العدوى الإضافية». وهذا يحدث عندما يكون لديك التهاب نتيجة فيروس مثل فيروس كورونا، ولكن لأنك في العناية الحثيثة ولديك كل هذه الخطوط وأنبوب تنفس في حلقك، تصيبك عدوى إضافية، يعني التهاب فوق الالتهاب. لديّ مريض تشكل لديه التهاب فطري في الدم، وهذه حالة نادرة من حالات العناية الحثيثة وأنا سعيد جدًا لأننا التقطناها. التقطناها لأننا اشتبهنا بها، واشتبهنا بها لأنني توقفت عن التفكير بكوفيد-19 على أنه هذا الكائن الفريد، وكان هذا مفيدًا جدًا. لا تسيؤوا فهمي، هناك أمور كثيرة فريدة للغاية في هذا المرض، ولكن ليس إلى الدرجة التي يتحدث عنها الناس. 

رأيت الكثير من تجلطات الدم، أكثر مما يمكن أن أتوقع في العادة، ولهذا فقد تغيرت ممارستي تجاه ما نسمّيه العلاج المعتمد على الخبرة (Empirical treatment). في العادة عندما نشتبه بتجلطات دم، نطلب تصويرًا بالموجات فوق الصوتية (التراساوند)، لكن في حالة مرضى كوفيد-19، وحتى نقلل من انتشار الفيروس لباقي أنحاء المستشفى، فإننا لا نطلب فحوصات بهذه الأجهزة، ونعالج التجلطات فقط بناءً على الخبرة. طبعًا لست سعيدًا بذلك لكن هذا هو الواقع.

عدت إلى الفندق اليوم لأكتشف أنه ما زال لدي كيس كبير من العدة الواقية كان المستشفى الذي أعمل به في دنفر قد أعطانا إياه ليتأكدوا أننا محميون أثناء وجودنا هنا. لكن مستشفى ماونت سيناي هنا كان لديهم ما يكفي من اللباس الواقي (كان علينا أن نوقّع على استلامه في كل مرّة، لكن لم يكن هناك نقص)، لذلك لم أحتج للعدة التي أحضرتها، فأخذتها وعدت إلى الممرضة المسؤولة عن العناية الحثيثة وأعطيتها إياها. شعرت نفسي بابا نويل، عندما تجمّع الممرضون والممرضات، ولم أرَ قط أشخاصًا بهذه السعادة لحصولهم على أقنعة وسترات واقية. شعور لطيف أن تكون بابا نويل.

طلب منّا مديرنا اليوم أن نكتب رسالة شكر لرجل الأعمال الثري، كمبال مسك، الذي كان قد تبرّع أن يقلّنا من دنفر إلى نيويورك بطائرته الخاصة. فقرر زميلي جوشوا أن يقدّم له قسيمة شراء من وولمارت بقيمة 25 دولار أمريكي مع بطاقة شكر. أعتقد أنها فكرة عظيمة، ومضحكة للغاية. ماذا يمكن أن تقدّم لشخص يمتلك طائرة خاصة؟

سأعود إلى دنفر يوم غد، وأكثر ما أشتاق إليه هو النوم، أريد أن أنام لفترة طويلة جدًا. لكنني سعيد أنني أتيت هنا. وأنا مستعد للعودة بلمح البصر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية