«طُبِخ في المنزل»: ربات بيوت ينافسن المطاعم

تنشغل سحر في الأيام الأخيرة من رمضان في إعداد كعك العيد، تصوير بيان حبيب

«طُبِخ في المنزل»: ربات بيوت ينافسن المطاعم

الأحد 02 حزيران 2019

قبل أن تبدأ سحر شرف (61 سنة) مشروعها في الطبخ المنزلي، كانت معروفة في وسطها بمهاراتها في الطبخ، وكان جيرانها وأقاربها يستعينون بها لتساعدهم في العزائم، تحت بند تسميه مبتسمة «خدمات عامة». ثم تقاعد زوجها العام 2007 من عمله مديرًا لمستودعات إحدى المؤسسات الصحفية، وانخفض دخل العائلة بشكل كبير. كانت ابنتها الكبرى آنذاك في التوجيهي، وابنها وابنتها الأخرى في المرحلة الابتدائية. فاقترحت عليها واحدة من جاراتها أن تستثمر مهارتها في الطبخ لبيع أصناف طعام، تتطلب مهارة عالية، أو تستنزف وقتًا وجهدًا لا تملكه النساء العاملات، مثل الكبة والشيشبرك والمحاشي. وهكذا كان، باعت بعد هذا الاقتراح بأيام صينية كبة، وتلقت أول أجر من طبق تطبخه. وهكذا بدأ مشروعها المستمر من 12 سنة، والذي تقول إن قاعدتها الأساسية فيه «زي ما بياكلوا أهل البيت بطعمي برة».

جاءت سحر، وهي سورية من أم لبنانية، إلى الأردن العام 1981، بعد زواجها من أردني. وتقول إن عاملين أكسباها مهارتها في الطبخ: الأول اضطرارها وهي في عمر الحادية عشرة إلى تحمّل قسم كبير من مسؤوليات البيت بعد وفاة والدتها التي تركت ستة أطفال، كانت هي أكبرهم. والثاني هو سكنها في السنوات الأولى لزواجها مع والدة زوجها، التي كانت هي نفسها بارعة في الطبخ، وعلمتها كل ما تعرفه.

خلال الـ12 سنة الماضية، تنوعت قائمة الوجبات التي تخرجها سحر من مطبخ منزلها المستأجر في ماركا. وهي تطبخ الآن، إضافة إلى الأصناف السابقة الذكر، الوجبات اليومية مثل الملوخية والمنسف والمقلوبة والكبسة وغيرها. جاء هذا استجابة لاتساع قاعدة زبائنها، وتنوعهم، فإضافة إلى ربات البيوت، والنساء العاملات، انضم إلى قائمة زبائنها موظفو شركات قطاع خاص يطلبون وجبات الغداء إلى مكاتبهم. كما صارت تتعامل مع عائلات تُكلّفها بتجهيز عزائم، أو أعياد ميلاد.

تستقبل سحر الطلبيات هاتفيًا بواسطة ابنتها الصغرى آلاء التي أنهت الثانوية العامة قبل بضع سنوات، وتعمل سكرتيرة في عيادة طبيب. تقدم آلاء لأمها المساعدة أحيانًا بعد انتهاء دوامها، لكن مهمتها الأساسية في هذا المشروع هي تنسيق الطلبات، وشراء المستلزمات.

تخصص سحر خمس ساعات يوميًا تقريبًا لتجهيز الطلبيات التي تشترط أن تكون قبلها بيوم، حتى يكون لديها مجال لشراء المكونات من لحوم وخضار وغيره. فهي لا تغامر بشراء اللحوم وباقي المستلزمات بشكل مسبق، لأنه لا يمكنها التنبؤ بنوع الطلبات. والقاعدة التي تطبقها حتى في طعام عائلتها هي عدم تخزين اللحوم. المساحة الفائضة عن حاجة عائلتها في «الفريزر»، تستخدمها لورق الدوالي، أحد أكثر الأطباق رواجًا، والذي تشتريه بكميات كبيرة في موسمه، وتحتفظ بقسم منه في الفريزر، وبقسم آخر في زجاجات مفرغة من الهواء.

من غير المعروف عدد النساء العاملات في مشاريع الطبخ المنزلي، فالمهنة التي تندرج ضمن اقتصاد الظل، هي قطاع غير مُنظّم، لم يُعرف أن أحدًا مسحه بشكل علمي. لكن هناك ما يؤشر على أن مئات النساء في المملكة يعملن، مثل سحر، في إطار مشاريع طبخ منزلي، تختلف في حجمها، وطبيعتها ونوع الزبائن الذين تستهدفهم، وتشترك جميعها في أن صاحباتها ربات بيوت، يدرن مشاريعهن من مطابخهن الصغيرة، مستخدمات فرن العائلة، وثلاجتها وطناجرها.

«بحب أكون أنا رئيسة حالي»

أمل الزعبي هي ربة منزل أخرى تدير، من مطبخ العائلة، مشروعها الذي بدأته قبل سنة ونصف. وتختلف عن سحر في أنها تقدم وجباتها مجمّدة. وهو مفهوم جديد في مشاريع الطبخ المنزلي، تقول إنها لا تعرف أحدًا غيرها في الأردن يعمل به.

تحمل أمل، وهي أم لطفلين في الثانية عشرة والثامنة، ماجستير في الجيولوجيا، ورغم ذلك فإن تجربتها في الوظيفة لا تتجاوز أشهر قليلة عملت خلالها في التعليم، لكنها تركت العمل لأنها لم تتحمل اجتماع ضغط الوظيفة مع أعباء الأسرة. وساعدها على البقاء في المنزل، أن دخل زوجها الذي يعمل في منظمة أممية كان جيدًا. لكنها قبل بضع سنوات، بدأت تشعر بحاجة إلى العمل، عندما التحقت ابنتها الصغرى بالمدرسة. ولم تفكر بالوظيفة، لأنها بعد كل هذه السنوات تقول إنها اكتشفت «إني ما بحب يكون عندي رئيس. بحب أكون أنا رئيسة حالي».

تقول أمل إن مشروعها يستهدف النساء العاملات

مشروع طبخ منزلي كان بالنسبة لأمل، التي استهواها الطبخ منذ كانت مراهقة، هو العمل المناسب، فهي ستظل في المنزل، قادرة على إدارته في الوقت ذاته التي تدير فيه عملها. ومشروع الوجبات المجمّدة بالتحديد، كان مناسبا أكثر، لأنه يتيح لها التحكم في وقتها بشكل أكبر، فهي تخصص يومين فقط في الأسبوع لإنتاج ما بين 5 و10 وجبات من عدة أصناف. وتحفظها في فريزر اشترته لهذا الغرض.

قبل 3 سنوات، وقبل مشروع الوجبات المجمدة، جربت أمل إنتاج الحلويات، ولم تنجح، فانتقلت للعمل في مجال الوجبات الساخنة، التي كانت تبيعها من خلال تطبيق إلكتروني مخصص لهذا الغرض، وهو تطبيق «بالفرن»، الذي يروج لصاحبات مشاريع الطبخ المنزلي أطباقهن، مقابل نسبة من الربح. كان هذا التطبيق يعلن يوميًا قائمة بالوجبات المتوفرة لمن يرغب بالشراء. وهذا يعني أن النساء يجهزن الأطباق مسبقًا، من دون ضمان بيعها. تقول أمل أنها أعدت في أحد الأيام 10 وجبات لازانيا، وصدف أن أحدًا لم يطلبها. اشتكت لجارة لها تعمل في في القطاع الخاص، فطلبت منها أن تعطيها 5 وجبات لتحفظها في الفريزر، وتستخدمها في الأوقات التي لا يكون بإمكانها الطبخ. تقول أمل إن جارتها، التي تعود إلى منزلها كل يوم في السادسة مساء، عادت إليها بعد ذلك وطلبت أن تعطيها مجموعة أصناف أخرى لتضعها في الفريزر، بعد أن رأت أن التجميد لم يغير في طعم الوجبات التي أخذتها. وهكذا ولدت فكرة المشروع.

استمرت أمل ستة أشهر تجرّب أنواعًا مختلفة من الوجبات، تجمدها ثم تعطيها لجاراتها وأقاربها وتستقبل التغذية الراجعة. وهذا ساعدها عندما بدأت العمل الفعلي على تحديد قائمة بالأصناف التي لا يتغير طعمها بعد التجميد. وغالبيتها، بحسبها، من المطابخ الغربية. كانت في البداية تزاوج بين الوجبات المطهوة، والأخرى النيئة، لكنها جاهزة للطبخ، مثل صواني الدجاج بالخضار. لكنها مؤخرًا ألغت الوجبات النيئة من قائمتها لأنها رات في ذلك مخاطرة، إذ خافت ألا يطهوها زبون بشكل جيد، وتتحمل هي المسؤولية.

تقول أمل إن مشروعها يستهدف زبونًا محددًا هو النساء العاملات اللواتي لا يردن أن يبقين تحت وطأة الهاجس اليومي لـ«شو بدي أطبخ اليوم؟»، ولديهن استعداد لشراء مجموعة وجبات مجمدة بداية كل شهر. وقد عرفت منذ البداية أنهن في الغالب طبقة معينة من العاملات في القطاع الخاص. أولًا لأن موظفات «الحكومة» يتمتعن بدوام قصير نسبيًا، لا يتجاوز الثانية أو الثالثة عصرًا، ولديهن بالتالي متسع أكبر لتحضير الطعام. والسبب الآخر يتعلق بأسعار الوجبات. فرغم أنها تبيع الوجبة التي تكفي ثلاثة أشخاص بأسعار تتراوح بين 6-8 دنانير، وهي أسعار تقول إنها رخيصة مقارنة بمثيلاتها في المطاعم، تظل هذه أسعار لا تتحملها كممارسة شبه يومية، إلا الفئة المرتاحة اقتصاديًا من موظفات القطاع الخاص.

تقول أمل إن السر في نجاح مشروعها الحالي، إضافة إلى أن الفكرة تلبي حاجة في السوق، هو أنها باتت تعرف بالخبرة، أن النجاح في هذا النوع من المشاريع يحتاج إلى أكثر من أن «يكون أكلك زاكي وعندك نفس في الطبخ». هذا الزمن تقول أمل، هو زمن السوشال ميديا، وإذا لم يكن لصاحبة المشروع حضور على مواقع التواصل الاجتماعي، فإن عملها سيظل محصورًا في دائرة ضيقة جدًا. أمر، تقول إنها لم تكن مقتنعة به نهائيًا في بداياتها قبل ثلاث سنوات، لكن صبيتين هما أختها وأخت زوجها أقنعتاها بالعمل على صورتها على مواقع التواصل. فأنشات صفحة على فيسبوك، تديرها الفتاتان اللتان تتوليان مقابل نسبة من الربح، إدارة الصفحة، والتواصل مع الناس.

تؤكد على ذلك آلاء، ابنة سحر، التي تقول إنه صحيح أن قاعدة زبائن والدتها توسعت خلال السنوات الماضية، لكن حجم الطلبات تضاعف قبل سنتين بعد أن أنشأت لوالدتها صفحة على فيسبوك، تروّج فيها للأطباق، وتتواصل مع الناس. نجاح التجربة، شجّع آلاء نفسها على إنشاء صفحة خاصة بها، لترويج بعض أطباق الحلويات التي تصنعها على نطاق ضيق.

في المقابل، لا تفكر آمال الصيفي، وهي أم لثلاثة أبناء تتراوح أعمارهم بين 37 و27، نهائيا بالترويج لأطباقها على السوشال ميديا، لأنها، كما تقول، تريد لمشروعها الصغير أن يظل صغيرًا، ومحصورًا بالدائرة الضيقة من الجيران والأقارب ومعارفهم. فآمال، التي تستقبل في بعض الأحيان ثلاثة أو أربعة طلبات أسبوعيًا، ولا تتلقى في بعض الأسابيع أي طلب، تقول إنها تعمل «للتسلية».

تخرّجت آمال العام 1975 من الجامعة الأمريكية في القاهرة، تخصص إدارة أعمال وعلاقات عامة. عملت في الوظيفة ثلاث سنوات فقط، بعد تخرجها من الجامعة مباشرة، عندما عملت في ما كان يسمى وقتها وزارة التموين والاقتصاد، وغادرتها للالتحاق بزوجها الذي يعمل مهندسا في السعودية. ثم جاءت تجربتها الثانية في العمل، عندما عادت من السعودية العام 89، وافتتحت محل أدوات منزلية، استمر 7 سنوات من دون ربح يذكر، فتركته وتفرغت لعائلتها.

تطبخ آمال الوجبات التقليدية وأنواعًا من البسكوت الصحي المصنوع من الشوفان والفواكه المجففة

الفترة التي أحسّت فيها آمال بالضيق الشديد من جلوسها في المنزل كانت عندما تقاعد زوجها قبل ثلاث سنوات، وجلس في المنزل هو أيضًا. هذه هي الفترة التي بدأت تشعر فيها بحاجتها إلى أن تعمل شيئًا يلهيها. وجاءت الفرصة من صديقة لها تعمل في مكتب منظمة أجنبية، ذكرت لها أنهم في المكتب يوصون أحيانًا على وجبات محضرة بيتيًا، واقترحت عليها أن تجهز لهم طلبية، فـ«عملت ورق دوالي وكبة وحراق بأصبعه». هذه كانت البداية لمشروعها الذي تقول آمال إنها تطبخ إلى جانب الوجبات التقليدية، أنواعًا من البسكوت الصحي المصنوع من الشوفان والفواكه المجففة. وعملها لا يقتصر على طبخ الوجبات من الصفر، إذ كثيرًا ما تأتيها طلبات للف ورق دوالي، أو حشو كوسا، أو عمل فطائر سبانخ أو زعتر، وتكون الزبونة جهزت مسبقا الحشو والمواد.

العمل من أجل ملء الفراغ ليس السبب الوحيد الذي يحد من رغبة آمال في توسيع عملها. تقول إن السبب الآخر هو أنها تعمل وحدها من دون أي مساعدة، فهي من يقوم بالتسوق، والتجهيز والطبخ. وتوظيفها أي مساعدة سينعكس على أسعارها التي تقول إنها منافسة جدا، فتبيع مثلا رغيف الزعتر البلدي، المصنوع بزيت الزيتون بـ180 قرشًا، وحبة الكبة بـ35 قرشًا.

«طعم البيت» سر النجاح

تقول آمال إن سر نجاح مشاريع الطبخ المنزلية يعود لعاملين، أولهما منافستها لأسعار المطاعم التي تقول إنه برأيها أعلى بكثير من القيمة التي تقدمها وجباتها، حتى مع احتساب كل التكاليف الإضافية من رواتب وأجرة محل، «بطلع على الواحد عشرين دينار. بتتطلعي بتحكي هو أنا أكلت فعلًا بعشرين دينار؟» والسبب الآخر، تقول آمال هو «طعم البيت» الذي يأتي من حقيقة أن النساء يطبخن بالطريقة نفسها التي يطبخن فيها لعائلاتهن، مستخدمات المكونات وطرق الطبخ ذاتها.

تتسوق آمال لمستلزمات الطلبيات من المحلات ذاتها التي تتسوق منها لطبيخ عائلتها التي تسكن في تلاع العلي، رغم أن بإمكانها الحصول على أسعار أرخص في وسط البلد، لكن فرق السعر، قياسًا بالكميات التي تطبخها، تقول إنه لا يشجعها على تكلّف عناء الذهاب أبعد. في حين تقول أمل إنها تذهب أحيانًا إلى وسط البلد التي لا ينافسها أي مكان لا في السعر، ولا في جودة الخضار والفواكه. لكن تسوقها لمشروعها، بالتحديد للحوم، يعتمد أساسًا على العروض التي تقدمها المولات. وأيضًا على الخصومات التي تقدمها هذه المولات لزبائنها ممن يجمعون عددًا معينًا من نقاط الشراء، وهي خصومات تصل أحيانًا إلى 50%. أمّا سحر فالأسعار في ماركا، حيث تقيم، لا تختلف كثيرا عن وسط البلد. وهي ملتزمة منذ سنوات، بالشراء من محلات معينة، يعرف أصحابها كيف يجهزون لها طلبيات اللحوم والخضار والفواكه.

تقول النساء الثلاث إن تسعير الوجبات يتم استنادًا إلى كلفة المكونات، والجهد المبذول في تحضير الوجبات، لكنهما ليسا العاملين الوحيدين، فهناك أيضًا كلفة للتغليف الذي يضاف إلى السعر. فثمن الطبق الذي يوضع فيه الطعام، مثلًا، كما تقول أمل 30 قرشًا، أي 5% من سعر وجبة ثمنها 6 دنانير.

وهناك بالطبع، كلفة التوصيل، التي تقول أمل إنها مصدر تأفف لكثير جدًا من الزبائن، إذ تصل أحيانًا إلى ثلاثة دنانير. لهذا تعرض على الزبائن إن كانوا قريبين من منزلها في منطقة الدوار الثالث أن يأتوا بأنفسهم لاستلام الوجبة. وإلا فإنها تسلم الطلبات بواسطة تطبيق إلكتروني لتوصيل الطلبات. يأتي من خلاله عامل التوصيل ومعه حقيبة لحفظ الوجبات ساخنة، يسلمها قيمة الوجبة التي سيدفعها الزبون، ويأخذ الطلب بعدها إلى الزبون الذي يدفع له قيمة الوجبة وأجرة التوصيل.

وتتعامل سحر في المقابل، مع أوبر، فتقول آلاء، التي تتولى استقبال الطلبات وتنسيق توصيلها، إن الخصومات التي تحصل عليها، ويستفيد منها الزبائن، تساعد إلى حد ما على خفض كلفة التوصيل. أما آمال فإنها لا توفر أي آلية للتوصيل. من يشتري الوجبة، يأتي ليستلمها بنفسه من منزلها.

من اليمين إلى اليسار: أمل الزعبي وسحر شرف وآمال الصيفي

تُجمع سحر وآمال وأمل على أن إيقاع الطلبات يرتبط بشكل واضح بالرواتب، إذ تنتعش الطلبات نهاية الشهر، وتستمر كذلك في الأسبوع الأول منه، ثم تركد قبيل نهاية الشهر. وترتبط أيضًا بالمواسم، بالتحديد في رمضان والأعياد. في هذه الأيام مثلًا، قبل عشرة أيام من انتهاء رمضان، تبدأ طلبات المعمول والكعك بالتمر.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية