«قوم يا محمد»: عائلة باكستانية أخرى تقضي في حريق

الجمعة 06 كانون الثاني 2023
حريق عائلة باكستانية
من بقايا عريشة عائلة سندي المحترقة، غور المزرعة، 4 كانون الثاني 2022. تصوير مؤمن ملكاوي.

أقل من ساعتين هي المدة التي فصلت بين عودة محمد رمضان سندي من حفل زفاف أحد أقربائه، وإخلائه مع زوجته وطفلاته الثلاث بعدما فارقوا الحياة، من رماد عريشتهم المقامة في غور المزرعة؛ العريشة المصنوعة من هيكل من مواسير حديدية، والملبّسة بالكرتون والبلاستيك والقماش والصفيح. 

كانت الساعة بحدود الثانية عشرة من منتصف ليل الاثنين الماضي، عندما عاد محمد من الحفل برفقة والدته وشقيقته الكبرى، أم عادل، التي جاءت من المفرق لتقضي أسبوعًا مع عائلتها المقيمة في تجمع العرائش المنصوبة على طرف المزرعة التي يتضمّنونها. التجمع مكون من ست عرائش، أربعة يقيم فيها الأبناء المتزوجون مع أسرهم، وواحدة للوالدين مع أصغر ابنين، في حين تُستخدم العريشة السادسة مطبخًا مشتركًا.

قبل الثانية فجر الثلاثاء، تقول أم عادل إنها استيقظت على صراخ أخوتها «قوم يا محمد، قوم يا محمد». وعندما خرجت، رأت النار تشتعل في عريشة عائلته، وأخوتها يحاولون إطفاءها بدِلاء الماء. لم تكن النار قد امتدت بعد إلى العريشة كلها. حاولوا فتح الباب الوحيد للعريشة، والذي كان مغلقًا من الداخل، فلم يستطيعوا. لذا حاول أحد أشقائها فتح البلاستيك بسكين، لكنه لم يستطع الصمود أمام وهج النار. ثم في لحظة انفلت بربيش جرة غاز المدفأة، وصعدت النار إلى الأعلى أكثر فأكثر. «كان مثل يوم القيامة»، تقول أم عادل. وعندما جاء الدفاع المدني، كانت النيران قد التهمت العريشة بأكملها، إذ لم يستغرق الأمر أكثر من بضع دقائق. 

توفي في الحادثة محمد (34 سنة)، زوجته وابنة خاله ميسون عبد الستار (32 سنة)، وبناتهم، منال (10 سنوات)، مريم (8 سنوات)، ومروة (7 سنوات). يقول علي روشن، ابن خال محمد، الذي يسكن على مقربة منه، إن العدد كان يمكن أن يكون أكبر بكثير، لأن المسافة الفاصلة بين كل عريشة وأخرى هي أقل من عشرة أمتار. مجموع من كانوا في العرائش الباقية هو 12 طفلًا وستة بالغين. والنار امتدت بالفعل إلى عريشة أحد الأشقاء، وكادت أن تحرقها لولا أن استيقظ هذا الشقيق في الوقت المناسب، ونبّه البقية. 

محمد رمضان سندي وبناته الثلاث منال (يمين، أعلى)، ومروة (يمين، أسفل)، ومريم (يسار). الصورة بإذن من العائلة.

سبق هذا الحريق حرائق عرائش مشابهة، معظمها للجالية الباكستانية، التي جاء الجيل الأول منهم إلى الأردن في الستينيات، ويقيم أفرادها في تجمعات عائلية على أطراف المزارع التي يعملون فيها، في مختلف أنحاء المملكة. في كانون الثاني 2021، توفي رجل وزوجته وطفليهما في منطقة الكرامة في الشونة الجنوبية. وقبلها بشهر تقريبًا، توفي طفلان في حريق خيمة في منطقة القسطل جنوب عمان. وفي كانون الثاني 2019، توفي 13 من عائلة واحدة في حريق مشابه، أيضًا في «الكرامة».

يلفت علي إلى أن حرائق العرائش، أكثر بكثير مما تعلنه الأخبار، فالذي يصل الإعلام هو الحوادث المأساوية التي يكون فيها وفيات، في حين أن هناك حوادث كثيرة، لم تخلف ضحايا لأنها حدثت غالبًا في النهار، أو في وقت لا يكون الناس فيه قد ذهبوا إلى النوم بعد، فيكون أمامهم مجال للنجاة بأنفسهم. قبل شهرين، أتت النيران على خمس عرائش لأقارب لهم في منطقة زيزيا، وهو نفسه احترقت عريشته العام 2019. واحترقت قبل بضع سنوات، عريشتان، واحدة لشقيقه، في غور المزرعة، وأخرى لابن خاله في القويرة. وهذا، يقول، هو فقط ما يعرفه هو شخصيًا ضمن دائرة أقاربه. وهي حوادث، وإن لم تخلف ضحايا، لكنها جميعها أتت على كامل ممتلكات هذه العائلات.

وفق الناطق الإعلامي لمديرية الأمن العام، عامر السرطاوي، لم تتضح بعد نتيجة التحقيق في هذا الحادث. 

يذكر أن نتيجة التحقيق في حادثة العام 2019، كشفت أن السبب هو تماس كهربائي، سببه الأحمال الزائدة، وعشوائية التمديدات الكهربائية. في حين لم يمكن العثور على نتائج معلنة للتحقيقات في الحوادث الأخرى. لكن الأرجح، يقول علي، هو أن السبب تماس كهربائي.

علي، الذي يقيم مع أشقائه في تجمع عرائش مشابه في مزرعة تبعد 100 متر عن مكان الحادثة، يشترك مع تجمع عرائش عائلة محمد في التمديدات الكهربائية ذاتها، والمسحوبة من بيت صغير فارغ مملوك لصاحب الأرض. لقد رحلت عائلتيهما، بداية الألفيات، من دير علا إلى غور المزرعة، كي تنتقل من العمل بالمياومة إلى ضمان المزارع، وتنقلوا بينها. وهذه الأخيرة، تضمنوها قبل أربع سنوات تقريبًا. 

بقايا عريشة عائلة سندي المحترقة في غور المزرعة. تصوير مؤمن ملكاوي.

يقول علي إن تكرار هذه الحوادث هو السبب في أنهم غيروا، مع دخول الشتاء قبل أقل من شهر، التمديدات الكهربائية إلى أخرى أكثر أمانًا، بعدة قواطع تنزل عند حدوث تماس. لكن طبيعة العرائش المبنية من مواد كلها سريعة الاشتعال يجعل أي احتياطات أمان غير كافية. ولا يبدو أن هناك حلًا في الأفق، فهذا نمط من السكن هم مضطرون إليه، لأن حياتهم تعتمد على التنقل بين المزارع. 

لكنه أيضا نمط سكن يجبر عليه حتى القادرين منهم على شراء منزل، والراغبين في ذلك، لأنهم ممنوعون من التملك، كما يقول شقيقه حسين. وهذا ينسحب على ملكية السيارات، التي يقول إن كثيرين يشترونها ويسجلونها بأسماء آخرين، بسبب الحاجة الماسة إليها لنقل المحاصيل، والانتقال من المزارع التي تقع دائمًا في أماكن طرفية. وقد حدث، في عدة حالات، أن تنكّر من سُجلت هذه السيارات بأسمائهم لمالكيها. لذا، في ما يتعلق بالبيوت، فإن أحدا لا يغامر بشقاء عمره.

إذن، باتت العرائش المصممة أساسًا كمساكن مؤقتة قدرًا بالنسبة لهم، يقول علي، وهذا هو السبب في أن تصميمها تحول عبر السنوات. لقد سكنت الأجيال الأولى في خيام، ثم في عرائش على شكل غرف منفصلة، والآن، باتت العريشة تصمم على طراز شقة صغيرة. 

ما زال بالإمكان تبيّن معالم تصميم عريشة محمد؛ مدخل العريشة المقابل لمنشر الغسيل، غرفة «القعدة» التي كانت مخصصة أيضًا لمبيت الصغيرات، ثم غرفة محمد وميسون، وفي الزاوية مطبخ صغير. ووسط المتعلقات التي تفحمت، أو تحوّلت إلى رماد، كانت الكتب المدرسية للطفلات، الموجودة في زاوية غرفة القعدة، وقد احترقت أجزاء منها فقط، من الأشياء القليلة التي تدل على الحياة التي كانت في العريشة.

تقول أم عادل، إن نشأتها وأخوتها، كما غيرهم من الأطفال، في مزارع بعيدة جدًا عن المدارس، حرم معظمهم من التعليم. محمد لم يدخل المدرسة نهائيًا، ولم يرد لبناته المصير ذاته، فالحياة بالغة الصعوبة إذا كنت أميًّا. وقد كانت البنات محظوظات أن هذه المزرعة الأخيرة كانت على بعد دقائق مشيًا عن المدرسة. البنات اللواتي كن تلميذات في الصفوف الأول والثاني والرابع، كن ممتازات في المدرسة، لهذا علق محمد وزوجته شهاداتهن على الستائر داخل العريشة. كان أخوه الأكبر يمازحه ويقول له «بدي أجيب بناتك عندي يلقطن كوسا»، فكان يردّ بأنه سيعلمهن، في حين كانت زوجته تقول إنها لا تريد لهن أن يسكنّ في عرائش، بل ستزوجهن من أردنيين «حتى يسكنوهن في بيوت».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية