عبيد العمل وقدّيسوه: أهلًا بكم في عصر الاحتراق النفسي

الخميس 17 آذار 2022
موظف
المصدر: بيزنيس إنسايدر.

نُشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في صحيفة الغارديان بتاريخ 6 كانون الثاني 2022.

إنّ ما يجعل كثيرين منّا على شفا حافة الانهيار، هو أنّنا تركنا العمل يمنحنا معنىً لحيواتِنا.

عندما يتعلّق الأمر بالعمل يكون الأغنياء غير عقلانيين؛ فمن بين جميع فئات المجتمع هم الأقلّ حاجة لكسب مزيد من المال، ومع ذلك هم الأكثر عملًا من بين الجميع.

يتباهى عمالقة صناعة التكنولوجيا من أصحاب المليارات بأنهم يعملون بمعدّل مئة ساعة أسبوعيًا، ذلك رغم أنّ أسعار أسهم شركاتهم لا تزداد قيمة من عملهم ولا يزدادون ثراءً من ورائه. يتمتّع الأمريكيون من ذوي الدرجات العلمية المتقدمة بقدرة أعلى على تحقيق الدخل، لكنّهم عادة ما يقضون وقتًا أطول في العمل ممّا يقضون في أوقات الفراغ، مقارنةً مع غيرهم من الحاصلين على درجات علمية رسمية أدنى. بينما يرجّح أن الأبناء لآباء أغنياء أكثر التحاقًا بمقدار الضعف بالوظائف الصيفية من أقرانهم لآباء فقراء، وثمّة عديد العاملين الأمريكيين من كبار السنّ والذّين يملكون ما يكفي من المدّخرات لتقاعدهم لا يزالون مستمرّين في وظائفهم.

أنا أيضًا شخص غير عقلانيّ؛ فقد كَسِبتُ راتب طبقة وسطى كأستاذ جامعي مثبّت، لكنّي أصبحت أشعر بشكل متصاعد بالاستنزاف والإحباط من العمل، وفي النهاية استقلت. رغم أنّ التدريس أدّى دورًا رئيسيًا في احتراقي النفسي، لكنني شعرت أنني ضائع من دونه إلى درجة أنني، خلال أقل من عامين، عدت لأكون مدرسًا مساعدًا أجني بضعة آلاف من الدولارات على المساق الدراسي الواحد، وذلك جزء يسير مما كنت أحصل عليه سابقًا. لقد احتجت إلى وجود الهيكلية في أيامي. احتجت إلى ممارسة مهاراتي التعليمية التي اكتسبتها بشقّ الأنفس. بالإضافة إلى ذلك، احتجت إلى وجود شخصٍ يعتمد على حضوري وقيامي بعمل جيّد.

كل هذه الأشياء دليل على أننا لا نعمل من أجل المال فقط. أشخاص كثيرون؛ من بينهم متطوّعون وآباء وأمّهات وفنّانون كادحون، لا يُدفَعُ لهم على الإطلاق لقاء عملهم. حتى العاملون غير الأغنياء الذين يحتاجون حقًا إلى كلّ فلس من راتبهم، غالبًا ما يقولون إن هناك ما هو أكثر من المال فحسب، إنّهم يعملون بحبّ، أو في خدمة شيء، أو ليساهموا في جهد جمعيّ.

الكذبة النبيلة: أن تعمل، أن تكون طيّبًا

لا يمكن إرجاع الأسباب وراء الانتشار الواسع للاحتراق النفسيّ في مجتمعنا لتدهور ظروف العمل والإرهاق الشعوريّ وتدني الشعور بالأمان الوظيفي، مقارنة مع الظروف التي كانت سائدة منتصف القرن العشرين. إن الاحتراق النفسي سمة من سمات عصرنا، لأن الفجوة بين تصوّراتنا المثاليّة المشتركة عن العمل وواقع وظائفنا أصبحت أكبر مما كانت عليه في الماضي. 

لقد عَمِلَ عمّال مصانع النسيج في مدينة مانشستر البريطانيّة، أو لويل في ولاية ماساشوستس الأمريكيّة، لعدد ساعات أطول وفي ظروف أشدّ خطورة قبل قرنين من الزمن، مقارنة مع العامل الأمريكي أو البريطاني اليوم. كانوا مرهقين، لكنهم لم يعانوا من الحالة النفسية الخاصة بالقرن الـ21 التي نسمّيها بـ«الاحتراق النفسي» (Burnout)، لأنّهم لم يؤمنوا أنهم سيحققون ذواتهم من خلال عملهم. إن المفهوم المثالي الذي يدفعنا إلى العمل حدّ الاحتراق النفسي هو الوعد بأنك إن عملت بجدّ فستعيش حياة طيبة، والأمر لا يتعلق بالراحة المادية فحسب، بل بالحياة الكريمة اجتماعيًا وبأن تكون شخصية أخلاقية ذات غاية روحية. 

إن الاحتراق النفسي سمة من سمات عصرنا، لأن الفجوة بين تصوّراتنا المثاليّة المشتركة عن العمل وواقع وظائفنا أصبحت أكبر مما كانت عليه في الماضي.

لقد أردت أن أكون أستاذًا جامعيًا لأنه بدا لي أن أساتذتي الجامعيين ينعمون بحياة جيدة؛ فقد كانوا أشخاصًا موضع احترام وتقدير، ولعملهم غاية نبيلة وواضحة تتمثل في اكتساب المعرفة ونقلها إلى الآخرين. لم أكن أعرف شيئًا عن حيواتهم خارج قاعة المحاضرات أو عن شياطينهم الخاصّة التي صارعوها. في النهاية اضطُر اثنان منهم إلى إيجاد وظائف جديدة بعد حرمانهم من تثبيتهم الجامعي، ومات آخر بنوبة قلبية بعد سنوات قليلة من استلامه منصبًا إدرايًا رئيسيًا. 

لم أربط بين سوء حظهم وطموحاتي المهنية؛ كيف كان لي أن أفعل ذلك؟ كان مغشيًا على بصري بالوعد الأمريكي؛ إن حصلت على النوع المناسب من العمل، فإن ذلك سيُتْبَعُ بالنجاح والسعادة المؤكدين. 

لكن هذا الوعد كاذب في أغلب الأحيان، إنه ما أسماه الفيلسوف أفلاطون بـ«الكذبة النبيلة»، أي الأسطورة التي تسوّغ التسوية المؤسِّسة للمجتمع، وقد اعتقد أفلاطون أنه إن لم يصدق الناس تلك الكذبة، فسيسقط المجتمع في حالة من الفوضى. ثمّة كذبة بعينها تجعلنا نؤمن بقيمة الكدّ في العمل، فنحن نكدّ لزيادة مكاسب أرباب العمل، ومع ذلك نقنع أنفسنا بأننا نفعل ذلك لنحقق أقصى درجة من درجات الخير. نأمل أنّ العمل في النهاية سيفي بوعوده، ويدفعنا الأمل إلى بذل ساعات العمل الإضافي واستلام المشروع الإضافي بينما نعيش دون زيادة مالية ودون الاعتراف بشقائنا الذي نحن في حاجته.

قدّيسو العمل: جنود الرأسمالية الأوفياء 

يمكن القول إن الكدّ في العمل أكثر قيمة يقدّرها المجتمع الأمريكي. ففي استطلاع أجراه مركز (Pew Research) سُئِلَ فيه الناس بمَ يصفون شخصياتهم، أجاب 80% من المُستَطْلَعين بأنّهم «يعملون بكدّ»، ولم تجذب أيّ صفة أخرى ردًا إيجابيًا قويًا مثل هذه الصفة، ولا حتّى «متعاطف» أو «مُتقبّل للآخرين». فقط 3% من المستطلعين وصفوا أنفسهم بالكسالى، إضافة إلى رقم -عديم الدلالة إحصائيًا- حدّد فئة من المُسْتَطْلَعين على أنهم «كسالى بشدّة».

نعرف جميعًا أنّ بيننا بعض الكسالى بطبعهم، لنفكّر بزملائك، كم من بينهم متهرّبون من العمل؟ كم منهم سيصفون أنفسهم بأيّ شيء عدا أنهم متهربون من العمل؟ فنحن لا نكدّ جميعًا في العمل طوال اليوم، ولا نجهد متعرّقين بين التقارير ومقابلات العملاء، لكن ذلك ما نقوله لأنفسنا: نكدّ في العمل، لأنّنا نعرف أنّ من المفترض بنا التفكير بأنفسنا بتلك الطريقة.

بحسب روح العمل الحديث، فإنّ الكرامة والشخصيّة والغاية من العمل متاحة جميعها للعمّال إن هم فقط اندمجوا مع وظائفهم. وثمّة افتراض يقول إنّ اندماج الموظّف بوظيفته يحقق فائدةً للمخرَج النهائيّ. استطلعت شركة غالوب آراء العمّال عن «الاندماج» مع وظائفهم، وهي تصف العاملين المندمجين بمصطلحات بطولية تصل حدّ التقديس: 

«الموظفون المندمجون أفضل زملاء العمل، إنهم يتعاونون لبناء منظمة أو مؤسسة أو وكالة، هم وراء كل شيء جيد يحدث هناك. هم إمّا منخرطون في شيء ما، أو متحمسون لشيء ما، كما لديهم التزام تجاه عملهم. إنهم يعرفون مجال وظائفهم ويبحثون عن طرق جديدة أكثر كفاءةً لتحقيق المخرجات. إنهم ملتزمون نفسيًا 100% تجاه وظائفهم، وهم الوحيدون الذين يجلبون عملاء جددًا في أيّ منظمة يكونون فيها». 

«ملتزمون نفسيًّا 100% تجاه عملهم؟»، من لديه مثل هذا الالتزام؟ 

وفقًا لغالوب، فإن حوالي ثلث عمال الولايات المتحدة لديهم مثل هذا الالتزام. وبالنسبة للمدراء الذين يقبلون نتائج استطلاع غالوب، فإنّ الثلثين المتبقيين من غير المندمجين مع وظائفهم يعتبرون مشكلة جديّة. يدّعي أحد كتّاب الأعمال أنّ الموظّفين غير المندمجين بوظائفهم يتسببون بزيادة التكلفة على أرباب العمل بنسبة 34% من رواتبهم، بسبب تغيّبهم الدائم وفقدانهم الإنتاجيّة. بينما يصفهم آخر بأنّهم «قتلة صامتون». كما تحذّر غالوب من أنّ العمال غير المنتجين والقانعين بأنفسهم قد يكونون مختبئين دون أن يُلاحَظوا في الإدارات العليا، وتحذّر من أنّ غير المندمجين من ذوي التأثير قد يدمّرون وقت الآخرين وإنجازاتهم. إذ تقول: «أيًا كان ما يفعله المندمج مع وظيفته، يعمل غير المندمج المؤثّر على تقويض أفعاله». باختصار، إنّهم أشرار عازمون على تقويض مهمّة أبطالنا. 

إنّ هذه الرطانة البلاغيّة ليست مجرّد خطابة سخيفة تثير الضحك، بل تنطوي على لا إنسانية أيضًا. الحقيقة هي أن العمال الأمريكيين من أكثر العمال اندماجًا مع وظائفهم مقارنة مع أيّ دولة غنية أخرى، استنادًا إلى معايير غالوب نفسها. في الواقع، قد تقارب درجة اندماجهم الحدّ الإنساني الممكن للاندماج. في النرويج مثلًا، معدّل اندماج العمال هو نصف مثيله في الولايات المتحدة، مع ذلك يعدّ النرويجيون من بين الأكثر غنىً وسعادة على وجه الأرض. 

لكن ثمّة طريقة تفكير مختلفة؛ فالعاملة غير المندمجة بعملها ليست كذلك بالضرورة لمعاناتها من الاحتراق النفسيّ، قد تكون ببساطة وجدت طريقة لتقريب تصوّراتها المثالية عن العمل من الواقع، وربّما تكون فعلت ذلك من خلال تحجيم توقعاتها عن العمل وإبقائها منخفضة نسبيًا. فإن كان التزامها النفسيّ تجاه العمل يبلغ 80% فقط، لكنها مع ذلك تتمتع بدون شك بكفاءة معقولة، فأين المشكلة في ذلك؟

الرأسمالية «كونًا متوحشًا»

ماذا عمّن يشعرون بأنهم يحققون ذواتهم من خلال العمل؟ بعض أصدقائي من الأطبّاء والمحرّرين وحتّى الأساتذة الجامعيين يكدّون في عملهم ويتألقون حبًا فيه. ويبدو أن بعض المهن، مثل الجراحة، تشجع على التألّق أكثر من غيرها. رغم أن جميع الأطباء عرضة للاحتراق النفسيّ، فإن الجراحين لا يكسبون فقط أعلى الرواتب الممكنة من بين الموظفين، بل ويحققون أيضًا مستوى مرتفعًا من الرضى الوظيفيّ وجرعات عالية من المعنى؛ فعندما يتراجعون للحظة ويفكرون في ما يفعلونه، لا بدّ أنّهم يشعرون بالرضا عن عملهم. 

لكنّ الاندماج في العمل لا يتعلّق بالتراجع للحظة، بل بالانغماس الكلّي فيه. فعملهم يكاد يكون أقرب إلى تجربة تدفّق نفسية عندما يجرون عملية جراحية، مثلما وصفهم عالم النفس ميهالي كسيسنتميهالي، قائلًا إن أولئك الذين يدخلون في حالة نفسية من التدفّق يُسْكتون حاجاتهم الجسديّة والعالم من حولهم، متخلين عن النوم والطعام بينما هم يفعلون شيئًا يبدو جيدًا في حدّ ذاته. إنها حالة من الاندماج التي يسعى مصمّمو ألعاب الفيديو إلى تنميتها لأنها تجعل التوقف عن اللعب أمرًا صعبًا. 

إن المفهوم المثالي الذي يدفعنا إلى العمل حدّ الاحتراق النفسي هو الوعد بأنك إن عملت بجدّ فستعيش حياة كريمة اجتماعيًا وستكون شخصية أخلاقية ذات غاية روحية.

لكن كسيسنتميهالي يعتقد أن من الأسهل أن تحدث حالة التدفق هذه في العمل، ففي كتابه: «التدفّق: علم نفس التجربة المثلى»، يشير الكاتب إلى عامل لحام يدعى جوي كرايمر، كمثال عن الشخصية جوانيّة الغاية (Autotelic personality) وهي الشخصية القادرة على الدخول بسهولة في حالة من التدفّق خلال العمل، الحالة التي تصبح في النهاية غاية في حدّ ذاتها. كان جوي، الذي لم يكمل تعليمه بعد الصف الرابع، قادرًا على إصلاح أيّ شيء في معمل السكك الحديدية حيث كان يعمل. اعتاد جوي على مطابقة نفسه مع قطعة المعدّات المكسورة لكي يتمكّن من إصلاحها، ذلك أنه حوّل مهمّات عمله إلى تجربة جوّانيّة الغاية، فكانت حياته «أكثر إمتاعًا من حياة أولئك الذين استسلموا للحياة وعوائق الواقع القاحل التي يشعرون بعدم قدرتهم على تغييرها». 

اتفق زملاء جوي على أنه لا يمكن الاستغناء عنه، وادّعى رئيسه أن المصنع كان ليتصدّر الصناعة لو كان لديه فقط بضعة رجال مثل جوي، ورغم موهبته النادرة، إلا أن جوي كان يرفض الترقيات. 

الوعد بإنتاجيّة أكبر دون المزيد من التكاليف؛ هذا هو السبب وراء جاذبيّة مفاهيم مثل التدفق والاندماج بالنسبة لإدارات الأعمال في هذا العصر ما بعد الصناعي. إن الموظفين عبء وفقًا لمذهب العمل الحالي؛ فتوظيف شخص إضافي مخاطرة. إذن، لماذا لا نرى إن كنا نستطيع استخراج قليل من الجهد الإضافي من الموظفين الحاليين؟ ولماذا لا نقنعهم من خلال الاستطلاعات وورشات العمل والكتب الأكثر مبيعًا في المطارات، أنهم سيكونون سعداء لو أسلَمُوا أنفسهم كليًا لوظائفهم؟ إضافة إلى أنهم سوف يصنفون، مثل جوي كرايمر، من بين المباركين؛ جماعة قدّيسي العمل. 

من الصعب لأيّ موظف في عام 2022 أن يعرف إن كانت قيمته لرئيسه تشبه قيمة جوي بالنسبة لرئيسه؛ فالموظفون الجيدون يمكن الاستغناء عنهم دون سابق إنذار إن لم يعُدْ بقاؤهم جزءًا من مصلحة الإدارة. والنظام الذي يقدّر موظّفيه المندمجين يخلق أيضًا القلق الذي لا يمكن التغلب عليه إلا من خلال المزيد من العمل المكثف. العلاج هو نفسه السمّ؛ من أجل أن نخفّف من قلقنا نعمل لوقت أطول بدون مكافأة عادلة، بدون استقلالية وعدل وروابط بشريّة، وفي تناقض مع قيمنا، فنصبح منهكين ومتشائمين وساخرين وعديمي الفعالية. 

يشكّل قلق العمل جزءًا أصيلًا من الرأسمالية، تلك هي الفرضية الأساسية في كتاب ماكس فيبر «الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة» (1905)، والتي لا تزال حتى اللحظة تعبّر بشكل مثالي عن العقلية التي تحدد أخلاقيات العمل اليوم. يُظْهِرُ فيبر كيف تمكّن الأوروبيون البروتستانت من خلق نموذج تفكير بالعمل والمال والكرامة الشخصية، لا نزال حتى اليوم غير قادرين على الفكاك منه، إنه «قفصنا الحديدي». 

يجادل فيبر أن الأخلاق البروتستانتية مشتقة من لاهوت جون كالفن، المصلح المسيحي الذي عاش في القرن السادس عشر واشتُهرَ بمذهبه القدريّ، المذهب الذي يعني أن الله يختار، أو «يَنتخبْ» بعضًا من الأشخاص للخلاص، في حين يقَدِّرُ الموت الأبدي للبقية، ووحده الله يعرف من اختِيرَ ومن لم يُختَرْ، لكنّ البشر، بطبيعة الحال، يريدون أن يعرفوا مصائرهم. 

ثمّة كذبة بعينها تجعلنا نؤمن بقيمة الكدّ في العمل، فنحن نكدّ لزيادة مكاسب أرباب العمل، ومع ذلك نقنع أنفسنا بأننا نفعل ذلك لنحقق أقصى درجة من درجات الخير.

لا تكفي الأعمال الخيّرة وفقًا للاهوت الكالفيني لجلب الخلاص، لكنها قد تكون علامات على الانتخاب، أي أن مُنْتَخَبي الله سيؤدون أعمالًا خيّرة بسبب مكانتهم المباركة. فإذن، إن كنت تشعر بالفضول حول ما إن كنت منتخبًا، فافحص أعمالك؛ هل هي صالحة أم طالحة؟ ولتتأكد من انتخابك عليك إذن التأكّد من إنتاجيّتك، من أنك تُثري نفسك ومجتمعك من خلال العمل. 

رأى فيبر الرأسمالية «كونًا متوحشًا»، ونظامًا اقتصاديًا وأخلاقيًا شاملًا، وأحد أروع الأنظمة التي أنشأها البشر. نحن الذين نعيش في هذا النظام بالكاد نستطيع رؤية ذلك، فنحن نفكّر بأعرافه وكأنها بديهية، كأنها الهواء الذي نتنفسه. كل شيء نفعله، من الذهاب إلى الروضة الصحيحة وحتى العمل الشاق الذي سيمكّننا من الحصول على الرعاية الطبية ونحن على سرير الموت، نفعله لأن أحدًا ما في مكان ما يعتقد أن بإمكانه جني المال من وراء أفعالنا هذه. يفرض الكون الرأسمالي الخيار عليك؛ تبنّ أخلاقياته، أو اقبل بالفقر والاحتقار. 

لم يكن الأكاديمي فيبر على صلة بأي تجارة صناعية، لكنه كان عالقًا في القفص الحديدي مثله مثل أي رجل أعمال. فقد أمضى قبل كتابته «الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية» خمس سنوات يصارع فيها «استنزافًا عصبيًا»، ومرّ بحلقات عدة من التدريس والبحث المكثفين يتبعهما انهيار جسدي وعصبي، وفترات علاج وتغيب لاستعادة نفسه، قبل أن يعود مرة أخرى إلى العمل وتتدهور -حتمًا- حالته مرة أخرى.

خلال تلك الفترة، كتبت زوجته ماريان، أنه «كان عملاقًا مقيدًا تحاربه الشياطين والآلهة الحاسدة». كان سريع الانفعال مكتئبًا ويشعر أنه عديم الفائدة، وأصبح أيّ عمل، حتى قراءة ورقة أحد طلابه، عبئًا لا يطاق». في النهاية حصل فيبر على إجازة غياب لمدة عامين من الجامعة، واستقال بعدها ليصبح أستاذًا مساعدًا تربطه صلة متقطعة بالأكاديميا وعمره 39 عامًا.

أنا لست فيبر، لكني أستمدّ بعض الشجاعة الشخصية من قصته؛ فانهياره المهنيّ لم يكن النهاية، فبعد استقالته من عمله تمكن من كتابة عمله الأكثر تأثيرًا.

في القفص الحديدي إلى الأبد

علمانيّو القرن الـ21 من سكّان الدول الغنية لا يُقلقُهم كثيرًا انتخاب الربّ لنا من عدمه، ورغم ذلك لا نزال عالقين في القفص الكالفيني. حريصون على أن نُظْهرَ لأرباب العمل المحتملين، ولأنفسنا أيضًا، أنّنا قدّيسو عمل، وحالة القداسة هذه مجرّدة مثلها مثل الانتخاب الإلهي، صفة لا يمكن أن نَسِمَ أنفسنا بها، بل نأمل أن يلاحظها الآخرون فينا.

وعندما يطفح قلقنا بشأن حالتنا، نعود إلى تراث ثقافتنا الدينية للحصول على البلسم؛ العمل الشاقّ المنضبط. مثلًا، تروي تريستين لي، وهي شابة بريطانية من جيل الألفية تعمل في العلاقات العامة، قصةً مألوفة للغاية عن كيف طحَنتْها ساعات العمل الطويلة، وقلة النوم، وانعدام وقت الفراغ الحقيقي، ودفع الإيجار المكلف: «لقد ألقيت بنفسي قلبًا وروحًا في العمل، كنت مهووسة وبشدة للوصول إلى مستويات نجاح ملحوظة وتحقيق أهدافي المالية إلى درجة أنني نسيت كيف أستمتع بالحياة»، وتقول إنها شعرت كما لو أن «لديها شيء تريد إثباته، ولكن لمَنْ؟»، لنفسها، كان سيجيبها فيبر. 

يتردّد صدى لاهوت القرن السادس عشر الكالفيني في تجربة لي في القرن الـ21، فقد استوعبت أن حكم المجتمع الشامل عليها سيقدّرها بقدر ما تعمل، لذلك شعرت بالحاجة إلى طمأنة نفسها من خلال التأكيد على قيمتها. لكن من دون وجود ضمانات كافية؛ فإنجازاتك في أيديولوجيا العمل الحالية قليلة الأهمية بالمقارنة مع جهدك الدائم لتحقيق الإنجاز التالي.

«ما الغاية من هذا كلّه؟» تسأل لي، وتتابع: «متى يتوقّف الإلحاح المرهق؟ متى أصل إلى شعور بالرضى الذاتي الذي يجعلني أفكر: اللعنة، أنا حقًا فخورة بما حقّقته وبالمدى الذي وصلت إليه؟». 

حسنًا، الإجابة هي أنّنا لن نصل أبدًا إلى اللحظة التي نقول فيها شيئًا كهذا. هذا ما يعنيه أن نكون في قفص حديديّ.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية