عن السبّ كفعل احتجاجيّ

الثلاثاء 05 تشرين الثاني 2019
صورة لبعض الشعارات التي عرفتها الانتفاضة اللبنانية.

نالت الانتفاضة الشعبيّة اللبنانيّة المستمرّة منذ السابع عشر من تشرين الأوّل قدرًا كبيرًا من المتابعة والتفاعل العربيّ معها عبر وسائط الاتصال الاجتماعيّ، كما فتحت مجالًا للجدل والأسئلة ومحاولات الفهم حول بعض ملامح الاحتجاجات وحول موضوعات متنوّعة أثارتها فعاليّات الحركة الاحتجاجيّة ومظاهرها.

إحدى هذه الموضوعات كانت لغة الاحتجاج نفسها، لا سيّما صيغ السبّ والشتائم التي طالت العديد من السياسيّين اللبنانيّين وشخصيات شهيرة داعمة للطبقة الحاكمة أيضًا. وقد انتشرت مقاطع فيديو وهتافات ولافتات احتجاجيّة من قلب الحراك اللبنانيّ أمثلةً لهذه الشتائم، وتحوّلت إحداها، تحديدًا تلك الموجّهة ضد وزير الخارجية اللبنانيّ، جبران باسيل، إلى صيحة مُغنّاة تتردد بين أوساط المتظاهرات والمتظاهرين، كما باتت محلًّا للتنويع عليها ولابتداع طرق جديدة لقولها والهتاف بها إمعانًا في «مجاكرة» أحد رموز السلطة ورفضًا وتحديًّا لصلفه واستعلائه.

وبينما لاقت ظاهرة السبّ هذه اهتمامًا عامًا، ارتكز الجدل بصفة خاصّة على تلك الشتائم التي تُعتبر بذيئة ونابية، خاصًّة أنّ من بينها أيضًا شتائم ذكوريّة متداولة تحقّر المرأة وتميّز ضدها، كتلك المسبّة الشهيرة التي تشتم الرجل بالإشارة إلى فرْج أمّه

وتُظهِر التعليقات حول هذا الملمح من الاستخدام الاحتجاجيّ للشتائم ثلاثة اتجاهات، فمن ناحية، ثمّة رفض مبدئيّ لدى العديد من المعلّقات والمعلّقين للسبّ وللبذاءة ولاستخدامهما في المقولات الاحتجاجيّة وفي المجال العام عامّة، ويرى قسمٌ آخر أنّ الشتم في الفضاءات العامّة وفي السياق الاحتجاجيّ كأداة تعبيرعن الغضب مقبولٌ بدون شروط، فيما أبدى البعض قبولًا للسبّ كمبدأ، مع رفض استخدام المتظاهرات والمتظاهرين للمسبّات الذكوريّة بداعي مراعاة «الصوابيّة السياسيّة».  

السبّ كممارسة لغويّة اجتماعيّة

يُعرَف السبّ في كلّ الثقافات، وغالبًا ما يرتكز على ارتباطه بالتابوهات، الدينيّة والجنسيّة وغيرها، وقد شكّل موضوعًا للبحث من مداخل متعددة، تاريخيّة وفلسفيّة ونفسيّة، وتناولت الدراسات وظائفه، وسماته اللغويّة، وارتباطه بمتغيّرات أخرى كالجندر والطبقة والعمر، ضمن مباحث أخرى.

يعزو الفيلسوف جويل فاينبرج[1] القوة التعبيريّة للألفاظ البذيئة إلى «التوتّر الذي ينطوي على شبه مفارقة بين قوّة التابوهات والاستعداد العام لعدم الانصياع»، أي أنّ المفارقة، كما يوضّح فاينبرج، تأتي من أنّ وظيفة مثل هذه التعبيرات تعتمد بالأساس على خرق المحرّمات، وكأنّ الغرض الرئيس من وجود التابوهات هو خرقها لغايات التعبير عن الألم والانفعال والازدراء ولتوجيه الإهانة وغيرها.

وبحسب ربيكا روتش[2]، يعمل السبّ من خلال ما تسمّيه «تصاعد الإساءة»، إذ لا تتمثّل كراهة  الشتائم وألفاظ السبّ عامة في المعنى الحرفيّ للكلمات المتضمّنة فيها، إنّما فيما تعبّر عنه ويُقصد بها من انفعالات ومشاعر. وتقصد روتش بـ«تصاعد الإساءة» تلك الاستدلالات التي تتكوّن تجاه سلوك لغويّ غير مرغوب به، مثل السبّ، من حيث نيّة المتكلّم/ ة والقصد من وراء سلوكه/ ا. بمعنىً آخر، فإنّ ما يوحي به فعل السبّ من تقصّد للإساءة هو ما يجعل السبّ فعّالا ومسيئًا ومحظورًا في حد ذاته، وليس مجرد ارتباطه بالإشارة للمحرّمات الاجتماعيّة هو ما يجعله كذلك، ولا أيّة سمات صرفيّة أو دلاليّة أو الوقع الصوتيّ لبعض مفردات السبّ، مثل تتابع الأصوات السريعة والحادة، كما اقترح البعض. لذا ترى روتش أنّ تفسير بغض الشتم وفاعليّته كإساءة يجب أن يتجاوز النظر إلى الألفاظ ذاتها، حيث إنّ القدر الذي تسبّبه عبارة سبّ بعينها من إهانة  قد يتغيّر من سياق لآخر تبعًا لتغيّر السياق الاجتماعيّ والتاريخيّ.    

يتأثر فعل السبّ بعدة عوامل سياقيّة، كما يشير البحث التداوليّ في الموضوع، ومنها موضوع الحديث والنوع الاجتماعيّ والمكانة الاجتماعيّة لأطراف الحديث، والعلاقة بينهم/ نّ. فيما يخصّ علاقة السبّ بالجندر مثلًا، ثمّة فكرة شائعة في المخيال الشعبيّ العام أنّ السبّ مجالٌ رجوليّ، كما تفيد دراسات بأنّ الرجال يميلون للشتم أكثر من النساء، وثمّة معطيات بحثيّة[3] تشير إلى أن «الرجال على الأرجح يسبّون في العلن أكثر من النساء، ويستخدمون عبارات نابية أكثر من النساء، وأنّ كلًّا من النساء والرجال مُرشّحون للسبّ في سياقات الأحاديث التي تتضمّن جنسًا واحدًا من المتحدّثين/ ات أكثر من السياقات مختلطة الجنس». يتماشى هذا الطرح مع ما أشارت إليه الدراسات الكلاسيكيّة في علم اللغة الاجتماعيّ وفي مبحث اللغة والجندر من أنّ النساء بصفة عامّة تميل إلى استخدام صيغ الكلام المعياريّة أكثر من الرجال، ومع ما تعكسه هذه الظواهر من ارتباط اللغة كممارسة اجتماعيّة بعلاقات القوّة بين الرجال والنساء ومن تمظهرات لغويّة لهذه العلاقة في المجال العام.  

لكن ثمّة دراسات أخرى تفيد بنتائج مغايرة وبتحوّلات في أنماط استخدام اللغة.[4] وتشير بعض الأبحاث إلى أنّ النساء لا تسبّ بقدر أقلّ من الرجال، وأنّ الاختلاف بين الجنسين لا يتمثّل في معدلّ السبّ وإنّما في سياقات استخدامه وفي نوع الكلمات المستخدمة. كما يبدو أنّ أنماط استخدام اللغة على مواقع التواصل الاجتماعيّ وفي ظل التحوّلات الرقميّة الكبيرة تشير إلى استخدام النساء للشتائم بقدر أكبر ممّا مضى، خاصّة من قبل المراهقات والشابّات، وفي هذا السياق، بيّنت دراسة لمايك ثلويل[5] عدم وجود فارق في استخدام عبارات السبّ القويّة على موقع (MySpace) بين المراهقات والمراهقين في المملكة المتحدة، ممّا يشير بحسبه إلى حدوث تغيّرات كبيرة في التوقّعات والأدوار الجندريّة في السياق البريطانيّ نحو أنماط متماثلة جندريّا في استخدام اللغة.

السبّ كفعلٍ احتجاجيّ غير مُجندَر

على ضوء ما يُعرف من بغض السبّ بصفة عامّة، وفي ظلّ ما بيّنته دراسة الموضوع من حيث أبعاده اللغويّة والاجتماعيّة، من الممكن النظر إلى فعل السبّ في السياق الاحتجاجيّ اللبنانيّ كأداة احتجاج على السلطة الأبويّة بمعناها الأشمل، فهو من ناحية فعل احتجاج على السلطة السياسيّة ورموزها بمقابلة بذاءة الفعل السياسيّ ببذاءة الفعل اللغويّ، وعنف الفعل السياسيّ بعنف اللفظ، وبإنزال السياسيين منازل الأنداد والخصوم باستخدام الهتافات والصيحات التي يكرهونها، لا لأنّها تحتجّ على سلطتهم فحسب، لكن لأنّها تحتجّ عليهم أيضًا بما يكرهون من أفعال القول، ومن دون علامات توقير، وبكلام الشارع الاعتياديّ العفويّ، غير الخاضع للتنميق والتجميل والتهذيب، وفي أكثر صوره مباشرًة وخشونًة وابتذالًا.  

وإن كنّا نفعل أشياء بالكلمات بحسب الفيلسوف الإنجليزيّ جون أوستين،[6] وبحسب نظرية جون سيرل عن «أفعال الكلام»،[7] فيمكننا النظر لعبارات السبّ هنا بما هي أداة تجرح وتهدم وتقاوم الذات السياسيّة المتسلّطة والمنتفخة وما تحاول أن تصنعه حولها من هالات من التقديس، وبما تضعه بينها وبين الناس من فوارق ومسافات عبر الاستعلاء والاستقواء بسلطاتها.  

ومن ناحية أخرى، يمكن النظر لفعل السبّ في السياق الاحتجاجيّ وللإخلال بقواعد الصحّة والصواب و«التهذيب» الكلاميّ كأداة لخلخلة السلطة الاجتماعيّة وما تخلق من تراتبيّات، طبقيّة وجندريّة، وكطريقة لإعادة ترتيب الأولويّات في المجال العام، حيث الفساد والقمع والفشل «بذاءات» قائمة وأكثر خطورة وأكثر استحقاقًا للنقد والتصويب والمناهضة.    

فضلًا عن ذلك، ربّما تشكّلت إحدى صور فكّ جندرة فعل السبّ في المجال العام باستخدام المتظاهرات غير المتحفّظ له (وهذه ليست أوّل مرّة في السياق الاحتجاجيّ اللبنانيّ)، حتّى مع استخدامهنّ لذات الشتائم الذكوريّة الشائعة، وذلك، فيما يبدو، على سبيل كسر واحتقار قواعد اللياقة الجندريّة والسياسيّة قبل إعادة  كتابتها.

كما أوجد استخدام الشتائم الذكوريّة مجالًا لابتكار وللاستخدام الفعليّ لبدائل لها، حيث اقترح بعض المتظاهرين والمتظاهرات السبّ باستخدام أعضاء الذكور الجنسيّة بدلًا من الاستخدام التقليديّ لأعضاء أنثويّة، أو التناوب بين الاستخدامين التقليديّ والمستحدث، في محاولةٍ لتفادي ولفت النظر لتحيّز الشتائم الدراجة ضد النساء. لكنّ هذه الصيغ المغايرة، وإن كانت تهدف للشتم بطرق مستحدثة تحاول فكّ جندرة مفردات السبّ وعباراته، تقع مجدّدًا في فخّ الخطاب الذكوريّ باستبطانها لذات التصوّر الإشكاليّ عن الجنس كفعل فحوليّ عنيف وكأداة إخضاع وهيمنة على النساء، وما تكرّسه هذه التصوّرات والاستعارات من أنماط من العنف ضد النساء ومن تحقير وتنميط، صريح أو ضمنيّ، للفعل الجنسيّ خارج إطار الغيريّة الجنسيّة.    

رغم ذلك، قد يكون فيما يدور حاليًا من نقاش حول ذكوريّة عبارات السبّ وتحيّزها الجندريّ وحول بدائلها خطوة أولى على طريق أشكلة السباب وغيره من الممارسات اللغويّة وعلاقتها بالسلطة الاجتماعيّة والسياسيّة، إذ قد يقود تحوّل السؤال في خضّم الحراك اللبنانيّ الاحتجاجيّ من «لِمَ نسبّ؟» إلى «كيف نسبّ؟» إلى تثوير أدوات الاحتجاج السياسيّ وتثوير لغته أيضًا.  

على هذا النحو، يبدو السبّ في سياق الاحتجاجات وفي الحيّز العام أحد طرق مساءلة وفضح الممارسات السلطويّة على اختلاف صورها، ولعلّ المتظاهرات والمتظاهرين في لبنان أرَدن وأرادوا للسبّ أن يكون أحد أدوات الثورة على «بيّ الكل» وعلى كلّ الآباء، آباء السياسة والاجتماع واللغة.

  • الهوامش

    [1] Feinberg, J. (1983). Obscene words and the law. Law and Philosophy, 2(2), 139-161. doi: 10. 2307/
    3504792

    [2] Roache, R. (2016). Naughty words . Aeon. Retrieved from https://aeon.co/essays/where-does-swearing-get-its-power-and-how-should-we-use-it

    [3]Jay, T., & Janschewitz, K. (2008). The Pragmatics of swearing. Journal of Politeness Research, 4, 267-
    288. doi: 10.1515/jplr.2008.013

    [4] Gauthier, M., & Guille, A. (2017). Gender and age differences in swearing: A corpus study of Twitter. In K. B. Fägersten & K. Stapleton (Eds.), Advances in swearing research: New languages and new contexts (pp. 137-156). Amsterdam/ Philadelphia, PA: John Benjamins.

    [5] Thelwall, M. (2008). Fk yea I swear: Cursing and gender in MySpace. Corpora, 3(1), 83-107. http://dx.doi.org/10.3366/e1749503208000087

    [6] Austin, J. (1962). How to do things with words. Oxford: Clarendon Press

    [7] Searle, J. (1969). Speech acts: An essay in the philosophy of language. London: Cambridge University Press.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية