من مدينة الشاحنات إلى قرية الدجنية: رحلة بسطات إربد مع سوق الجمعة

أحد الباعة في سوق الجمعة في إربد عام 2018. تصوير مؤمن ملكاوي

من مدينة الشاحنات إلى قرية الدجنية: رحلة بسطات إربد مع سوق الجمعة

السبت 19 حزيران 2021

مثل معظم محافظات المملكة، تشهد إربد منذ سنوات إقامة ما يعرف بسوق الجمعة. وقد تغيّر مكان السوق على مرّ السنين أكثر من مرّة، ومعه تنقل روّاده. يتذكرّه الباعة في البداية في شارع فوعرا، ثم في مجمّع الأغوار، قبل أن ينتقل منذ 15 سنة تقريبًا إلى داخل مدينة تصليح الشاحنات في إربد، والبعيدة عن أقرب تجمّع سكاني حوالي ثلاثة كيلومترات. وخلال هذه السنوات، ظلّ السوق المنفذ الأكبر لتصريف بضاعة أصحاب البسطات التي تنتشر في المدينة باقي أيّام الأسبوع. والسوق كذلك يوم البيع الوحيد لتجّار الطيور، ومكانٌ لشراء الحاجيات بأسعار منخفضةٍ من قِبل ذوي الدخل المحدود، وفرصةٌ للعثور على كل ما هو نادرٌ من البضاعة، ودومًا مكانٌ للتنزّه.

في آذار من العام الماضي، وضمن إجراءات مواجهة تفشي فيروس كورونا، أغلقت السلطات السوق بسبب الاكتظاظ الذي يشهده كل جمعة. «لو فتحنا أيام كورونا، إعرف إنه الأعداد مضاعفة في إربد بموضوع الإصابات» يقول محافظ المدينة، والمسؤول التنفيذي عن ملف كورونا فيها رضوان العتوم.

بداية حزيران الجاري، خفّفت الحكومة الإجراءات الاحترازية، وأنهت حظر
يوم الجمعة. ظن البائعون ومنهم أبو أحمد (60 سنة) أن السوق ستعود تلقائيًا، ولذا حمّل بضاعته إلى السوق، لكن سيّارات الشرطة منعت البائعين من التواجد في المكان إذ واصلت السلطات في إربد إغلاق السوق لغايات صحيّة وبيئيّة، مكرّرة وعدًا سمعه أبناء المدينة لسنوات، وهو أن تبني سوقًا آخر ببنى تحتيّة ضمن خطة متكاملة لإنشاء أسواق شعبيّة، يقول لحبر الناطق باسم البلدية ردّاد التل.

صور من العام 2018 لألبسة وعطور كانت تباع في سوق الجمعة في إربد.

خلافًا لاسمه، يبدأ السوق مع ساعات مساء يوم الخميس. ينام البائعون إلى جوار بضاعتهم إلى فجر الجمعة، أو يكلّفون بائعين آخرين بحراسة بضاعتهم لقاء دينار أو أكثر قليلًا. ويضاء شارع السوق الذي يمتد لكيلو متر واحد داخل مدينة الشاحنات ليالي الخميس إمّا بسحب الكهرباء من محالّ الميكانيك المجاورة ضمن اتفاق بين أصحاب تلك المحال والباعة، أو بإشعال النار أو عبر مولّدات الكهرباء العاملة بالوقود. والقاعدة في السوق أن من يسبق إلى بقعة ما داخل السوق يحجزها، على خلاف ما يحصل داخل سوق رأس العين في عمّان.

طوال سنوات داوم أبو أحمد، صاحب بسطة النثريات والنحاسيات، على المجيء، محمّلًا البضاعة في سيارته القديمة، مع ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة أملًا في أن يكون بيع هذا اليوم أفضل من البيع بقية أيّام الأسبوع على بسطته قرب جامعة اليرموك، «في بعض الأوقات بيكون عنده الواحد شغّيل، بدك تحط أجرة شغيل، وإذا معكاش سيارة بدك تحط أجرة [سيارة]. بعض الأوقات بتطلّع 25 لمّا يكون في حركة».


يشتري أبو أحمد الذي تقاعد من العمل على خطوط النقل البريّ بضاعته من النثريات والنحاسيّات ممن يريد الاستغناء عنها ببيته، أو حين يتوفّق بشراء كمية منها من سقف السيل بعمّان حين يزور العاصمة، ويصنّع بعضها مثل القلائد والأساور.

 

أبو أحمد، أحد باعة سوق الجمعة، خلال عمله على إعداد قلادة لبيعها على بسطته.

منذ سنوات والبلدية تعلن نيّتها إنشاء سوق متطوّر بديل عن هذا السوق، سوق بعيدٍ عن الفوضى والعشوائية، وفي مكان السوق الحالي نفسه، لكن المشروع لم يقم. عادت البلدية العام الماضي وأعلنت مواصلة إغلاق السوق لحين تجهيز السوق الجديد لكنه لم يقم حتّى اللحظة. ولا زال الباعة والمشترون في انتظار إنشاء تلك السوق.

يعطّل وجود بسطات الباعة منذ يوم الخميس أعمال بعض المحال في مدينة الشاحنات، فيضطرون إلى إغلاق أبواب محالّهم يومها، كما لا تستطيع الشاحنات الدخول للمدينة، يقول بدر مجدلاوي صاحب محل تصليح هناك. لكن مجدلاوي لا يلوم أصحاب البسطات، وإنما يضع اللوم على البلدية التي يقول إن عليها مسؤولية إيجاد الحلول من خلال تخصيص ساحة للسوق من الساحات القريبة من مدينة الشاحنات.


يتعاون مجدلاوي مثل كثيرٍ من أصحاب المحال في مدينة الشاحنات مع أصحاب البسطات، إذ جرى الاتفاق على أن يسحبوا من محله التيار الكهربائي مقابل أن يتقاسم المستفيدون دفع فاتورة كهرباء المحل الشهرية.

يلوم مجدلاوي البلدية على عدم توفيرها سوقًا مناسبًا لباعة البسطات في إربد

خلافًا لباعة البسطات يشكّل سوق الجمعة يوم البيع الوحيد لباعة الطيور الذين يستثمرون بهذه التجارة آلاف الدنانير. حاول مربو الطيور بيع طيورهم على الفيسبوك فترة حظر الجمعة، لكن المحاولات لم تكن بالمستوى، كما أخبرونا. وعندما ألغت الحكومة حظر الجمعة وواصلت البلدية منع إقامة السوق دعوا لإنشاء سوق جديدة بمكان آخر قرب جامعة العلوم والتكنولوجيا لكن المكان لم يشهد حضورًا من المشترين. 

ولذا لم يكن أمام باعة سوق الجمعة من خيارٍ غير سوق جديدٍ جرى افتتاحه نهاية الشهر الماضي في قرية الدجنيّة التابعة لمحافظة المفرق، ويبعد عن مدينة إربد حوالي 30 كيلومترًا. 

منظر عام من سوق الدجنيّة في المفرق

حمل أبو أحمد الشيّاب (42 سنة) أقفاص الحمام وخرج من بلدة الصريح في إربد إلى سوق الدجنية منذ الفجر واصطحب معه ابنه. في الساعة التاسعة لم يكن قد باع شيئًا منها، مرّ مشترٍ وفاوض على زوج حمام، لم يجادل الشيّاب كثيرًا، خفّض السعر من 30 – 10 دنانير وباعه.

يملك الشيّاب 200 زوجٍ من الحمام، يقول إنها «أنواع أصيلة» سعر الزوج منها 15 دينارًا، ويصل سعر بعضها إلى 200 دينار. وينفق على طعامها ودوائها والاعتناء بها نحو 30 دينارًا في الأسبوع.

يتخذ الشيّاب من بيع الحمام تجارة منذ أكثر من عشرين سنة، وكان البيع يوم الجمعة في إربد، يدخل عليه مبلغًا يتراوح بين 100 و120 دينارًا، يعيل بها أسرته لأسبوع. يقول الشيّاب إن كانت البلدية تريد أجرة من البائعين في السوق فلتأخذ أجرة، لكن لتفتح سوق الجمعة لمربي الحمام. «انقطعنا، إربد اثنين مليون [إنسان] وكلها فلاحين وكلها تشتغل بالحمام والجاج والحلال، إذا إحنا ما اشتغلناش وين نروح؟»

لا يصل استثمار
الشاب وسيم البدوي (24 سنة) في بيع صيصان الدجاج مثل استثمارات باعة الحمام. اشترى 2019 فقّاسة بيض بأقل من 100 دينار. يشتري البيض البلدي ويضعه فيها، ويضبط درجة حرارة الفقّاسة. وبعد خروج الصيصان ينقلهم إلى الحضانة تحت ضوء مصباح أصفر إلى أن يبلغ الصوص شهرًا فيبيعه. يبيع البدوي الصوص بدينارٍ، وقد اعتاد، قبل أزمة كورونا، أن يبيع كل جمعة بين 200- 300 صوص.

بحدود الساعة التاسعة في سوق الدجنية، لم يكن البدوي قد باع شيئًا ووقف يساعد زميله الذي يبيع الحمام. «من الصبح، زي ما هنّه، إجيت بسيارة طلب من الرمثا لهان 7 ليرات لحد الآن ولا واحد مبيوع».

يبعد سوق الدجنية عن إربد حوالي 30 كيلو مترًا

بالإضافة إلى الحمام والدجاج تنتشر أقفاص العصافير وطيور الفرّي والببغاوات والأرانب. خلال الحديث معهم، قال الباعة، الذين هم في معظمهم من متقاعدي الجيش والأجهزة الأمنية، إن المشكلة الأهم التي تواجههم هي طول المسافة للآتين من قرى شرق إربد وبعض قرى عجلون التي تبعد عن هذا السوق قرابة 50 كيلو مترًا.

يتجوّل عاكف الحراحشة في سوق الدجنية منذ ساعات الصباح الباكر مع أطفاله قادمًا من جرش، إذ نقل نزهات الصباح مع أطفاله إلى هذا السوق، ولا يستعجل في شراء حاجياته فهو يعرف أسعار السوق ومتى تنخفض من خبرة تمتد عشرين عامًا في سوق إربد، حيث يضطرّ بعض الباعة، مع اقتراب الوقت من ساعات الظهيرة، وهي موعد إغلاق السوق، لتخفيض أسعار بضاعتهم لتصريف ما تبقى منها.


يقول
التل إن البلدية تعمل على دراسةٍ تُنظّم الأسواق الشعبية في المدينة ضمن بنى تحتية ومواقع مختلفة فيما يقول العتوم إن قرار إغلاق السوق مشترك بين مديرية الصحة والبلدية والمحافظة وجاء بسبب عدم التزام مرتادي السوق بشروط الصحة والسلامة العامة «عشوائيات مخيفة واكتظاظ». 

سوق الجمعة سوق رئيسي لباعة الطيور في إربد

يمكن عدّ سوق الجمعة امتدادًا لظاهرة البيع غير المنظّم الذي تعاملت معه الحكومات طوال سنوات من باب مكافحته. وكانت إربد إلى جوار محافظات أخرى قد شهدت عدة حوادث جرّاء هذه المكافحة، دفعت رئيس الوزراء السابق عمر الرزاز إلى توجيه «جميع البلديات إلى استحداث أسواق مجانية أو بأسعار رمزية لأصحاب البسطات» والتزمت حكومته حينها «بتقديم أراضٍ من الخزينة في حال لم تتوفر أراضٍ تابعة للبلدية».

كل من قابلناهم لا يعارضون أن يكون سوق الجمعة بأماكن مخصصة وببنىً تحتيّة لقاء أجرة يدفعونها شهريًا، وهم ينتظرون، منذ سنوات، هذا السوق الموعود.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية