نبيذ بيتي

النبيذ البيتيّ في عجلون: قصة صناعة تحتضر

النبيذ البيتيّ في عجلون: قصة صناعة تحتضر

الإثنين 12 أيلول 2022

كان راتب الربضي (74 عامًا) في شرفة بيت مزرعته في عجلون، يتعاون مع أفراد عائلته في تحضير العنب لصنع النبيذ. ابناه جودت وحرب أنهيا قطف العنب، ووضعاه في أوعية بلاستيك كبيرة على أرضية الشرفة، حيث جلست زوجتاهما ريتا ودارين مع سيدة من نساء المنطقة، ينظفن العنب بإزالة الحبّات التالفة والجافة، ثم يفْرطنه من العروق التي يؤدي بقاؤها إلى إعطاء النبيذ طعمًا مرًا. وكلّما امتلأ وعاء، كنّ يتعاونّ على إزاحته إلى حافة الشرفة، حيث يقف حرب بمحاذاتها، على ماكينة «فغش» العنب الذي ينزل مباشرة إلى برميل، تمهيدًا لتخميره. و«الفغش»، كما يشرح راتب، هو دكّ العنب لكن ليس إلى درجة تؤدي إلى طحن بذوره، لأن هذا أيضًا يغيّر في طعم النبيذ.

يُقطف العنب لصنع النبيذ في الأردن خلال الفترة من آب إلى تشرين الأول، لأن مواعيد نضجه تختلف من منطقة إلى أخرى، وحتى في المنطقة نفسها يغيّر توقيت القطف في طعم النبيذ، تبعًا لدرجة نضج العنب ومستوى الحلاوة فيه. لهذا يختار كل صانع نبيذ، كما يقول راتب، التوقيت الذي يلائم النوع الذي يريد صنعه. بالنسبة له، أواسط آب من كل سنة هو موعد القطاف في مزرعته الممتدة على مساحة 32 دونمًا، وتقع على سفح جبل قلعة الربض، في منطقة الميدان غرب مدينة عجلون، بالتحديد في «خلّة سعادة». والخلّة هي التسمية «الفلاحية» للأرض السهلية الخصبة الواقعة بين جبلين. أما سعادة، بحسب الرواية التي يتناقلها أهالي المنطقة منذ أجيال، فهو مالكها القديم.

أسس راتب مزرعته منتصف الثمانينيات. استصلح الأرض التي كانت وقتها مليئة بالصخور والأشجار الحرجية، وزرعها كروم عنب، وأشجار زيتون، وفواكه، وأعشابا عطرية. واقتنى قطيع ماعز لإنتاج الألبان، واشترى فقاسات لتفريخ الدواجن. بهذا فإن النبيذ هو فقط واحد من منتجات مزرعته. وهنا يعلّق ضاحكًا: «أنا ما في دفّ إلا رقصت تحته».

وابتداءً من العام 2008، خصص راتب جزءًا من المزرعة كمكان للتخييم أسماه «خلّة السعادة»، يستقبل الزائرين للمبيت، حيث يتناولون وجباتهم من منتجات المزرعة. خلال هذه الرحلة، عاونته زوجته وأبناؤه وبناته الست. حاليًا، تفرّق أبناؤه في دروب مختلفة؛ هاجر قسم منهم إلى الولايات المتحدة، وبقي يساعده في أعمال المزرعة، جودت وحرب، اللذان ما زالا يقيمان مع أسرتيهما في منزل العائلة.

تعلم راتب صناعة النبيذ من والدته، التي تعلمته بدورها من والدتها. ويقول إن الأجيال توارثت هذه الصناعة في منطقةٍ كان صنع النبيذ في بيوتها يتم جنبًا إلى جنب مع باقي أصناف «مونة السنة» من زيت وزيتون وجميد وسمن ومربيات وزبيب وقطين. في ذلك الوقت لم تكن أنواع المشروبات الكحولية الأخرى قد دخلت حياة عامة الناس، كان هناك فقط النبيذ والعرق اللذان يصنعان في البيوت. كان العرق أقل استهلاكًا لأنه كان أغلى ثمنًا، كما أنه مشروب ثقيل بسبب ارتفاع نسبة الكحول فيه، لهذا كان شربه يقتصر على الأعراس والاحتفالات الكبرى، لكن النبيذ خفيف نسبيًا وأقل ثمنًا، لهذا -يقول راتب- كان حضوره أكبر في الحياة، فكان يُشرب في الأعياد، والزيارات وحفلات تعميد الأطفال، «كانوا يجيبوا الطنجرة، ويحطّوها، ويغرفوا منها للناس». إضافة إلى ذلك، كان النبيذ أساسيًا في الشتاء لبثّ الدفء في أجساد الناس، في منطقة تتدنى فيها الحرارة عدة درجات تحت الصفر.

العنب في مزرعة راتب الربضي. تصوير مؤمن ملكاوي.

لكن صناعة النبيذ في الأردن تذهب في التاريخ أبعد بكثير من أجداد راتب القريبين، إذ تعود آلاف السنين، إلى زمن النبطيين والرومان. ويدلّ على ذلك معاصر النبيذ الأثرية التي اكتشفت في مناطق متعددة في الأردن، منها البترا، وأم الرصاص، وخربة ياجوز[1] شمال شرق عمان، وإربد،[2] وعجلون، وغيرها. وكلها معاصر تثبت أن صناعة النبيذ في المنطقة كانت تتم على مستوى تجاري.

في الحقيقة، هناك بالقرب من مزرعة راتب واحدة من هذه المعاصر، على بعد دقائق بالسيارة توجد معصرة نبيذ حجرية محفورة في الصخر، تتكون من جرن مسطّح، في أحد جوانبه شق ضيق يقود إلى جرن عميق يُنزل إليه بدرجات. الطريقة التي اتبعها الأقدمون، كما تشرح دراسة[3] أنجزت عن معصرة أثرية في إربد، تتلخص في أن العنب كان يوضع في الجرن المسطّح، حيث يدكّه العمال بأقدامهم، مع مراعاة شروط صارمة تتعلق بنظافتهم، وحركة دخولهم وخروجهم من منطقة العصر، وكان العصير يسيل عبر الشق إلى  جرن التجميع، ثم ينقل للتخمير. كانت كمية العنب نفسها تهرس ثلاث مرات لاستخلاص أكبر قدر من العصير. كان النبيذ الأعلى جودة يصنّع من عصير العنب الذي سال من العنب الناضج بفعل ثقل أكوام العنب قبل هرسها. يتلوه، بالترتيب، النبيذ المصنع من العصرتين الأولى والثانية. أما نبيذ العصرة الثالثة فهو نبيذ رديء، كان يخصص وقتها ضمن حصص الإعاشة لعمال الإمبراطورية وعبيدها.

الآن، يمتلئ جرن التجميع بالمخلفات البلاستيكية والأغصان اليابسة، في حين تعرض جرن العصر للتخريب، إذ أنشئت وسطه حفرة عميقة مستطيلة بطنت بالإسمنت لطبخ «الزرب»، وهناك على امتداد أحد جوانبه كتلة كبيرة من الإسمنت، يقول راتب إنها بقايا الإسمنت الذي استعمل لتبطين الحفرة.

معصرة نبيذ حجرية محفورة في الصخر. تصوير أحمد زياد.

لقد توقفت صناعة النبيذ تجاريًا لفترة طويلة في تاريخ المنطقة القديم، وإن ذكرت الدراسة السابقة أن صناعة النبيذ استمرت في عصور إسلامية لاحقة، أعيد خلالها استعمال المعاصر الرومانية في المنطقة. في التاريخ الحديث، عادت صناعة النبيذ بشكل تجاري موسع في الأردن منتصف السبعينيات عندما انشأ مذيب حداد مصنعه، وتبعه مصنع عائلة زعمط منتصف التسعينيات. وحاليًا هما المصنّعان التجاريان الأساسيان له في الأردن.

لكن الانقطاع لم يعنِ توقف هذه الممارسة على مستوى الأفراد، بل ظلت جزءًا أصيلا من النمط الغذائي، بشكل أساسي للعائلات المسيحية في الأردن. وإن انحسر تصنيع النبيذ البيتي في الوقت الحاضر ليصبح مشاريع عائلية صغيرة تسوق إنتاجها ضمن دوائرها الاجتماعية، كما يفعل راتب نفسه.

أشجار العنب في مزرعة راتب الربضي. تصوير مؤمن ملكاوي.

«جميلة الجميلة»

كان صنع النبيذ واحدًا من المهارات التي تعلمها راتب من والدته جميلة، أو «جميلة الجميلة» كما يسميها في كل مرة تأتي سيرتها. لقد ترملت والدته صبية، توفي زوجها الذي كان يعمل سائقًا مع الشركة المنفذة لخط نفط التابلاين في حادث سيارة، وكان لديها رياض بعمر سنتين ونصف، وحامل براتب الذي جاء بعد وفاة والده بأربعين يومًا.

كانت سنوات أواخر الأربعينيات زمنًا صعبًا، اضطرت فيه الأرملة الشابة للكفاح من أجل إبقاء طفليها على قيد الحياة. فكانت، بشكل أساسي، تستأجر الأراضي وتزرعها بالغلال. كما كانت تبيع ما يفيض عن حاجة المنزل من منتجات تصنعها بما في ذلك النبيذ. «أمي ما عندهاش بنات، وأنا كنت عايش معها كل العمر، وكانت تعمل كل إشي قدامي». تعلم راتب منها حتى الطبخ والخياطة والتطريز، وفيما بعد، فعل مثلها واستخدم مهارات الزراعة وإنتاج الغذاء لتأمين معيشة عائلته. فهو بعد أن أنهى دراسته في مدرسة السالزيان في بيت لحم، عام 1967، لم يستطع لفقره إكمال تعليمه الجامعي كما فعل عديدون من حوله، فتقلب بعد المدرسة في عدة أعمال، إذ عمل حدادًا وسائق جرار زراعي، كما عمل لفترة معلم مدرسة لمادتي العلوم والرياضيات، إذ كان هذا متاحا في السبعينيات لحملة التوجيهي. لكنه في النهاية عاد ليستقر في الزراعة التي وجد فيها شغفه. وإضافة إلى النبيذ، ينتج الآن الجميد والسمن وزيت الزيتون والزبيب والقطّين ومربّيات المشمش والتين والدبس والخل والبندورة المجففة والصابون. كل هذا تعلمه من والدته التي عاشت معه حتى وفاتها عام 2018 عن عمر 101 سنة. وما زال يحتفظ على سطح بيت المزرعة بسريرها الحديدي الذي تسلّقته عروق دالية زرعها العام الماضي.

لقد تغيّرت مع الوقت طريقته في صنع النبيذ البيتي. والتغير الأهم كما يقول هو «تنفيس» غازات النبيذ أثناء عملية التخمير، ما يضمن إنتاج نبيذ بتأثير ألطف. على عكس النبيذ الذي كان يصنع على زمن والدته، والذي كان تناول بضعة كؤوس منه يسبب أحيانًا الصداع والشعور بالانتفاخ بسبب بقاء الغازات فيه. يشرح أنه يقوم بالتخمير على مرحلتين، تستمر الأولى ثلاثة أيام، وفيها يوضع عصير العنب مع التفل من قشور وبذور في برميل محكم الإغلاق، لكن يخرج من فتحة في غطائه بربيش ينتهي في وعاء ماء، وهو تكنيك يضمن خروج الغازات من النبيذ -والتي تظهر على شكل فقاقيع في الماء- من دون دخول أي هواء إليه يمكن أن يؤدي إلى تأكسده وتلفه. الهدف من هذه المرحلة، التي يبقى فيها البرميل في الخارج، لكن مع تغطيته ببطانية هو إعطاء القشور والبذور فرصة لأن تنفصل عن اللب، وأيضًا إعطاء المادة الملونة الموجودة في القشور فرصة لأن تمنح النبيذ لونه المطلوب. في المرحلة الثانية، يصفى العصير من التفل، ويعبأ في براميل موصولة ببربيش لخروج الغازات، وما يؤشر على اكتمال خروجها هو توقف الفقاعات في الماء. بعض مصنّعي النبيذ يبقونه في هذه المرحلة أربعين يومًا أو أكثر، بالنسبة لراتب يكون النبيذ جاهزًا بعد ثلاثة أسابيع، وفي كل الأحوال، يجب أن تتم هذه المرحلة من التخمير في مكان معتم لا تقل درجة الحرارة فيه عن 15 درجة مئوية ولا تزيد عن 35 درجة مئوية.

على أيام والدته، كان العنب «يفغش» بالأيدي، ويعبأ في «الخابية» وهي جرة ضخمة من الفخار، كانت فوهتها تغلق مباشرة بالطين وتفتح بعدها بأربعين يومًا. وكما كان صنع النبيذ واحدًا من مهارات الحياة اليومية، كذلك كان «التفخير» أي صنع الفخار الذي يخمّر ويخزّن النبيذ فيه، وكانت الواحدة تتسع 100 لتر أو أكثر. يقول راتب إن عمة والده كانت تصنع الجرار من «القحوف» وهي بقايا الفخار المستعمل المكسور، حيث تطحنه وتخلطه بـ«المْعَلّك»[4] وهو نوع من التراب يتحول عند خلطه بالماء إلى صلصال، وكان يُجلب من منطقة في الجوار اسمها «المحافير». وبعد تشكيل الجرة، كانت تُشوى في النار باستخدام وقود من روث البقر المجفف مع التبن لإكسابها الصلابة.

عملية فغش العنب. تصوير أحمد زياد.

وفي وقتٍ كان معظم الناس يسكنون في بيوت شعر أو مغارات، يقول راتب إنه لم يكن يتوفر لهم أماكن تحقق الشروط المطلوبة لتخمير وتخزين النبيذ من عتمة ورطوبة، لهذا كان كثيرون يدفنون الجرار في الأرض، ويتذكر وقتها كيف كانت الحفرة تهيأ بأن تبطن بالتراب الناعم الخالي من أي حصى قد يتسبب بكسر جدار الجرة، ثم تغلق المنطقة فوق الفوهة بتراب ناعم، ويقلب عليها صينية.

بدلًا من الفخار، يستخدم راتب الآن براميل البلاستيك، وهي البديل الرخيص والأكثر عملية من الفخار. لكن الوعاء الأكثر مثالية لتخمير النبيذ -يقول- هو البراميل المصنوعة من خشب البلوط الذي يكسب النبيذ نكهة مميزة تعلي من جودته. ورغم انتشار هذا الشجر في الأردن، ومن ذلك منطقة عجلون حيث ينبت بريًا على شكل غابات في الأحراش، فإن هذه البراميل التي تصنع في الخارج وتتطلب تقنيات عالية، مرتفعة الثمن جدًا وغير متاحة إلا لكبار المصنّعين.

البرميل الذي يجري فيه تخمير النبيذ. تصوير أحمد زياد.

في الماضي، يقول راتب، كان النبيذ يبقى في الجرار إلى أن يفرغ، حيث كان الناس ينشلون منه بإبريق، ويعيدون إغلاق الجرة سريعًا، لم يكن هناك زجاجات يفرّغ فيها النبيذ بعد جهوزه كما هي الحال الآن. «زمان كنت تلف عجلون ما تلقى قنينة»، حاليًا هو يفرغه بعد اكتمال التخمير في زجاجات، يشتري قسمًا من مصنّعي النبيذ الكبار بنصف دينار للزجاجة. ولتقليل الكلفة عليه، يشتري الزجاجات الفارغة من المحال التي تقدم الكحول بربع دينار للواحدة. يقول إن هناك زبائن يهمهم شكل التعبئة، وهناك من لا يهمه إلا محتوى الزجاجة، وللأخيرين هو ليس مضطرًا حتى لإزالة ملصق الشركة الأصلي عن الزجاجة. كان راتب يتحدث، وعلى الطاولة أمامه زجاجة نبيذ أبيض عليها ملصق «عرق حداد».

يصنع راتب في المتوسط ثلاثة براميل، سعة كل واحد 200 لتر، يبيعها «تواصي» ضمن دائرته من أقارب وجيران ومعارف، كما كوّن شبكة من الزبائن، بعضهم من خارج الأردن، تعرفوا عليه عند زيارتهم للمخيم في المزرعة. ويتراوح سعر الزجاجة بين خمسة و10 دنانير، يحدد ذلك نوع الزبون والكمية التي يشتريها.

عنب عجلوني أصلي

يصنع راتب النبيذ من دوالي عنب أسود، من صنف العنب العجلوني البلدي، كثّرها من دالية كانت على زمن جدّه، ويخلطه ببعض العنب الأبيض حتى يعطي لونًا زاهيًا. وهو يتخصص بإنتاج النبيذ «المزّ» الذي يُعصر مباشرة بعد قطفه، على عكس النبيذ «الحلو» الذي يرفع صانعوه نسبة السكر فيه بنشر العنب بعد قطفه بين أربعة أيام إلى أسبوع. لكن هناك من يضيف حلاوة «اصطناعية» بإضافة السكر أو التمر، في حين يفضل هو صنع نبيذ طبيعي تمامًا، فقط بالاعتماد على سكر العنب وحده، كما أنه لا يضيف الخميرة التي يستخدمها كثيرون لتحفيز عملية التخمر، بل يعتمد كليًا على الخميرة الطبيعية الموجودة في العنب، وتكون على شكل طبقة شفافة لامعة على قشوره. لهذا لا يغسل العنب، لأن غسله يؤدي إلى إزالة هذه الطبقة. إضافة إلى أن الماء، ولو بنسبة ضئيلة، يتلف النبيذ، «نقطة مي بتخرّب برميل». لهذا تتم عملية القطاف وقت ارتفاع الشمس، لا في الصباح الباكر عندما يكون الندى ما يزال على القطوف.

راتب الربضي يحمل قطف عنب من مزرعته. تصوير مؤمن ملكاوي.

إضافة إلى صنف العنب وتكنيك زراعته، يؤثر في طعم النبيذ نوع التربة، وهذا يعني أن الأصناف نفسها يمكن أن تنتج مذاقات مختلفة إذا زرعت في أماكن مختلفة. بالنسبة إلى راتب، أفضل المناطق لزراعة العنب في الأردن، هي التي شكّلت تاريخيًا البيئات الطبيعية لنموه. لكن الذي يحدث حاليًا، هو أن قسمًا كبيرًا من إنتاج المملكة يأتي من الصحراء حيث ينمو على الري والتسميد.

ارتفع إنتاج العنب في المملكة خلال عشر سنوات من 30 ألف طن تقريبًا في العام 2010 إلى 43 ألف طن في العام 2020. واللافت هو التغير في توزيع زراعته، إذ أنتجت محافظة المفرق ما نسبته 53% من محصول العام 2020، في حين أن مساهمتها العام 2010 كانت 21% تقريبًا. وترافقت هذه الزيادة في إنتاج المفرق مع انخفاض إنتاج معظم المحافظات الباقية، من بينها عجلون وجرش والبلقاء وإربد.[5]

خلال السنوات الأخيرة -يقول راتب- تدنت أسعار العنب كثيرًا، وهو يباع الآن على جوانب الطرق بنصف دينار للكيلو، بل إنه على مثلث عبين، في الطريق إلى مزرعته، كان هناك تجمع لسيارات بِك أب محملة بصناديق العنب تبيعه للمستهلكين بـ35 قرشًا للكيلو. وهو سعر يعني -بحسبه- أن المزارع باعه بأقل من ربع دينار، وهذا سبب إضافي للتوجه نحو صناعة النبيذ، وغيره من الصناعات التحويلية للعنب، مثل الزبيب والخبيصة والخل. إنتاج لتر من النبيذ مثلًا، يحتاج في المتوسط لكيلوغرامين من العنب.

النهاية المرتقبة للرحلة

تعلم أبناء راتب صناعة النبيذ البيتي منه، لكن هل يعني هذا أن تقليد إنتاجه سيستمر عبرهم؟ هذا سؤال ليس متأكدًا هو من إجابته، لأن صناعة النبيذ جزءٌ من مشروع إنتاجي، لا يوفر عائدًا ماديًا بما يكفي لتوظيف عمالة ثابتة، ولا يمكن أن يستمر إلا بوصفه مشروعًا عائليا على طريقة الماضي، أي على مبدأ «فيش بيناتنا مقسوم. المصلحة للكل واللقمة للكل». وهو أمر يبدي أبناؤه صراحةً عدم حماسهم للاستمرار فيه. جودت، موظف حكومي وأب لثلاثة أطفال، يأتي يوميًا للمساعدة بعد دوامه، لكنه يخطط للهجرة كما فعل أخوته من قبله. في حين ينتظر حرب الذي درس إدارة الأعمال، وهو أب لطفل رضيع، أن يحين دوره في التعيين. كلاهما يريان أن العائد من المزرعة لا يكافئ ما يوضع فيها من جهد وتكلفة. وكلاهما مقتنع بأنها لا تشكل ضمانًا لمستقبل عائلتيهما.

لقد اضطر راتب لتحجيم أعماله في المزرعة لأنه لم يعد قادرًا على النهوض بها نتيجة وضعه الصحي، فتوقف عن إنتاج الدواجن، وباع العام الماضي قطيع الماعز، واشترى هذه السنة الحليب لتصنيع منتجات الألبان. وهو لا يلوم أبناءه، فهو عندما ينظر إلى الجهد المبذول في المزرعة، والمال الذي تمّ ضخّه فيها، فإن ما يبقيه فيها ليس العائد المادي، بل الشغف.

لقد عرضت عليه أكثر من صفقة لبيع المزرعة، ويمكنه في أي لحظة بيع المكان والتقاعد، أو حتى الرحيل إلى الولايات المتحدة عند أبنائه، لكنه يرفض تمامًا، «بروح أميركا ما بتحمل أكثر من شهرين ثلاثة (..) أنا ابن هاي الأرض، وجذوري تحت البحر الميت».

  • الهوامش

    [1] Two Large Wine Presses at Khirbet Yajuz, Jordan. Lutfi A. Khalil and Fatimi Mayyada al-Nammari Bulletin of the American Schools of Oriental Research No. 318 (May, 2000), pp. 41-57. Published By: The University of Chicago Press

    [2] Ya amun Main Press From Roman to The End of Umayyad and Early Abbasid Periods in Northern Jordan. January 2015. Mediterranean Archaeology and Archaeometry. Vol.15(No3).

    [3] Ya amun Main Press From Roman to The End of Umayyad and Early Abbasid Periods in Northern Jordan. January 2015. Mediterranean Archaeology and Archaeometry. Vol.15(No3).

    [4] تنطق الكاف شينًا معطشة (تشبه ch بالإنجليزية).

    [5] موقع دائرة الإحصاءات العامة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية