«ماتوا عيالنا هون»: عن غرق الأطفال في قناة الغور الشرقية 

سعد الشطي يجلس في الموقع الذي غرق فيه ابنه محمود (9 سنوات)، وابن أخيه موسى (10 سنوات) عام 2017. تصوير محمد زكريا.

«ماتوا عيالنا هون»: عن غرق الأطفال في قناة الغور الشرقية 

الجمعة 16 تشرين الأول 2020

«كارثة بس تشوف ابنك يطلعوه جثة قدامك.. مصيبة والله»، يقول منصور البراهمة، عن لحظة انتشال جثة طفله عمار (11 عامًا)، الذي غرقَ في قناة الملك عبد الله المؤسس، أو قناة الغور الشرقية، في السابع والعشرين من حزيران الماضي.

الساعة الرابعة عصرًا، رنّ هاتف البراهمة، أو أبو عامر، أثناء عمله بالزراعة، في لواء دير علا التابع لمحافظة البلقاء، لتستفسر جارة له عن زوجته وأبنائه. «هيهم بالبيت (..) في شيء؟»، سأل البراهمة الجارة دون تعطيه ردًا واضحًا، فاستمر بعمله دون أن يفكر بشيء. لكن اتصالًا جديدًا جاءه من جاره، طالبًا منه الحضور بشكل مستعجل. «طلعت لقيت الناس كلها فازعة عند الشريعة [القناة]. حسيت أنه صاير شيء لأنه الجيران سألوني عن أولادي».

الساعة الخامسة، وصل الوالد إلى منطقة الغرق التي تبتعد نحو 800 متر عن منزله، لكنه لم يكن يصدق أن نجله غرق في القناة. أثناء عمليات البحث من قبل أهالي المنطقة والدفاع المدني، تلقى اتصالًا جديدًا من خال الطفل، يسأله عن عمار. لم تطل شكوك البراهمة، فبعد ربع ساعة على الاتصال، أخرج نجله من القناة، بعد ساعتين من غرقه. «بس طلعوه كان متغير، لونه أزرق ومتنفخ». أسأله عن والدته حين أخرجوا ابنها من القناة، فيبتسم بحسرة، ويقول: «غيبت أمه وأخذناها على المستشفى. ما عمري تخيلت ابني يغرق بالقناة».

لم يتخيل البراهمة ذلك رغم أن الحادثة تكن جديدة عليه، فقد فقدَ شقيقه قبل عشرين عامًا غرقًا في القناة ذاتها. «كل سنة بروح في القناة أطفال وشباب ولا حدا داري عنا. المفروض يكون في شيّك (شبك) مشان الناس ما تموت، ويكون في مكان الأولاد الصغار يلعبوا فيه».

منذ بداية العام الحالي، غرق في القناة، إلى جانب عمار، ستة آخرون نصفهم من الأطفال، وفق رصد «حبر». فيما بلغ عدد من الغرقى فيها في السنوات الثلاث الماضية (2017-2019) ما لا يقل عن 22 شخصًا، 16 منهم أطفال. مما يجعل السؤال حول ما يمكن فعله إزاء القناة لوقف هذه الحوادث يتكرر كل صيف.

منصور البراهمة وابنته في منزله، وجانب من قناة الملك عبد الله في منطقة دير علا.

أنشئت القناة عام 1963، بعمق ثلاثة أمتار وعرض يتفاوت بين أربعة وسبعة أمتار، وتمتد بطول 110 كيلومترات شرقي نهر الأردن، من الأغوار الشمالية، مرورًا بالوسطى، وحتى الشونة الجنوبية قرب البحر الميت. عند إنشائها، كانت تتبع لسلطة المصادر الطبيعية، حسب حديث أمين عام سلطة وادي الأردن السابق، سعد أبو حمور لـ«حبر»، وكان الهدف الرئيسي من القناة نقل مياه نهر اليرموك إلى الأغوار على امتدادها، لأغراض الري والشرب. كانت الأغوار آنذاك عبارة عن مجرد أودية، وبدأ في ذلك الوقت إنشاء قنوات الري وشبكات المياه، وإعادة تقسيم أراضي الغور على المقيمين.

ووفق تصريحات لوزير المياه الأردني الأسبق منذر حدادين، الذي ترأس وتولى ملفي الطاقة والمياه خلال المفاوضات مع «إسرائيل» عام 1994، فقد جاء مشروع قناة الغور عقب إنشاء دولة الاحتلال الناقل القُطري، الذي يعد أكبر مشروع مياه لها؛ مهمته الرئيسية نقل المياه من بحيرة طبريا، إلى المراكز ذات الكثافة السكانية، وبدأ العمل عليه مطلع الخمسينيات.

لاحقًا، أُتبعت القناة لسلطة وادي الأردن عام 1977، وفقًا لقانون تطوير وادي الأردن، وأعطيت السلطة صلاحيات القيام بأعمال التنمية الاجتماعية والاقتصادية المتكاملة في منطقة وادي الأردن. بحيث شملت مهامها تشغيل وصيانة وحماية قناة الملك عبد الله، والمحافظة على نوعية المياه فيها، وتزويد عمان بمياه الشرب.

أحذية صغيرة

لم يكن عمار وحده يواجه الغرق في القناة بمنطقة دير علا، عصر السابع والعشرين من حزيران، إذ كان برفقة الشقيقين معتز (10 سنوات) ومحمد أبو صلاح (12 عامًا)، اللذيْن نزلا للسباحة في القناة لأول مرة، حسب حديث ذويهم. «كانوا يروحوا على الشارع الرئيسي آه، يشترولي أغراض البيت، بس على القناة لا ما عمرهم راحوا»، تقول والدة الطفلين. 

استيقظ معتز في السادسة صباحًا، دعته أمه لشراء الخبز، لكنه تأخر في العودة، مما دفعها لإيقاظ شقيقه الأكبر محمد لمعرفة مكانه، وإعادته للبيت. خرج محمد باحثًا عن أخيه، لكنه تأخر هو أيضًا. حينها شعرت الأم بالقلق على ابنيها، فاتصلت بجدتهم التي تقطن بالقرب منهم، لكن دون رد. خرجت الأم من منزلها للبحث عنهما، ذهبت لملعب المدرسة، ثم بحثت في الحارة. سألت المحال في الشارع الرئيسي، دون إجابة واضحة حول مكان طفليها.

اتصلت بزوجها سليمان أبو صلاح لمساعدتها في البحث عنهما في القناة، التي تبعد عن منزلهما حوالي 700 متر. وجد الأب ثلاثة أزواج أحذية بالقرب، التقط صورة وأرسلها للأم للتأكد من أن اثنين منهما يعودان لطفليهما، ليأتي التأكيد، وتغادر زوجته مسرعةً نحو القناة. «أخذت الحفّاية (الحذاء) الثالثة، وصرت أسأل الناس لمين هاي. واحد من الأولاد قال لي إنها لعمار ابن منصور، روحت أشوفهم، وكانوا همه كمان بدوروا على ابنهم. ما كنت متخيلة إنهم ينزلوا يسبحوا بالقناة».

صورة للشقيقين معتز ومحمد، وصورة لأحذية الغرقى الثلاثة.

بدأت عمليات البحث عن الأطفال الثلاثة من قبل الأهالي قبل وصول الدفاع المدني، وهو ما اعتاد أهالي الأغوار حينما تقع حادثة غرق، إذ يبدأ الذين يعرفون السباحة بالبحث. جدة معتز ومحمد «فزّعت الناس» طلبًا للمساعدة، كما تقول الأم. وجدَ عم الشقيقين، علاء، الطفل محمد. أخرجه من النهر، محاولًا إسعافه، لكنه كان قد فارق الحياة. «محمد لقيته بعد 100 متر من مكان الأحذية. شكله باقي يحاول يسبح ويقاوم، بس حملته بين إيدي وحاولت أسعفه وما استجاب. انهرت ما قدرت (..) كان مثل ابني وإله معزة خاصة والله»، يقول علاء.

تروي الأم ما حصل، محتضنة طفلها الثالث: «صح كانوا صغار أولادي بس كانوا سندي وكل حياتي. ما تخيلت بيوم إني أفقدهم أو يكون يومهم قبل يومي. كنت أخطط أزوجهم مع بعض».

يقول رئيس قسم الأطفال في مستشفى الأميرة رحمة في إربد، الدكتور جعفر العجلوني، إنه في حالة غرق طفل، يكون إنقاذه ممكنًا خلال ما لا يتجاوز الثلاث دقائق، في حال عدم معرفته السباحة، وكلما كان الغريق أكبر عمرًا كان احتمال إنقاذه أكبر. ويضيف أن الأطفال الذين وصلوا المستشفى كحالات غرق من القناة، كانوا يصلون متوفين.

وبحسب رصد «حبر» لأعداد الوفيات الذين غرقوا على امتداد القناة، من لواء الأغوار الشمالية وصولًا للواء دير علا، ولغاية الشونة الجنوبية، خلال آخر 4 سنوات، فقد غرق منذ بداية العام الحالي ولغاية منتصف آب سبعة أشخاص أربعة منهم أطفال، وثلاثة أشخاص عام 2019، وستة عام 2018 بينهم ثلاثة أطفال، أما في عام 2017 فقد توفي 13 شخصًا، 11 منهم أطفال.

الهروب من الحر إلى الموت

رغم أن السباحة في القناة غير مسموحة، يهرب أطفال الأغوار إلى قناة الملك عبد الله في الصيف للتخفيف عن أنفسهم من ارتفاع درجات الحرارة في المناطق التي تغيب عنها الحدائق العامة والمراكز الثقافية والرياضية والمسابح، كما يوضح أحد أبناء منطقة الأغوار الشمالية، الصحفي يوسف قطيش. ومع ذلك لا توجد إجراءات سلامة عامة على طول امتداد القناة، التي تخترق تجمعات سكانية في قرى الأغوار الشمالية ولواء دير علا والشونة الجنوبية.

أخذنا قطيش في جولة على عدة بلدات في الأغوار الشمالية التابعة لمحافظة إربد، إذ توجهنا إلى بلدة وقاص ثم المنشية والعدسية، وبعدها غادرنا إلى بلدة المشارع، مرورًا في بلدة الكريمة ووادي الريان، وسيدو وسليخات. وفي أغلب المناطق التي زرناها، لم يكن هناك سياج قرب القناة أو كان السياج مهترئًا.

يتحدث قطيش عن خلو الأغوار الشمالية ولواء دير علا والشونة الجنوبية من مكان بديل عن السباحة في القناة، إذ تعد نشاطًا معتادًا بالنسبة لجميع الأهالي، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة خلال فصل الصيف. «بعض حالات الغرق للأطفال بتكون من خلال ربط أحبال بلاستيكية بحواف القناة، وبعدها يبلش يسبح حاله، مرات بنقطع أو بفلت الخيط، وبغرق الولد بالمياه أو يعلق بالطمي». يوضح قطيش إن الطمي أو الطين في القناة يأتي مع السيول ومياه الأمطار، أو من خلال الاعتداءات المستمرة على القناة، بإلقاء المخلفات الزراعية والنفايات أو وضعها على جانبي القناة، في ظل غياب رقابة سلطة وادي الأردن، التي يحمّلها مسؤولية تدهور الوضع البيئي للقناة.

ومثل قطيش، يحمّل أهالي البلدات التي تمر بها القناة، الذين قابلتهم «حبر»، سلطة وادي الأردن مسؤولية حالات الغرق، إذ يرون إنها لا تقوم بدورها في صيانتها أو إعادة تركيب سياج على أطراف القناة، مما يشكل خطورة على أطفالهم، مؤكدين وجود سرقات للسياج بشكل متكرر بفعل غياب الرقابة، إضافة إلى عدم وجود لوحات تحذيرية كافية للزوار.

ويرى رئيس بلدية معاذ بن جبل، ساري العبادي، أن حالات الغرق التي تشهدها القناة، تعود لأطفال من منطقة امتداد القناة، أو لأشخاص قادمين من خارج مناطق القناة. ويعود ذلك لعدم معرفة الأطفال بالسباحة، أو لسهولة أن يعّلق الطفل في الطين، أو لسرعة تيار الماء في القناة. أما القادمون من خارج المنطقة، فهم بالأساس لا يعرفون تفاصيل القناة الصعبة، بحسبه.

لافتة تحذيرية على القناة في منطقة المشارع، وحبال بلاستيكية مربوطة على جانب القناة في منطقة دير علا.

يعود العبادي ليؤكد في حديثه مع «حبر» عدم وجود مكان ترفيهية للأطفال بديلة عن القناة، رغم وجود أفكار ومشاريع موضوعة على طاولة بلديات المناطق كلها، لكن المانع عدم وجود أراضٍ لتلك المشاريع. فقد كان لدى بلديته فكرة توفير برك سباحة للأطفال بشكل مجاني، ضمن البرنامج الادخاري الخاص بالبلدية وهو برنامج يقوم على أساس جمع تبرعات من المنظمات الدولية، لغاية خدمة المجتمع المحلي، من خلال مشاريع تنموية. لكن المجلس البلدي اصطدم بأن كل الأملاك والمناطق العامة التابعة للبلدية تم تضمينها لمستثمرين أو بيعت. «فكرنا أنه نعمل مسبح بحديقة عامة (20 دونم). المجلس البلدي السابق، مضمّنها لشخص. ما قدرنا نشتغل فيها، وهي حديقة عامة، ومش مستغلة بالطريقة الصحيحة. فيها ملعب وخرب والآن، هي مرتع للزعران. أرض ثانية فاضية (20 دونم)، تم التبرع بها سابقًا قبل 10 سنوات، وبنحاول نرجعها نعمل فيها برك سباحة».

ويشتكي رئيس البلدية من عدم تعاون سلطة وادي الأردن مع البلدية، وانعدام التشاركية في العمل، وتحديدًا خلال أوقات ذروة جريان المياه في القناة، عند بداية كل موسم مطري، وهي الفترة التي يصفها بـ«حالة الطوارئ»، خاصة أن هناك منازل «راكبة فوق القناة وتحتها»، بحسبه، وأن عمل البلدية في تلك المناطق محدود، كونها من مسؤولية سلطة وادي الأردن. 

وفق أبو حمور، يعود انتشار المنازل السكنية في بعض نقاط مرور القناة بالأغوار الشمالية، والوسطى (لواء دير علا) والشونة الجنوبية، إلى توزيع الدولة للأراضي بعد بناء القناة بصورة تمثل اعتداءً على حرم القناة، على حد تعبيره. فيما تتبع تصاريح البناء لسلطة وادي الأردن، وليست البلديات، كما يؤكد العبادي، الذي يشهد كل موسم مطري غرق العديد من البيوت القريبة من مجرى القناة، جراء ارتفاع منسوب المياه.

مرور القناة بمحاذاة المنازل السكنية وقرب مدرسة أساسية في منطقتي الكريمة والعرامشة في لواء الاغوار الشمالية.

يرد أمين عام سلطة وادي الأردن الأسبق، فيصل الغادي، أن السلطة طرحت خلال 10 سنوات أربع عطاءات لسياج القناة، بكلفة إجمالية لم تقل عن 500 ألف دينار، لكن أجزاءً منه سرقت، فأصبحت السلطة تعمل على صيانته فقط، ولا توجد نية لطرح عطاء لتشييك القناة من جديد بشكل كامل على طول القناة من الاتجاهين، أي بطول 220 كيلومتر، لأن لذلك كلفة مالية عالية، في ظل محدودية الموارد البشرية والمالية للسلطة، بحسبه.

ويؤكد الغادي على ضرورة وجود وعي لدى أهالي الغور بعدم السماح لأبنائهم بالسباحة في القناة، والتعامل بشكل جدّي مع تنبيهات عناصر فرق الأمن والحماية، حينما يطلبون منهم مغادرة القناة أثناء سباحتهم، حفاظًا على أرواحهم والمصلحة العامة. وتتبع هذه الفرق لشركة خاصة، موظفوها في الغالب من المتقاعدين العسكريين، ويقدر عددهم بـ55 شخصًا على طول القناة.

لكنه يقر بأن الاعتداء على حرم القناة عبر البناء تم خلال توزيع السلطة للأراضي السكانية، حيث لم تراعي الإبقاء على حرم القناة، الذي يجب أن يمتد 14 مترًا من الجهة الغربية وتسعة أمتار من الجهة الشرقية، إذ توجد أراضي لمواطنين داخل الحرم.

ويقول الغادي إن السلطة تدعو بلديات المناطق الموجودة في محيط القناة للحصول على أرض تابعة للسلطة وغير مستغلة، لإقامة متنزه أو مسابح أو حدائق عامة تخدم أبناء المنطقة، ومبديًا انفتاح السلطة للعمل بتشاركية مع جميع الجهات.

وخلت موازنات سلطة وادي الأردن لآخر ثلاث سنوات من تخصيص أي مبلغ لإعادة تسييج المواقع الخطرة من قناة الملك عبدالله. فيما ينوه عضو مجلس محافظة البلقاء عن لواء دير علا، محمد الغراغير، إلى أن مجالس المحافظات، التي أنشأت بموجب قانون اللامركزية لسنة 2015، لا تستطيع إدراج أي مبالغ ضمن موازنة سلطة وادي الأردن، لأنها تتمتع استقلال مالي وإداري. إلا أن المجلس طلب استثناءً من دائرة الموازنة العامة لإدراج مشاريع طرق زراعية على موازنة السلطة. 

وقدم مجلس محافظة البلقاء عدة توصيات لحل أزمة الغرق في القناة، شملت تجهيز مسابح عامة للأطفال ضمن موازنة وزارة الشباب. لم يتم طرح المشروع لغاية الآن، لكن هناك توجه لإدراجه ضمن مشاريع عام 2021. إضافة لذلك، أوصى المجلس بأن يساعد السلطة في تغطية القناة بـ«أقفاص جابيون»، وهي أقفاص من أسيجة معدنية، إلا أنها مكلفة بحاجة إلى منح خارجية، كما يقول الغراغير.

سياج مقصوص قرب القناة في منطقة دير علا.

«ما حدا داري عنا»

في الخامس عشر من شباط الماضي، عاشت عائلة راكان الوديان البشتاوي، بحي البترول ببلدة المنشية في الأغوار الشمالية، صدمة غرق حفيده بلال، ذو التسعة أعوام، في قناة الملك عبد الله المؤسس. يقول جده، أبو إياد: «حفيدي الأول كان جاي من بيتهم علينا، مثل كل يوم، لأنه متعود يجي عندي. ما بنعرف شو صار معه، وتأخر الولد علينا، رنّ أبوه يسأل عنه.. استغربت، حكيتله ما اجى، وبلشنا ندور عليه».

بدأت العائلة برحلة البحث عن الطفل في القرية كلها، ولم يعثروا على أي دليل على وجوده، حتى وجدوا حذاء الطفل و«سكينة» كانت برفقته حين مغادرته المنزل على طرف القناة، والتي تبعد نحو 400 متر من منزل والده، لتبدأ رحلة جديدة للبحث عنه داخل القناة. «عمي، مشكلتنا أزلية، والقناة ماشية بنص البيوت، وإحنا خايفين من الجاي والأكبر»، يقول الجد. 

بعد ساعتين من البحث، عثرت الدفاع المدني على بلال غريقًا، فيما ظل جده يؤكد عدم ذهاب الطفل للسباحة في القناة بل سقوطه فيها، كّونه لم يعتد السباحة أو اللعب فيها من قبل. «صحيح ابني لحد هسه ببكي على ابنه، بس والله ما أغلى من الولد إلا ولد الولد». 

راكان البشتاوي (أبو إياد) يعرض صورة حفيده الغريق بلال.

مثل عائلة عمار البراهمة، لم يكن الغرق جديدًا على عائلة البشتاوي، فقد فقدت العائلة طفلًا من أبناء عمومتها عام 2016، لقي حتفه غرقًا في القناة. «أهل الغور مساكين، ما حدا مطالب فيهم، المفروض كل القناة يكون الها شيّك ويكون في حراس. لو وقع ابن مسؤول كان قامت الدنيا وما قعدت، بس إحنا على البركة وما حدا داري عنا»، يقول البشتاوي.

حضور الدفاع المدني لانتشال جثة بلال لم يتأخر طويلًا، إذ يتواجد في منطقة المنشية مركز للدفاع المدني، يتواجد فيه فريق غطس متخصص للتعامل مع حالات الغرق، كما يقول مصدر أمني لـ«حبر». وتوجد في لواء الأغوار الشمالية ثلاثة مراكز للدفاع المدني في كل من مناطق الكريمة والمنشية والمشارع، وهي مراكز تابعة لمديرية دفاع مدني غرب إربد. أما في  لواء دير علا، فيوجد مركز دفاع مدني يتبع لمديرية غرب محافظة البلقاء، ويخدم مناطق اللواء والشونة الجنوبية.

في مكان آخر من الأغوار الشمالية، في منطقة وقاص تحديدًا، عاشت خلود سعيفان، أو أم محمد، الصدمة ذاتها عند وقوع حادثة غرق نجلها علي البشتاوي (10 سنوات).

ففي الخامسة مساء من 14 تموز 2017، استيقظت خلود متسائلة عن «كاسة البيبسي المليانة»، وموضوعة على طاولة السفرة. أجابت احدى بناتها بأنها لعلي، الذي غادر المنزل برفقة شقيقه محمد (13 عامًا)، وابن خاله خلف (12 عامًا)، إلى بقالة والدهم. «استغربت إنه علي ما شربش البيبسي رغم أنه بحبه. طلعت عند جارة قريبة مني وحكيت للبنات يديروا بالهم على إخوانهم كالعادة».

كانت تلك الأيام تشهد حراكًا انتخابيًا استعدادًا لانتخابات البلديات ومجالس المحافظة، وكان شقيق خلود قد رشح نفسه، ونشطت خلود في حملته الانتخابية. «وأنا نازلة عند الجارات مشان أحكيلهم عن أخوي، كنت بحكي مع جارة ثانية، وبلشت الناس ترن مرة وحدة، وأنا مستحية أحكيلها بدي أفصل». حين تحدثت أخيرًا مع شقيقها الأكبر، سألها عن هوية الطفل الذي سقط في القناة، فأخبرته بعدم معرفتها، لكنها شعرت بأن نجله خلف الذي غادر مع علي هو الذي غرق، خاصة وأنه كان يرتاد القناة باستمرار. في حين كانت خلود تلحّ على علي دومًا بعدم الذهاب للقناة أو السباحة بها، وكان يخبرها بخوفه من السباحة في الأصل. 

توجهت خلود لمكان الغرق، لتلاقي في الطريق ابن عمها الذي أخبرها بأنه يقال إن علي الذي غرق. ردت عليه سريعًا «اللهم أجرني في مصيبتي وأخلفني خيرًا منها»، وتنهار بعدها. 

خلود سعيفان تروي حادثة غرق ابنها علي، ومجموعة من صوره على طاولة في بيت العائلة.

عجّت ضفة القناة بالباحثين عن الطفل. هناك بدأت الأم تحاول فهم ما جرى، فأخبرها شقيقها نقلًا ابنه خلف أن علي نزل إلى القناة لكنه لم يكن ينوي السباحة وبقي بـ«الشبّاح والشورت»، لكن جريان مياه القناة كان سريعًا، نظرًا إلى أن مضخات القناة كانت مفتوحة. «هو نزل على السلم، لما مسك الدرجات حكى لمحمد روح نادي أبوي وأمي بسرعة». حاول ابنه خاله خلف إنقاذه لكنه لم يستطع، وفي تلك اللحظة تعالت أصوات الأطفال في الطريق طلبًا للمساعدة.

مع مرور الوقت، ازدادت مخاوف عائلة علي من عدم إيجاد جثته التي سحبها التيار، إذ أصبح أمر موته حتميًا. «كنت أدعي ربي نلاقي علي ونكرموا وندفنوا (..)، كنت مفكرة إنه راح على فلسطين، هاض الشيء اللي كنت خايفه منه. خاصة إنه سمعت مسؤول بالدفاع المدني قال إنه معنا آخر ربع ساعة ونعلن إنه علي مفقود، هون أغمى عليّ». 

عُثر على علي على بعد ستة كيلومترات من موقع السقوط، ليأخذ إلى المستشفى وتعلن وفاته. تقول خلود إن أمين عام سلطة وادي الأردن حضر لبيت عزاء نجلها معزيًا في مساء اليوم الثالث، وتعلق: «المفروض حضر لبيت العزاء الساعة 2 الظهر، مشان يشعر بدرجة الحرارة ويبعد شوي عن التكييّف، ويشعر بمعاناة أولادنا اللي ما إلهم لا مسابح ولا منتزهات ولا مكان يلعبوا فيه».

الفقد والتعويض

في منطقة ضرار بن الأزور من لواء دير علا، استقبلنا سعد الشطي، الذي فقد ابنه محمود (9 سنوات)، وابن أخيه موسى (10 سنوات). في موقع وفاة الطفلين غرقًا في القناة، التي تبعد نحو 400 متر عن منزله، بدأ برواية القصة بقوله: «ماتوا عيالنّا هون».

في السابع من حزيران عام 2017، خرج الشطي مفزوعًا من بيته، حيث استنفر أهالي المنطقة جميعهم إلى القناة. لم يكن يتوقع أن محمود وموسى قد غرقا في القناة، فلم يسبق لهما أن يذهبا إليها. «كانت الساعة 3 العصر. دخلت أنام ساعة زمن، سألت زوجتي عن محمود، حكت لي إنه رايح عند دار عمه اللي ساكن قريب منا. شوي ولا العيلة بتصحيني بحكوا لي قوم شوف محمود وموسى».

لم يتأكد الشطي مما يحدث حتى سمع من أحد أبناء المنطقة قولًا لم ينساه: «غرقوا أولاد العم الصغار». بعد ثلاث ساعات من البحث عن الطفلين في القناة، وجدتهما كوادر الدفاع المدني. «فش شعور بعبر عنك بس يطلعوا ابنك جثة قدام عيونك (..)، كل يوم بروح على قبره بقرأ الفاتحة عليه».

سعد الشطي حاملًا صورة ابنه الغريق محمود.

يطالب الشطي بوضع شيك بارتفاع متر على جانبي القناة، أو يتم إغلاقها بالكامل لما تسببه من حوادث غرق مستمرة لأبناء المنطقة وزوارها. أساله إن كان زاره أحد من السلطة لتقديم العزاء له ولشقيقه، فيجيب «فش حدا تطلّع علينا، الناس صارت تحكيلنا اشتكوا عليهم مشان ناخذ تعويض. والله ملايين الدنيا ما بتعوضني عن ظفر محمود».

كانت سلطة وادي الأردن تمنح تعويضًا ماليًا لذوي المتوفى غرقًا في القناة وعلى طولها، كدية محمدية* قد تصل قيمتها إلى خمس وعشرين ألف دينار. لكن أمين عام السلطة السابق أبو حمور، أوقف التعويض بعد صدور قرار من محكمة الاستئناف العامة عام 2013 يقضي بعدم تحمل السلطة مسؤولية حوادث الغرق في القناة. ويدافع أبو حمّور عن قرار إيقاف التعويض بالقول: «كيف بدي أعوض الناس، أنا ما دزّيتهم [دفعتهم] على القناة، ومكتوب يافطات تحذيرية [تقول] ممنوع الاقتراب وخطر، وبيجي الواحد يرمي حاله بالقناة وبدك تعويض؟!».

يقول عضو مجلس محافظة إربد عن لواء الأغوار الشمالية، علي الدلابكة، إن تعويض عائلة الغريق كان متبعًا منذ نشأة القناة، حتى صدور ذلك القرار. لكنه يعتبر أنه كان ممكنًا من البداية، بدل صرف مئات آلاف الدنانير من التعويضات، أن توجه هذه الأموال لتأمين القناة وحماية الأهالي.

* دية القتل الخطأ هي عشرون ألف دينار، ودية القتل العمد وشبه العمد هي خمسة وعشرون ألف دينار.

تم إعداد هذا التقرير بالتعاون مع منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان (JHR).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية