قرية شطنا

قرية شطَنا: لماذا عمّرها أهلها، ولماذا يهجرونها؟

منظر عام لقرية شطنا عن بعد. تصوير مؤمن ملكاوي.

قرية شطَنا: لماذا عمّرها أهلها، ولماذا يهجرونها؟

الأحد 21 أيار 2023

بين نهاية الغابات على سفح الجبال في عجلون، وبداية المراعي المنتشرة في سهل حوران في إربد، تسكن 65 عائلة مشكلّةً قرية شطنا، إحدى أصغر القرى الـ137 التي تضمّها محافظة إربد.

خلال أيّام الأسبوع؛ تكون الحياة هادئةً هناك؛ فلا أطفال يتدافعون أمام مدرستها الوحيدة التي يأتي أغلب طلبتها من القرى المجاورة ومن البدو المقيمين في الجوار، ولا حركة أمام مركزها الصحي الحكومي الذي يفتح ليومين في الأسبوع، لا دكاكين أو أصوات باعةٍ، وبالكاد تمرّ سيّارة في شوارعها. وفي صباحات أيّام الآحاد، يتغيّر المشهد قليلًا فتشهد شوارعها حركةً من بعض أهلها المهاجرين إلى القرى والمدن القريبة الآتين للصلاة في كنائسها وزيارة الأهل، ومع المساء حين يغادرون تعود القرية كما كانت بقية أيام الأسبوع.

بدأت قصة هذه القرية مع نزول الناس فيها وهجرتهم منها منذ ثلاثة قرون، مرّ عليها في هذه الفترة أكثر من استيطان، وأكثر من هجرةٍ كذلك، ساهمت فيها الأحداث السياسيّة والتحولات الاقتصادية التي مرّت بها منطقة بلاد الشام، ومنها الأردن.

بحثًا عن الأمان

نهايات القرن السابع عشر، اصطدم تحالف قبائل من شرقي الأردن وشمالي فلسطين مع الدولة العثمانية، انتهى باحتلال تحالف القبائل ذاك قلعة الكرك. لم تكن الدولة لتترك القلعة كمركز حكمٍ لها، ولموقعها الذي يقع على طريق الحج الشامي، فوجّهت حملة عسكريّة انتهت باستعادة القلعة عام 1678 بعد أن قتلت الكثير من أفراد الحلف، ومن نجا منهم خرج ضمن مجموعات في عدة اتجاهات؛ نحو الغرب إلى بئر السبع وغزة وسيناء، ونحو الشمال إلى البلقاء ثم عجلون.

اتخذ آل حامد وآل طناش درب الشمال، ولنحو ربع قرنٍ كانوا كلمّا نزلوا في مكان تعقّبهم الجيش، إلى أن نزلوا أخيرًا في منطقةٍ في جزء منها سفح جبل عجلون حيث تكثر فيه الأحراش والكهوف والمغارات، رأوا في الجبل مكانًا عصيًا على أي هجوم محتمل للجيش، وفي جزئه الآخر سهل حوران الذي رأوا فيه مكانًا كاشفًا لحركة الجيش المحتملة عليهم. هناك بنوا بيوتهم بين سفح الجبل والسهل، ورعوا مواشيهم في المراعي المجاورة، في مكان عُرف منذ مئات السنين باسم «شطنا»، لا يعرف أحد من أين جاء الاسم، وكان ذلك نحو العام 1700.

بيوت قديمة في قرية شطّنا

تغيّر نظام الحكم في المنطقة أكثر من مرّة خلال قرن ونصف من نزول آل حامد وآل طناش في مستقرهم الأخير؛ احتلّ إبراهيم باشا المصري المنطقة من الدولة العثمانية عام 1831 ورحل عنها عام 1841 لتبقى المنطقة بعدها دون حكمٍ مركزي فحكمتها الزعامات المحلية.[1]

عادت الدولة مرة أخرى بعد 23 سنة مع قوانين إصلاحية جديدة عام 1864 مدفوعةً بالتأثر بالنهضة الأوروبية، هنا أصبح للدولة حضورها الفعلي بموظفيها وأنظمتها.[2] لذا وبحسب الرواية الشعبيّة فإنه ومع استتباب الأمن النسبيّ لم يعد هناك داعٍ للاختباء، ومع تزايد أعداد ساكني القرية وما يملكون من مواشٍ انتقلوا بحثًا عن الأرض الواسعة لرعي مواشيهم إذ صار يقال عن أرض شطنا ومراعيها في المقولة الشعبيّة بأنها «ما تكفي حلالنا بِيقْيَة»،[3] ونبات البيقية من أعلاف مواشيهم.

هكذا، وبحدود العام 1863 لم يبقَ في القرية أحد، إذ ارتحل أهلها على دفعات إلى شاطئ طبريا الشرقي والجولان، والطيرة، وشمالي الأردن، ثم عادوا ليتجمّعوا في بلدات حوارة والصريح، حيث سيعُرفون باسم الشطناوية نسبةً إلى قرية «شطنا».

بيوت مهجورة في قرية شطنا.

ظلّت القرية مهجورة إلى أن هاجرت إليها عائلات مسيحية من عشيرة الدحابرة عام 1868، ثم تبعتها عشائر وعائلات من بلدات عين جنّا والحصن في شرقي الأردن، وحوران في سوريّة، وعائلة من لبنان.[4] ليس هناك سبب واضح لهذه الهجرات إليها؛ يُرجّح بأنها مرتبطة بصغر مساحات الملكية الزراعية في أماكن سكن هذه العائلات قياسًا لعدد أبناء العشائر المسيحية،[5] بالمقابل كانت شطنا خربة مهجورة قريبةً منهم، تنتشر حولها المراعي.

هكذا كانت «شطنا» واحدةً من قرى المنطقة، التي أثّرت علاقة الدولة بالأهالي على الاستيطان فيها في المرة الأولى، وفي المرة الثانية كان العامل الاقتصادي المرتبط بمهنة الناس هو الدافع للسكن فيها.

مشهد عام من قرية شطنا.

الحياة قبل الوظيفة

سكن المهاجرون الجدد أول الأمر في بيوت الشعر والكهوف والمغارات المحيطة بالقرية لحين الانتهاء من بناء بيوتهم المكونة في الغالب من طابق واحد. وقد شيّدت هذه البيوت من أحجار المناطق المحيطة (الدبش) أو الأحجار المعالجة بأزاميل الحجّارين، حيث تُصفّ بجانب بعضها بواسطة خليط من التبن والماء والتراب لصناعة الجدارن، وصنعت سقوفها من خشب الغابات المجاورة المخلوط بالتراب والماء فقط دون التبن ليكون أملس لضمان جريان الماء من فوقه والاستفادة منه لأغراض الشرب.[6]

عمل أهل القرية في رعي المواشي من بقر وماعز وأغنام، والتي بلغ عددها بدايات القرن العشرين نحو 2500 رأس غنم و200 رأس بقر، وفي صناعة مشتقّات الحليب، بالإضافة إلى عملهم في زراعة الشعير والقمح والكرسنة وكروم العنب. واستخدمت الخيل والحمير كوسيلة تنقل وحيدة بين شطنا والقرى المجاورة، وبين شطنا ومدينة إربد التي تبعد نحو 15 كيلو متر عنها، وقصدها أهل القرية ليبيعوا فائض إنتاجهم في أسواقها، مثل سوق الحلال الذي كان ينعقد يومي الاثنين والخميس من كل أسبوع. ظلّت الدواب وسيلة التنقل الوحيدة في القرية حتّى العام 1952، عندما اشترى أحد أبناء القرية سيارة لنقل الركّاب لكنها ما لبثت أن توقفت عن العمل بعد وقت قصير.

لم تكن الخدمات مثل الكهرباء والهاتف والطرق المعبّدة قد وصلت القرية خلال النصف الأول من القرن العشرين، رغم أن عدد الوحدات السكنيّة في القرية قد وصل إلى 97 وحدةً سكنيةً، تضمّ 637 شخصًا. ودرس أطفال القرية في مدارس الطوائف المسيحية في شطنا التي تدرس حتى الصف السابع، مثل مدارس الروم الأرثذوكس والكاثوليك واللاتين، لعدم وجود مدارس حكوميّة، وبعثت بعض العائلات أبناءها لإكمال تعليمهم في مدارس بلدة الحصن.[7]

تتذكر فوزية عيّاش المولودة سنة 1927 لأب يعمل حجّارًا، والمتزوجة من رجل يعمل في الزراعة، بيتها المكوّن من غرفةٍ واحدةٍ والمبني على ظهر تلّة، وتفاصيل الحياة فيه «نروح على الوطاة، ونفلح ونحرث ونحصد، كله للأكل، عندنا 10 عنزات، نحلب ونخض كشك وجميد ولبن وسمن ونخزن للدار، ما فيه حنفيات، نروح على النعيمة وعلى كتم [نعبي] من بيار عندهم».

مشهد القرية ومحيطها من أعلى منزل فوزية عياش

ارتفعت متطلبات المعيشة في بيت فوزيّة بسبب ارتفاع عدد أفراد أسرتها، وهي تقيس هذا التغيّر بارتفاع عدد الأرغفة التي كانت تخبزها في اليوم من ستة إلى 30 رغيفًا، بالإضافة إلى ذلك تذبذب إنتاج الأرض التي كان يفلحها زوجها، فهاجر إلى المفرق بعدما التحق بالجيش ليكون قريبًا من مكان عمله، وهاجر مثله الكثير من أبناء القرية إلى إربد والزرقاء والمفرق وعمّان.

مع حلول العام 1964 كان عدد سكّان القرية قد انخفض إلى النصف، ووصل عددهم إلى 383 نسمة بعدما هاجروا للعمل، أو الاستفادة من الخدمات الصحية والتعليمية في المدن. 

فوزية عيّاش داخل منزلها في شطنا

تتذكر فوزيّة تلك السنوات: «اللي يروح على الجيش نقول يا نياله، راتب العسكري خمس أو ستّ ليرات، نروح نملّي السيارة بليرتين من الحصن». ترك زوجها الجيش بعد خمس سنوات من الخدمة بسبب إصابة تعرض لها، وعاد إلى القرية وقد كبر أولاده ومنهم عاطف المولود عام 1964، والذي درس في مدرسة القرية الحكوميّة التي افتتحت عام 1970، ولمّا كان عليه أن يساعد والده في مصروف البيت، فقد عمل إلى جانب الدراسة بأكثر من مهنةٍ منها رعيُ مواشي أهل القرية.

كان عاطف من الجيل الذي صار العمل في وظيفةٍ مبتغاه، بسبب استقرار دخل الموظفين من أبناء القرية وارتفاع رواتبهم مقارنةً بالعمل في الزراعة ورعي المواشي، لذا انتسب إلى الجيش فور بلوغه 17 عامًا في 1981.

ظلت القرية تفتقد إلى خدمات أساسية كالكهرباء، واقتصر التعليم الحكوميّ فيها على الصفوف الإعدادية، وقلّت فيها السيارات التي تعمل على نقل الركاب؛ لذا كان تطور الخدمات في المدن أحد العوامل التي جعلت عاطف يهجر القرية إلى مدينة إربد قرب عمله بعد سنة عانى فيها من شح المواصلات أو ارتفاع كلفتها «تصبّح ساري من الساعة أربعة [حتى] تلاقي سيارة، أو تمشي للحصن، وبالرجعة السيارة توخذ طلب ثلاث ليرات».

تقاعد عاطف من الجيش وعاد للسكن في شطنا عام 1991، وعمل سائقًا على إحدى حافلتين صغيرتين بدأتا تعملان على نقل الركاب بين القرية وإربد. لكن الناس استمرت بالهجرة من القرية باحثةً عن العمل وتدريس أبنائها، فتناقص عدد سكّانها إلى 165 نسمة عام 1994، وبلغ حينها عدد طلبة المدرستين الحكومتين في القرية 44 طالبًا، منهم ستة طلّاب فقط من أبناء القرية والباقي من أبناء البدو المقيمين حول القرية.

عاطف عياش في قرية شطنا

أواسط التسعينيات كان عدم توفر التعليم في القرية السبب الثاني للهجرة بعد العمل،[8] فقد ظلّت معظم العائلات التي تسكن القرية تبعث أبناءها للدراسة في مدارس الطوائف المسيحيّة في الحصن لأنها تدرّس منهاجًا غير متوفر في المنهاج الحكومي مثل اللغة الإنجليزية والفرنسية التي يبدأ تعليمهما للطالب منذ الصف الأول، في حين كان تعليم الإنجليزية في المدارس الحكوميّة يبدأ من الصف الخامس، فضلًا عن ذلك، درّس المعلمون في المدرستين الحكوميتين بعض المواد في غرفة صفيّة واحدة تجمع أكثر من صف.

لكن بعض العائلات اختارت الهجرة من القرية من أجل تعليم أبنائها، من بينهم عاطف الذي ترك شطنا مرة أخرى عام 2010، وإلى غير رجعة هذه المرة، منتقلًا إلى الحصن حيث اشترى بيتًا واستقرّ هناك.

المدرستان الحكوميتان القديمة والجديدة في قرية شطنا. يذكر أن المدرسة الجديدة هي الوحيدة العاملة في شطنا اليوم.

وصل عدد سكّان القرية السنة الماضية إلى 234 نسمة، موزعين على 65 عائلة،[9] يخدمهم مركز صحي واحد ليومين في الأسبوع، أغلقت إحدى المدرستين الحكوميّتين، ويدرس في الثانية 21 طالبًا وطالبة حتى الصف الخامس، معظمهم من أبناء البدو المقيمين حول القرية، فيما يعتمد سكّانها على أسواق القرى المجاورة لعدم وجود دكاكين فيها.

أخيرًا، ثمة الكثير من العوامل التي قد تكون سببًا فيما حصل لهذه القرية دون غيرها من قرى لواء بني عبيد التي تقع فيه، منها الصعوبة التي واجهها أهلها لاستصلاح أراضيها للزراعة بحكم وعورتها؛ إذ تتبع القرية جغرافيًا إلى تضاريس عجلون الجبليّة، وهي لا تشبه تضاريس القرى المحيطة بها مثل كتم والنعيمة التي تشبه تضاريسها تضاريس قرى إربد السهلية؛ وربمّا سبب آخر هو وقوعها بعيدًا عن مركز القصبة الذي يضمّ دوائر الدولة والأسواق الرئيسيّة.

من داخل كنيسة الروم في شطنا.

مؤخرًا، شيّد بعض أبناء القرية العائدين إليها بيوتًا حديثة فيها من أجل تمضية الإجازات والأعياد. فيما ظل ما تبقى من أثر بيوتها القديمة المشيدة بدايات القرن الثامن عشر شاهدًا على قصة قرية سكنها الناس عندما اصطدموا بالدولة، وعرفوا أثر غياب خدمات الدولة في البيوت المهجورة التي بنوها في القرنين التاليين. 

مثله، ترك أخوة عاطف القرية من أجل الدراسة أو العمل، فيما تزوجت أخواته الأربعة ورحلن عن القرية ليبقى من العائلة التي كان تعدادها عشرة أشخاص منتصف القرن الماضي؛ شخصان هما: أمه فوزية، وأخ واحد كان قد تقاعد من الجيش وسكن في بيت أسفل التلة.

  • الهوامش

    [1] أحمد صدقي شقيرات، تاريخ الإدارة العثمانية في شرقي الأردن (1864- 1918)، آلاء للطباعة والتصميم، 1992، ص 49.

    [2] هند أبو الشعر، إربد وجوارها، ناحية بني عبيد (1850-1920)، وزارة الثقافة، 2009، ص 178

    [3] هذه رواية آل شطناوي الذي رواها الدكتور نواف جبر الشطناوي لـ حبر، والتي جمعها على مدى سنين طويلة بالاعتماد على وثائق عثمانية وروايات شفوية.

    [4] ترتيب وصول السكّان إلى شطنا: دحابرة وقنادحة، من عين جنّا في عجلون، السواقدية ودار مونس من الحصن، ثم البشارات من عين جنا وحوران، ثم العيّاشين من حوران، ثم حداد وجبارة وجدعون وجوينات ثم معايعة، وشويري من لبنان، بحسب أيوب سواقد، قريتي شطنا، دار ورد، عمّان، ط1، 2009، ص 33 و34 و35.

    [5] هند أبو الشعر، إربد وجوارها، ناحية بني عبيد (1850-1920) وزارة الثقافة، 2009، ص 93 

    [6] أيوب سواقد، قريتي شطنا، دار ورد، عمّان، ط1، 2009، ص 71 و 72

    [7] المعلومات عن القرية في النصف الأول من القرن العشرين من كتاب أيوب سواقد، قريتي شطنا، دار ورد، عمّان، ط1، 2009، ص 33، 136، 143، 144، 175، 176.

    [8] أيمن الشبول، الهجرة من الريف إلى المدينة، دراسة ميدانية لقرية أردنيّة، معهد الآثار والانثروبولوجيا، جامعة اليرموك، رسالة ماجستير غير منشورة، 1995، بالاعتماد على تعداد السكان والمساكن العام 1964، ص: 32 و33 و35 و128

    [9] بعد قرى: كركمة (11 نسمة) وسبيرة (79) في لواء الأغوار الشمالية، والعشة (195) في لواء بني كنانة، وإسكايين (11) وخربة الحاوي(7) والصوان (38) في لواء الكورة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية