ابنة، عاملة، نقابية، وأكثر: كيف شقّت ميرفت طريقها لـ«فوق»

الأربعاء 23 كانون الأول 2020
تصميم ندى جفال.

في الأيام القليلة التي كانت ميرفت عبد الكريم وزميلاتها في مصنع الملابس ينهين عملهن مبكرًا، كن يذهبن إلى وسط البلد في مدينة إربد ليأكلن كنافة أو شاورما. وأحيانًا كن ينخرطن في لعبة؛ واحدة منهن تكون قبلها بيوم قد استعارت ذبلة الزواج من أختها أو زوجة أخيها، ترتدي الذبلة، وتتوجه معهنّ إلى أحد محلات بيع وتأجير فساتين الزفاف. وهناك تدعي أنها مخطوبة وتبدأ بتجريب الفساتين. تخرج بعدها المجموعة إلى محل آخر، حيث ترتدي فتاة أخرى الذبلة التي ستدور عليهن وهن يتنقلن من محل إلى آخر.

كانت هذه تسليات صغيرة تقوم بها الفتيات عندما لا تَمدّ ساعات العمل الإضافي يومَ عملهن في المصنع من السادسة والنصف صباحًا إلى العاشرة ليلًا، كما يحدث في معظم الأحيان. لكن ميرفت كانت تدفع الثمن عندما تعود إلى المنزل، وذلك في الأيام التي تكون فيها سيئة الحظ وتكتشف أن أحد الأقارب أو الجيران كان قد رآها ونقل إلى أخوتها أنها كانت «طاشّة مع البنات في السوق». وقتها كان إخوتها يضربونها، ويحبسونها في المنزل ليومين أو ثلاثة، قبل أن تعود ثانية إلى العمل. ففي دائرتها العائلية، لم يكن مسموحًا للفتيات أن يخرجن إلى أي مكان من دون مرافقة فرد من العائلة. في الحقيقة، لم يكن مسموحًا للفتيات آنذاك بالعمل أصلًا. وكان العرف أن تُنهي الفتاة التوجيهي، وتبقى في منزل ذويها إلى أن تتزوج. 

وعندما بدأت ميرفت العام 1992 العملَ في أحد مشاغل الخياطة في إربد، كانت الأولى بين بنات عمومتها التي تدخل سوق العمل. وكان هذا مصدر انتقاد كبير لوالدها الذي كان أقل تشددًا من إخوته. لكن هذا لم يكن السبب الوحيد لخروجها للعمل، الحقيقة أن والدها الذي كان يعمل سائقًا في مؤسسة حكومية، كان يرزح تحت وطأة عبء مادي أكبر بكثير من قدرته على التحمل. فقد اضطر، بسبب خلافات عائلية كبيرة، إلى بيع منزله القديم الذي كان مشتركًا مع بيوت أشقائه بثمنٍ قليل، وبنى بيتًا في مدينة إربد كانت أقساط قرضه البنكي تستنزف معظم راتبه. وكانت ميرفت هي الكبرى بين أبنائه العشرة، والمؤهلة سنًّا لبدء العمل. لكن العائلة التي تنازلت وقبلت أن تعمل ابنتها لتساهم في الإعالة، ظلت تقاوم هامش حرية الحركة الذي وجدوا أنها صارت تطالب به. وهذه مفارقة تقول ميرفت إنها ما تزال تدهشها إلى اليوم؛ أن يسمح لها بالبقاء خارج المنزل إلى ما بعد العاشرة ليلًا، ما دامت في العمل، ولا يسمح لها أن تخرج لتتنزه مع صديقاتها حتى لو عادت قبل هذا الوقت بكثير.

12 عامًا في المصنع

أنهت ميرفت التوجيهي عام 1991، وهي المولودة عام 1971. ولو أن حياتها سارت في الاتجاه الذي كانت تريده لأكملت دراستها الجامعية في كلية الفنون. فقد كانت مغرمة بالرسم، واشتركت على الدوام في المعارض التي كانت تقيمها المدرسة. لكن خيار متابعة الدراسة في كلية أو جامعة لم يكن مطروحًا، إذ كانت العائلة تعاني ماديًا، وكان القرار قد اتُخذ؛ أن تتعلّم ميرفت مهنة ما، فتعمل للمساعدة في الإنفاق على العائلة. وفي تلك السنوات، تقول إنه كان هناك خياران فقط تقريبًا للفتيات اللواتي لا يذهبن إلى الجامعات أو كليات المجتمع، هما تعلم التجميل أو الخياطة. وهي اختارت الخياطة التي تعلمت أساسياتها في دورة مدتها ستة أشهر في أحد مراكز تعليم الخياطة العديدة آنذاك في المدينة. وقتها كان ما يزال هناك سوق للخياطات والخياطين الذين يعملون بشكل فردي في المنازل والمحلات، أو يعملون في مشاغل خياطة الملابس الجاهزة المنتشرة آنذاك، والتي كانت تزود محال الملابس في المدينة بحاجتها. بدأت ميرفت العمل في واحد من هذه المشاغل، قبل أن يتناقص عددها كثيرًا نتيجة التحولات الكبيرة التي طالت قطاع صناعة الألبسة خلال السنوات اللاحقة. 

كانت هذه المشاغل في الغالب شققًا مستأجرة في البنايات التجارية، يعمل في كلٍ منها خمسة أو ستة عمّال، يقومون بواحدة من مهمتين؛ المتمرّسون منهم يخيطون الملابس التي تقدم إليهم مقصوصة. والمبتدئون يقومون بأعمال التشطيب، مثل خياطة الأزرار، وتنظيف الملابس من الخيوط الزائدة. وهو العمل الذي بدأت ميرفت القيام به، وكانت تتلقى عليه 30 دينارًا شهريًا، مقابل ثماني ساعات عمل يوميًا. كانت تعطي والدها منها 25 دينارًا، وتبقي خمسة دنانير، هي عمليًا أجرة مواصلاتها بين البيت والمشغل. ورغم ذلك كانت سعيدة، لأنها المرة الأولى التي يكون لديها فيها أي نوع من التواصل المستقل مع العالم. «لما طلعت أشتغل شفت حياة ثانية. عرفت إني مش باقية عايشة. صرت أتعرّف على الناس أكثر، وصار إلي زميلات أطلع معهم». 

قبل ذلك، كانت هناك فقط المدرسة التي كانت والدتها المرعوبة من كلام الناس تحذرها من مصادقة الفتيات فيها «لإنهن هاملات وبصاحبن شباب»، وتنبهها يوميًا للطريقة التي يجب أن تمشي فيها وهي ذاهبة إليها. «ما ترفعي راسك. بتروحي على المدرسة وبتيجي وإنت موطية راسك». تتذكر ميرفت ذلك، كما تتذكر كل العنف الذي تعرّضت له، وتقول إنها تفهم من أين جاء كل هذا. فعائلتها في النهاية تنتمي إلى بيئة اجتماعية، رأس المال فيها هو «السمعة». والكل كان مهمومًا بما يمكن أن يقوله الآخرون. وهذا يفسر الطريقة التي تصرّفوا بها.

بعد سنوات قليلة من بدئها العمل، حدثت تحولات في قطاع الألبسة ضربت عمل مشاغل الخياطة، فقد دخلت ميرفت السوق بعد ثلاث سنوات تقريبًا من الأزمة الطاحنة التي تعرّض لها الاقتصاد الأردني العام 1989؛ أزمة قادته إلى الدخول في برنامج التصحيح الاقتصادي تحت إشراف البنك الدولي، والذي كانت إحدى مرتكزاته الأساسية سياسة تحرير السوق، والتخفيف من معايير حماية المنتجات الوطنية كواحد من أدوات إصلاح الاقتصاد. وخلال العقد التالي، بالتحديد بعد منتصف التسعينيات، اتخذ الأردن مجموعة من الإجراءات المنسجمة مع هذه السياسة، فانضم إلى منظمة التجارة العالمية، ووقّع العديد من اتفاقيات التجارة الحرّة مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وغيرها من دول العالم. وكان قطاع صناعة الألبسة المحلية واحدًا من ضحايا هذه السياسة، إذ أُغرقت السوق بالملابس الجاهزة التي أصبح استيرادها أقلّ من كلفة تصنيعها محليًا. تتذكر ميرفت كيف بدأت المشاغل تغلق واحدًا بعد الآخر، ولتتحول هي وغيرها من عمّالها وعاملاتها، ومعهم العديد من الخياطين والخياطات، إلى المصانع الجديدة في مدينة الحسن الصناعية، والتي أُعلنت نهاية العام 1997 «منطقة صناعية مؤهلة» (QIZ). والمناطق الصناعية المؤهلة، وتعرف أيضًا بـ«المناطق التصديرية الخاصة»، هي مجمّعات صناعية تنشأ داخل الحدود الجغرافية لبلد ما، وتدخل إليها البضائع الأجنبية أو المحلية بغرض التغليف أو التخزين أو التصنيع، دون أن تخضع لأي إجراءات جمركية أو رسوم من أي نوع. ويكون إنتاجها مخصصًا بشكل أساسي للتصدير. كانت بداية إنشاء هذه المجمعات في المنطقة في «إسرائيل» عام 1985 ضمن اتفاقية التجارة الحرّة بينها والولايات المتحدة، والتي سمحت لها بتصدير منتجات هذه المناطق إلى الولايات المتحدة معفاة من الرسوم الجمركية. ثم عقب توقيع اتفاقية السلام الأردنية-الإسرائيلية، تم التوسع في إنشائها في الأردن ومصر، بدعم من الولايات المتحدة، حيث سمح لهما، بالشراكة مع «إسرائيل»، بتصدير منتجات هذه المناطق إليها معفاةً من الجمارك. وهي خطوة كان الهدف المعلن لها هو دعم عملية السلام في المنطقة، من خلال تحفيز اقتصاداتها باتجاه التكاملية.

في الأردن، حاليًا 14 منطقة صناعية مؤهلة، موزعة على مختلف المحافظات، من بينها «مدينة الحسن» في إربد، التي عملت فيها ميرفت ابتداء من العام 1999 بعد أن أغلق المشغل الذي كانت تعمل فيه. وفي حين كان من الأهداف الاساسية لإنشاء الـ(QIZs) توليد فرص عمل محلية، فقد كانت ميرفت من بين النسبة القليلة من العمالة المحلية هناك، إذ يشكل الأردنيون 24% تقريبًا من بين 76,220 عاملًا وعاملة، هم مجمل العمالة هناك. ذلك لأن المستثمرين، الذين توافدوا على الـ(QIZs)، مستفيدين من مختلف أنواع الإعفاءات، فضّلوا العمالة المهاجرة من دول شرق آسيا، والتي كانت أكثر تأهيلًا من المحلية، وتتلقى في الوقت نفسه أجورًا أقل. ميرفت كانت واحدة من النساء اللواتي شكلن، آنذاك وما زلن، أغلبية في العمالة المحلية، إذ تبلغ نسبتهن 79% تقريبًا. وإجمالًا، رأى صانعو السياسات وقتها أن هذه المشاركة النسائية المحلية في المناطق الصناعية المؤهلة، كانت واحدة من إنجازاتها في بلد نسبة مشاركة النساء في سوق العمل تاريخيًا منخفضة. 

كان راتب ميرفت في آخر مشغل عملت فيه قد وصل إلى 50 دينارًا، لكنها في المصنع اضطرت للبدء بـ45 دينارًا. وقتها، لم يكن نظام الحد الأدنى للأجور قد طبق، حيث بُدأ العمل به العام 2002، وحدد وقتها بـ80 دينارًا، وتدرّج حتى وصل 220 دينارًا العام 2017. لكن العمّال كانوا يحصلون على زيادات سنوية وترقيات ترفع رواتبهم. عندما غادرت ميرفت العمل في المصانع العام 2011 لتعمل في مكتب النقابة العامة لعمال الغزل والنسيج، كان راتبها قد وصل إلى 220 دينار، بعد أن ترقت إلى مشرفة على الجودة. 

يختلف العمل في المصانع عن العمل في المشاغل في أنه كان يتم وفق نظام المراحل. ففي حين كان الخياط أو الخياطة في المشغل يخيط قطعة الملابس كاملة، فإن خياطة هذه القطعة تقسم في المصانع إلى مهام صغيرة توزع على العمال والعاملات، فتكلف العاملة مثلًا بخياطة كُمّ فستان، أو درز جوانبه، أو طي ذيله أو خياطة ياقته وهكذا. تقسيم العمل إلى مهام بالغة الصغر تكررها العاملة ذاتها يضمن سرعة الإنجاز، ورفع درجة الجودة. لكنه، تقول ميرفت، لم يكن يُزوّد العاملات بمهارات حقيقية يمكن أن تنفعهنّ خارج المصانع، كما كانت تفعل المشاغل. وتقول إنها تعرف عاملات يقمن ومنذ أكثر من عشرين سنة بالمهمة نفسها. 

كان الدوام يبدأ في السادسة والنصف صباحًا إلى العاشرة ليلًا، يتخللها ما مجموعه 45 دقيقة استراحة مقسّمة على فترات.

صحيح أن الراتب كان ضئيلًا، لكن ميرفت تقول إن اعتمادها وغيرها من العاملات كان أساسًا على ساعات العمل الإضافي التي كانت كثيرة في الفترة التي بدأت فيها العمل، لأن المصانع، كما تقول، كانت قليلة نسبيًا، والطلبيات كثيرة وكبيرة. فكان الدوام يبدأ في السادسة والنصف صباحًا إلى العاشرة ليلًا، يتخللها ما مجموعه 45 دقيقة استراحة مقسّمة على فترات، وكان الأجر يحتسب ضمن معادلة توائم كمية ما أنجز بعد العبء المحدد المطلوب أصلًا إنجازه خلال الثماني ساعات الأساسية ليوم العمل، مع الجودة، إذ تحتسب كمية ما أعيد من إنتاج أي عامل للتعديل. وفي حالات كثيرة تقول ميرفت، كان مبلغ «الإضافي» يتجاوز الراتب نفسه.

هذه المرحلة، تقول ميرفت، هي التي بدأت فيها نسبيًا نوعًا من البحبوحة المادية، إذ صار بإمكانها أن تحصل من راتبها على ما هو أكثر من أجرة مواصلاتها إلى العمل، وثمن السندويشة التي تأكلها خلال الدوام. ولم تكن وحدها، فهذا كان حال الغالبية الساحقة من الفتيات اللواتي عملت معهن خلال سنوات عملها الطويلة. وكُنّ مثلها، مربوطات بقروض أخذنها لعائلاتهن. الكثير من هؤلاء الفتيات جئن من أوضاع مادية متردية، وكانت مساهمتهن بهذا الشكل مفهومة لهنّ، تقول ميرفت، لكن كثيرات أيضًا كن يتعرضن للاستغلال من عائلاتهن. وتقول إنها كانت تعرف عاملات كان أهاليهن يجبرونهنّ على تسليم رواتبهن مع كشوفها حتى يتأكدوا أنهن لم يقتطعن منها شيئًا خفية. في تلك الأيام، تقول ميرفت إنها وغيرها اندفعن للعمل بعنف، لأن زيادة «الإضافي» كان يعني، لمن لم تكن عائلتها تسيطر بالكامل على راتبها، كان يعني زيادة ما يمكن للعاملة اقتطاعه من راتبها لصالحها. «البنت كانت أحيانًا تمنع حالها تروح على الحمام حتى تجتهد وتطلع التارجت [الهدف الإنتاجي] وأعلى من التارجت. فكان على حساب صحتها. تظلها مطمّلة على الماكنة (…) تركض وتركض، وما تريحش ظهرها، وما تريحش رجليها عشان بالآخر اتطلّع أكثر من المطلوب».

لهذا، عندما حدث في إحدى مراحل عملها، أن اختلفت مع المشرفة عليها، وعاقبتها الأخيرة بالتوقف عن تنسيبها للعمل الإضافي، وكان راتبها آنذاك 160 دينارًا، تقول ميرفت إنها اضطرت للبحث عن عمل آخر بعد الدوام في المصنع كي تعوض الدخل الضائع. وحدث فعلًا أن عملت في وظيفتين بعد دوام المصنع؛ أولًا كسكرتيرة بدوام جزئي لدى مكتب مقاول. لم يكن صاحب المكتب بحاجة لفتح المكتب طوال اليوم، بل كان بحاجة فقط لمن يرتب له الفواتير، ويدخلها إلى الكمبيوتر، وينظف المكتب، ويستقبل أصحاب الدفعات ليدفع لهم. فكانت، مقابل 60 دينارًا شهريًا، تذهب إلى المكتب ثلاث ساعات مساء كل يوم، وتنهي عملها لديه في السابعة والنصف مساء، ثم تنطلق إلى وظيفتها الثالثة، والتي كانت مضيفة في قاعة أفراح. وهناك تمضي ساعتين هما وقت الحفلة، تتقاضى عنهما ستة دنانير. وقد أمضت شهوًرا تفعل ذلك من دون علم أهلها. وفقط قبل سنتين اعترفت لهم بذلك، فوقتها لم يكونوا ليوافقوا. «كانوا رح يحكوا إفرضي إجاك قرايبنا بهاي الحفلة وشافوكي، شو رح يحكوا؟ طيب إفرضي شافوكي وأنت سكرتيرة؟ بس أنا بمصنع ما حدش شايفني ومع بنات كثير (…) ما كانش مشكلة».

«اكتشفنا إنه لأ، إحنا رحنا على مستعمرة أصلا، وبنينا حياة داخل هاي المستعمرة (…) وبعدين بالآخر بتكبر الوحدة وبتعجّز وما معها ولا إشي».

لقد كانت تلك دائرة، تقول ميرفت إنها علقت داخلها، وهي تندم على ذلك الآن لأن هذا كان على حساب صحتها، وطاقتها النفسية، والأهم هو أن هذا حرمها التمتع بأي حياة اجتماعية. فباستثناء المشاوير القصيرة المسروقة إلى وسط البلد، هي عمليًا لم تكن تفعل شيئًا في حياتها سوى العمل. «أمضيت في المصنع 12 سنة من دون يوم إجازة سنوية واحد. أخذت بس خمس أيام إجازة مرضية. أنا كان عقلي وين وأنا بفكر بالطريقة هاي؟». لقد كانت هذه مفارقة، لأن عاملًا أساسيًا للخروج للعمل، لديها ومعظم من عرفتهن في هذه المصانع، كان من أجل هذه الحياة الاجتماعية المستقلة عن العائلة. وهذا ما كان يفسر استمرار الكثير من الفتيات اللواتي لم يكن يحصلن شيئًا من رواتبهن. لقد كان العمل يشكل «المفرّ» بالنسبة إليهن. «تفكير كل البنات زي هيك، أنا بعطيهم كل اللي بطلعلي، ما في مشكلة، بس يخلوني أطلع أعمل حياة اجتماعية غيرهم. وأحس حالي متحررة». لكنه كان شعورًا زائفا بالتحرر، تقول ميرفت، لأنها وغيرها كن يغادرن بيوتهن في الصباح الباكر إلى مصانع يخرجن منها آخر الليل، من دون أن تتاح لهن حتى رؤية الشمس. «اكتشفنا إنه لأ، إحنا رحنا على مستعمرة أصلا، وبنينا حياة داخل هاي المستعمرة (…) وبعدين بالآخر بتكبر الوحدة وبتعجّز وما معها ولا إشي».

لقد كان هذا أيضًا حال معظم الفتيات اللواتي عرفتهن في هذه المصانع. ولهذا اخترعن لعبة تجربة فساتين الزفاف. كان هذا جزءًا من تطلعهن للزواج الذي اعتقدن أنه سينشلهن من حياتهن القائمة. أمر، تقول إن رؤيتها لنماذج الزيجات من حولها جعلها تشك في إمكانية تحققه. «كنت أحكيلهم لسة أهلك في مجال تفكري بيوم من الايام تخلصي من الحياة اللي إنت فيها معهم. يمكن تتحرري في يوم من الأيام. بس جوزك خلص. هاي حياة راحت للأبد».

كانت مؤمنة بأن هناك هامشًا من المناورة مع الأهل لتوسيع مساحة الحرية. وهذا ما ظلت تفعله لسنوات، وهذا ما حصلت عليه في النهاية. فبمرور السنوات وتقدمها في العمر، كان علاقتها بعائلتها تتغير، والعنف إزاء تحركاتها يقلّ شيئًا فشيئًا إلى أن توقف تمامًا في أواخر ثلاثيناتها. 

«شقة في الطابق الثالث»

في العام 2010 نقلت ميرفت حياتها إلى مكان آخر. عندما نشطت في حضور اجتماعات أسبوعية كانت النقابة العامة للعاملين في صناعة الغزل والنسيج والألبسة تعقدها في مكتبها في مدينة الحسن. كان قد مضى على عملها في قطاع الخياطة 19 سنة، منها 12 سنة في مصانع مدينة الحسن، كونت خلالها شبكة علاقات جيدة بين العاملات والعمال، وهذا حفزها لخوض انتخابات النقابة في العام نفسه. وقد نجحت بالفعل وحصلت على عضوية الهيئة الإدارية التي امتدت دورتها إلى العام 2015. وبعد نجاحها بسنة، تركت عملها في المصنع، وانضمت إلى مكتب النقابة في مدينة الحسن الصناعية، حيث عملت، في متابعة شؤون العمال و«تنظيمهم»، أي اجتذابهم للانتساب للنقابة، قبل أن تغادر المكتب نهاية العام 2016. 

«أنا صار لي 10 سنوات والعمال بشكوا من نفس المشاكل (..) رغم التقارير المكتوبة، ورغم عمل المنظمات، ورغم التقارير الصحفية، بس ولا تغير شيء».

خلال تلك السنوات، كان عملها الأساسي مع العمال المهاجرين. فرغم أن الأجور وظروف العمل ليست عادلة لنوعي العمالة؛ المحلية والمهاجرة، إلا أن معاناة العمال المهاجرين تقول ميرفت أكبر بما لا يقاس. فهم نظريًا يتساوون مع العمال الأردنيين في تقاضي الحد الأدنى من الأجور. لكن في الحقيقة، يخصم من رواتبهم 95 دينارًا مقابل خدمتي سكن وطعام، لا ترقى في معظم الحالات لأن تكون «إنسانية». وفي حين أن العمل الإضافي اختياري، فإن إجبارهم عليه يتم بشكل غير مباشر، إذ عندما يحرم من يقرر التوقف عنه لفترة لنيل قسط من الراحة، يحرم منه لأشهر، وذلك شكل من أشكال العقاب غير المعلن. يضاف إلى ذلك، تقول ميرفت، أنه حدث كثيرًا أن يشكو العمال من خلل من في احتساب ساعات العمل الإضافية، وبعد مراجعة الكاميرات وأجهزة توقيع الدخول يُكتشف أن أصحاب العمل لم يحتسبوا كامل الساعات. وهذا كله فضلًا عن المعاملة المهينة والإساءات اللفظية التي يتعرضون لها. 

تقول ميرفت إن بعض التحسينات الطفيفة قد طرأت هنا. لكن ما يعيق إحداث تغيير حقيقي في جوهر الخلل، وهو هنا الاستغلال، ورداءة ظروف العمل، وعدم تناسب الجهد المبذول مع الأجر، هو هذا الاصطفاف، من الجهات ذات العلاقة، إلى جانب المستثمر على حساب العمال، وتكرار ادعاء الحرص على بقائه من باب أن «الناس لو بتشتغل برواتب بسيطة أحسن ما نفقده وما حدا يشتغل». والعمال المهاجرون هم الأكثر معاناة، لأن الأردني يمكن أن يترك ليبحث عن عمل بشروط أفضل، لكن المهاجر عالق مع كفيله. «أنا صار لي 10 سنوات والعمال بشكوا من نفس المشاكل. السكنات نفسها من 10 سنوات رغم التقارير المكتوبة، ورغم عمل المنظمات، ورغم التقارير الصحفية، بس ولا تغير شيء». إنها منظومة من الصلابة بحيث أنه لا يبدو أن هناك أملًا بتغيير شامل، وما يمكن للنشطاء فعله هو المساعدة في حل مشاكل فردية هنا وهناك، من خلال تقديم المشورة، والتشبيك للحصول على المساعدة القانونية في الحالات التي تستدعي ذلك. 

قبل انخراطها في العمل النقابي، كانت الأمور بالنسبة لميرفت قد هدأت نسبيًا على جبهة العائلة، ولم يعد هناك من يتدخل في أدق تفاصيل حياتها وحركتها. وكان هذا الهامش من الحرية هو ما ساعدها بداية على خوض غمار العمل النقابي. لكن بعدها، صار هذا العمل عاملًا أساسيًا في تعميق هذه الحرية، وأخذها في مساحات لم تتوقعها هي نفسها. خلال هذه السنوات، أتيحت لها فرصة السفر لحضور ورشات عمل في سنغافورة وألمانيا والولايات المتحدة وإيطاليا وبلدان أخرى. وتتذكر جيدًا بفخر أول رحلة العام 2013 إلى سنغافورة. رغم أنها كانت المرة الأولى التي تركب فيها طائرة، ولم تكن تعرف حتى كيف تنتقل في المطار من بوابة إلى بوابة. وفي المؤتمر بذلت جهدًا كبيرًا لتفهم ما يقال، ولتشارك قدر ما تستطيع بإنجليزيتها الضعيفة آنذاك. لقد كانت تجربة جعلت خاطرًا يلح عليها أكثر من أي وقت مضى. «أنا دفنت حالي في البدايات (…) أنا وين راحت حياتي؟».

ثم قبل أربع سنوات وجدت ميرفت نفسها تنقل حياتها إلى أبعد، عندما بدأت تخطط للسكن وحدها. في السنوات الأخيرة كانت قد تخففت من المسؤوليات المالية التي رافقتها منذ شبابها الأول. والدها كان قد توفي أواخر العام 1998، وتوفيت والدتها السنة الماضية. وتزوجت جميع شقيقاتها، واستقل جميع أشقائها ماديًا. فكرة السكن وحدها، جاءتها لأول مرة قبل بضع سنوات، عندما طُرحت فكرة بيع منزل العائلة، وتقسيم ثمنه. تقول ميرفت إنها وقتها سألت أشقاءها وشقيقاتها «كلكم متجوزين، وأنا وين أروح؟». ووقتها صدمت بجواب والدتها التي كانت مؤيدة للبيع، وأبلغت ميرفت أنها عازمة على التنازل عن نصيبها لأبنائها الذكور، «حكتلي وأنت بتستأجري بيت وباجي بسكن معك»، تتذكر ميرفت هذا الموقف وهي تضحك بمرارة. 

وقتها بدأت تبحث عن شقة صغيرة لتشتريها بالأقساط. واختارت أن تكون في عمّان كي تكون بعيدة. لقد قوبلت هذه الخطوة في البداية بالمقاومة من قبل العائلة، ثم تراجعت المقاومة لتصبح مجرد اعتراض على المكان الذي قررت شراء الشقة فيه، وليس على مبدأ الشراء نفسه. لكنها في النهاية اشترت شقة في عمان، وأثثتها بالتدريج بما كان يفيض معها من راتبها. وهي تقيم حاليًا بينها ومنزل العائلة في إربد، حيث يقيم اثنان من أشقائها. تقول إنها ما زالت في منزل العائلة فقط لأن عملها الحالي في مؤسسة معنية أيضًا بالنشاط العمالي يقع في إربد. فقد تفككت بالتدريج مقاومة العائلة لفكرة عدم جواز استقلالها عنهم من دون زواج. وهي تذهب إلى شقتها نهاية كل أسبوع، وتقضي فيها يوميْ العطلة، تنظفها وتسقي النباتات. وتخطط للاستقرار فيها في حال عملت في عمان. 

تقول ميرفت، البالغة من العمر اليوم 49 عامًا، إنها تنظر في حياتها الحالية وتجد أن النقلة التي حققتها من الفتاة التي كانت تُضرب وتُحبس لأنها ذهبت إلى مطعم مع صديقاتها، إلى المرأة التي تملك حرية التنقل والسفر والسكن مستقلة، كانت كبيرة، وأبعد بكثير مما كان يصل إليه خيالها آنذاك. لكن المؤلم بالنسبة إليها هو أن ما وصلت إليه اليوم، ليس إلا حقوقا أساسية يتمتع بها أي رجل في هذا المجتمع بوصفها استحقاقات مسلم بها، من دون أن يمضي أجمل سنوات عمره يصارع من أجلها، كما فعلت هي فقط لأنها امرأة. «أنا دفعت الثمن ثلاثين سنة لحتى أوصل لهون». ومع ذلك هي سعيدة أنها اختارت أن تقاوم لأن هذا في النهاية ما مكنها من أن تحقق استقلاليتها. 

لقد أجريت هذه المقابلة مع ميرفت وهي جالسة على أريكتها في شقتها التي تقع في الطابق الرابع من البناية التي تسكن فيها. قالت إنها في رحلة بحثها عن شقة، وعندما كان أصحاب المكاتب العقارية يرونها شققا في التسويات والطوابق الأرضية، كانت تقول لهم «لأ، بدي أشوف الدنيا من فوق».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية