كيف نقع في حبّ النوم مجددًا؟

من المدينة المنورة، السعودية، تصوير مؤمن ملكاوي

كيف نقع في حبّ النوم مجددًا؟

الخميس 09 حزيران 2022

ترجم هذا المقال بتصرّف عن النسخة الإنجليزية منه، والتي نشرت في مجلة أيون.

تحول النوم من كونه تجربة شخصية عميقة إلى أن صار عمليةً سيكولوجية، ومن الأسطوري إلى الطبي، ومن الرومانسيّ إلى مسألة يمكن تسويقها. وأصبح شعورنا بالنوم الذي يُساء فهمه، مع ما يصاحبه من هوس ضبطه، من بين أهم العوامل التي يتم تجاهلها في مرض قلة النوم المعاصر. ورغم عقود من الأبحاث المبتكرة حول النوم، وزيادة أعداد المتخصصين والعيادات المختصة بالنوم، ورغم الاهتمام البالغ من وسائل الإعلام ومبادرات التوعية بالصحة العامة، إلا أن قلة النوم والأرق مرضان يزدادان سوءًا على ما يبدو.  

لو نظرنا إلى أي عام، سنجد أن 30% من البالغين يشتكون على الأقل من عَرَض واحد من أعراض الأرق، بما في ذلك صعوبة الخلود إلى النوم أو الاستمرار في النوم أو الاستمتاع بنومٍ عميق (مُجدِّد للنشاط). شهد العقد الأول من القرن الحالي زيادات مذهلة في انتشار الأرق، وما يصاحبه من ضعف خلال النهار، وكذلك استخدام الأقراص المنومة. خلال تلك الفترة، قفزت نسبة تشخيص اضطرابات النوم بما يعادل 266%، بينما ارتفعت أعداد الوصفات الطبية لأدوية النوم بنسبة 293%. كما يعانى ملايين آخرون من أنماط مزمنة من قلة النوم ناتجة عن تطلعات الحياة الحديثة التي لا تُطاق. في عام 1998، أشارت المؤسسة الوطنية الأمريكية للنوم إلى أن 12% من الأمريكيين ناموا أقل من 6 ساعات يوميًا. وبحلول عام 2005، قفز هذا العدد إلى 16%.    

لم يعد جديدًا الحديث عن التأثير الضار لقلة النوم المزمنة على الحياة اليومية. فقلة النوم تعرّض إنتاجيتنا وسلامتنا للخطر بشكلٍ كبير، كما تُضعِف صحتنا البدنية والنفسية بصورة خطيرة من خلال التسبب في التهابات مزمنة في الدماغ والجسم. وتعد الالتهابات المزمنة إحدى عوامل الخطر لأمراض القلب والأوعية الدموية، والاضطرابات العصبية، وأمراض المناعة الذاتية، والسكري والسمنة والسرطان والاكتئاب. كما يعاني الأشخاص المصابون بالأرق معاناة شديدة في الليل، فبخلاف الإحباطات الواضحة حيال جهودهم التي تذهب سُدى أثناء محاولتهم النوم، والقلق المتزايد حول عواقب استمرار قلة النوم، يعاني الكثير أيضًا من الشعور بالوحدة والخزي واليأس. ورغم كبت تلك المشاعر خلال النهار، إلا أنها تظل باقية تحت السطح، وتقوّض جودة الحياة، وتزيد بشكل كبير من مخاطر الإصابة بالاكتئاب والميول الانتحارية.

لقد أحدثت الثورة الصناعية تحولًا جذريًا في تصورنا عن النوم من كونه تجربة لطيفة ومتسامية، إلى أن صار عمليةً ميكانيكيةً وطبيةً حيوية.

لقد أحدثت الثورة الصناعية تحولًا جذريًا في تصورنا عن النوم من كونه تجربة لطيفة ومتسامية، إلى أن صار عمليةً ميكانيكيةً وطبيةً حيوية. فمع تزايد الفلسفات الميكانيكية، بزغت الآلة بوصفها بطلًا جديدًا، آتية بوعد الخلاص من كافة العلل البشرية، وأصبحت الطاقة عملة ذهبية. نمت الآلات والعمال في جميع أنحاء العالم الغربي مع مناجم الفحم والمقاهي. وأسّس التحول الصناعي لأزمة طاقة عالمية، لتصبح بمثابة مجاز لأزمة الطاقة الشخصية لدينا. فقد أصبح اليوم النفط والقهوة أكثر السلع تداولًا في العالم. وصرنا مجتمعًا مدمنًا على الطاقة ومعتمدًا على الأطعمة والمشروبات والمعلومات والترفيه وأضواء الليل المحفِزة بشكلٍ مفرط. ومعتمد أيضًا على الشبكة العالمية الكثيفة للآلات اللازمة لصنع نمط الحياة هذا والمحافظة عليه.

كما لم يعد بإمكاننا إنكار أوجه التشابه اللافتة بين الاحتباس الحراري والالتهابات المزمنة. فاستهلاكنا المفرط للطاقة يرفع حرارة الكوكب والبشر في نهاية المطاف، وكلاهما يحتاج للاسترخاء في الليل من أجل النوم. بينما يمكن للالتهابات المزمنة أن ترفع حرارة جسمنا الأساسية إلى نقطة مقاربة للحمّى حرفيًا، ما يزيد من حرارة أدمغتنا وأجسامنا ويعرقل نومنا.

لقد تعدى التحول الصناعي على الليل والنوم. فبينما كانت السماء في العصور القديمة ممتلئة بكوكبة جامحة من الآلهة، تزدحم السماوات اليوم بالآلات الطائرة، بما في ذلك عشرات الآلاف من الطائرات والأقمار الصناعية. وتبقى نيكس في تلك الأثناء في منفاها، غير قادرة على التسامح مع البيئة الملوثة بالضوء. ويُصاب هيبنوس [إله النوم في الميثولوجيا الإغريقية] بالضعف من دون أمه. لقد حُطَّ من شأن النوم باعتباره عدوًا للحضارة في ذروة التحول الصناعي، وقاد توماس إديسون حملة شعبية للهيمنة على النوم، بل والتخلص منه. واستُدرِجَ النوم من موطنه الأصلي المنتمي للطبيعة، وكأنه كائن برّي، ورُوّضَ لخدمة الحياة الصناعية. وأصبح النوم في يومنا هذا مخنوقًا، أو محتجزًا، أو محبوسًا في قفصٍ وكأنه حيوان أليف. حيث نعمل على تقييده بخلودنا إليه في أوقاتٍ متأخرة من الليل واستيقاظنا منه في أوقاتٍ مبكرة يضبطها جرس المنبه الميكانيكي. هل من الممكن أن نفكر في ضبط منبه لتقليص أي عمليات طبيعية بشرية أخرى؟ تخيّل معي ضبط منبه للحد من الوقت الذي نقضيه في الاستمتاع بوجبة طعام أو ممارسة الجنس.

في العقود الأخيرة، شقّت عملية ترويض النوم الطريق أمام التدخل الطبي فيه. فاختُطِف هيبنوس واحتُجز أسيرًا في المختبرات البحثية، والعيادات، والصيدليات. وشجّعَنا مجال طب النوم على التفكير في النوم بوصفه عملية طبية حيوية معقدة تقع خارج وعينا، وهو منظور يعيق علاقتنا الشخصية مع النوم.

يحجب التدخل الطبي التجربة الذاتية للنوم ويستبدلها بالمقاييس الموضوعية، فقد بتنا اليوم نتحدث عن نومنا كما نفعل مع مشاكلنا الصحية الأخرى، مستخدمين لغة الأرقام. وأصبحنا ننشغل بالوقت الذي تستغرقه مراحل النوم المختلفة، وكفاءة النوم، وكذلك بالطبع وقت النوم الإجمالي. لقد أصبح أكثر سؤال يُطرَح عليّ كوني متخصصًا في النوم والأحلام هو كم عدد ساعات النوم التي أحتاجها؟ وكأن مدة النوم تعتبر المعيار الحاسم في الأمر. لكن ذلك يشبه أن نقول: «كم عدد السعرات الحرارية التي ينبغي عليّ تناولها؟» والإجابة بالطبع على كلا السؤالين أن «الأمر يتوقف على عوامل عديدة». 

رغم عقود من الأبحاث المبتكرة حول النوم، وزيادة أعداد المتخصصين والعيادات المختصة بالنوم، ورغم الاهتمام البالغ من وسائل الإعلام ومبادرات التوعية بالصحة العامة، إلا أن قلة النوم والأرق مرضان يزدادان سوءًا على ما يبدو.

إن الأرقام محيرة. فكما أن الاسم ليس هو المعيار الحاكم، كذلك العدد. صحيح أن مقاييس النوم مفيدة، لكنها مجرد معايير لنشاط فسيولوجي مرتبط بالنوم، وليس للنوم الفعلي. ويختزل التدخل الطبي النومَ إلى مجرد نظام صحي، ثم يحاول ضبطه كما التمرين والإجهاد والنظام الغذائي. ونحن بدورنا نُدخِل على نومنا عددًا لا نهائيًا من نصائح الخبراء من الكتب والمقالات والمدونات التي لا تُحصى. وعندما تفشل تلك الحلول المُرَقّعة، وهي حتمًا ما تفشل، نصبح ضعفاء أمام إغواء الإعلانات المباشرة للأقراص المنومة.              

يشجع التدخل الطبي على استخدام الأدوية غير الفعالة والخطيرة. إذ تنتج الأقراص المنومة في الواقع نوعًا من السُبات المزيف، من خلال الحث على فقدان الذاكرة لليقظة الليلية. إلا أنها لا تعالج فقدان الذاكرة، بل تُخفي أعراضها. والاعتماد المستمر على الأقراص المنومة يقوّض الكفاءة الذاتية لنومنا، أو الثقة في قدرتنا الفطرية على النوم. كما ينتج عنه نوع من الاعتمادية والإدمان، ويزيد بشكل كبير من احتمالية الإصابة بأمراض خطيرة والوفاة.

ليس المقصود هنا القول إننا لا ينبغي أن نأخذ أي شيء لكي ننام. فقد كان هيبنوس مولعًا بزهرة الخشخاش، واحتفظ بحفنة منها في يده واستخدمها في استدعاء النوم. لكن الخطأ الأساسي في التدخل الطبي هو استخدام الأدوية أو النصائح الطبية لتحل محل النوم. وعلى المدى البعيد، فإن إضفاء تعديلات على نومنا من خلال الأقراص أو النصائح لن يُجدي نفعًا لأنه يلتف على حاجتنا لأن نسمو طواعية على ذاتنا اليقظة.

ليس المقصود هنا القول إننا لا ينبغي أن نأخذ أي شيء لكي ننام، لكن الخطأ الأساسي في التدخل الطبي هو استخدام الأدوية أو النصائح الطبية لتحل محل النوم.

عندما أتحدث للعامة ولجمهور المتخصصين حول موضوع النوم، عادة ما أستهل حديثي بسؤال: «ما هو النوم؟» يحل الصمت على القاعة للحظات قبل أن يتردد فيها صدى عبارات غير مؤكدة مثل عدم اليقظة أو اللاوعي أو، بإجابة المتخصصين، نوم حركة العين السريعة (وهي مرحلة الأحلام كما يعرفها العلماء). والمراد هنا أنه إذا حاولنا تعريف النوم ستكون الإجابة بالسلب، أي تعريف الشيء بضده. فهو ليس اليقظة ولا الوعي ولا الأحلام. وإذا ألححت على أخصائي نوم ليقول المزيد، فعلى الأرجح سيشير إلى الفوائد العديدة التي يمنحها النوم لصحتنا، وأدائنا، ومظهرنا، وإنتاجيتنا، وإبداعنا، ومزاجنا، وغيره الكثير. وسوف يقدم أوصافًا معقدةً لما يدور داخل أجسامنا وأدمغتنا أثناء النوم من حيث الموجات الدماغية التي تُقاس بآلية تخطيط كهربية الدماغ (EEG) والفسيولوجيا العصبية.

لكن النوم الفعلي لا يمكن اختزاله في تقارير تتبع تخطيط كهربية الدماغ المتعرجة والسلسلة الليلية للأورام العصبية. ورغم أهمية نظرة الطب الحيوي الموضوعية للنوم، إلا أنها غير كافية لأنها تتجاهل بشكل كبير تجربة الشخص النائم، بل وتتجاهل إلى حدٍ كبير النوم ذاته. فالدماغ لا ينام، ولا حتى الجسم. لكننا نحن مَن ننام.      

لقد علّمنا الفلاسفة العظماء أن معظمنا يُسيء تقدير حدود إدراكنا الخاص وتختلط علينا بحدود الكون. وتنطبق تلك المعضلة على تعاملنا المعاصر مع موضوع النوم أكثر مما تنطبق على أي شيء آخر. فنحن غارقون في زمن شبيه بزمن ما قبل كوبرنيكوس ويتمحور حول فكرة اليقظة عند تناول مسألة الوعي. حيث نفترض أن اليقظة هي مركز عالم الوعي، ونضع النوم والأحلام في منزلة ثانوية تابعة.

فالنظر إلى النوم بمفرده من منظور عالم اليقظة يشبه النظر إلى سماء ليلة متألقة باستخدام نظارات شمسية سوداء. لقد أصبحنا أسرى اليقظة، وصرنا في حالة إدمان خفي لكنه خبيث لوعي اليقظة العادي الذي يحد من فهمنا وخبرتنا مع النوم.

تمثل اليقظة أساسًا للتدخل الطبي في النوم وترويضه، معززةً بذلك وضعية فرط يقظة سريعة وقاسية وغير منتظمة. وينعكس ذلك في كلمات أغنية جون لينين بعنوان «أنا متعب للغاية» (1968)، التي تقول:

أتعلم! أنا لا أستطيع النوم، لا أستطيع إيقاف دماغي
أتعلم! لقد مرّ ثلاثة أسابيع، وبتُّ أفقد صوابي
أتعلم! سأمنحك كل ما لديّ مقابل القليل من راحة البال  

تعتبر فرط اليقظة نتيجة حتمية ليقظتنا. وهي تشير إلى وتيرة حياة بالغة التسارع لا تتضمنها راحة كافية. إنها حالة معدية اجتماعيًا متجذرة في التجاهل المتغطرس للإيقاعات الطبيعية، وتؤيدها الثقافة الشعبية بشدة. إنها إدمان رخيص الثمن، وولع غير طبيعي لا يخلو من آثارٍ جانبية خطيرة.  

ترتبط فرط اليقظة بارتفاع درجة حرارة الجسم والدماغ، حيث تتميز بموجات دماغية استباقية ونبض متسارع. ومن خلال ربطنا بذروة الاستيقاظ، لا تتدخل فرط اليقظة في خلودنا ليلًا إلى النوم فحسب، بل تحجب أيضًا شعورنا بالنعاس أثناء النهار. إذ تشجع فرط اليقظة والأرق على إدمان المخدرات والأدوية، فالكافيين ومشروبات الطاقة والأدوية المنشطة تساعد على تأجيج الشعور بالشرود الدائم، في حين يوفر الكحول والماريجوانا وأدوية التخدير فرصًا مؤقتة ومصطنعة للراحة.

وبين تطلعات إيكاروس الجامحة وحتى مقاومة بيتر بان الهبوط، تعد فرط اليقظة بكل وضوح تحديًا بشريًا نموذجيًا. فنحن نُستَدرَج نحو الذروة، ونُدفَع لتحدي الجاذبية والتحليق مع الآلهة. لقد تعلمنا أنه من المقبول، بل وحتى من المفضّل، أن نبقى مستيقظين في الليل. ولا نرغب في التمهل أو التنازل أو حتى التوقف عن فعل ذلك. فنحن نرى مجدًا ما في التحرر من إملاءات الطبيعة الأم حول الساعة البيولوجية.

نجد رموز هذا الجموح المراهِق متجسدة في أبطال موسيقى الروك أند رول. حيث تستمر الأحجار في التدحرج، ويواصل إيروسميث التحليق، ويفي جيم موريسون بتعهده بألا يفقد النشوة أبدًا. وتعد مشية القمر لمايكل جاكسون وعقاره المسمى نيفرلاند رموزًا مذهلة ليقظتنا. ورغم ربط وفاة جاكسون بجرعة زائدة من مخدر بروبوفول، إلا أن السبب الحقيقي لوفاته كان مضاعفات فرط اليقظة. إن وباء وفيات النجوم المرتبطة بمحاولات دوائية يائسة للهبوط أمر مثير للجدل ومُنذر.

تتسبب فرط اليقظة في مرضنا، كما أنها تبقينا متعبين ومتصلين في الوقت نفسه. وأن يكون المرء متعبًا ومتصلًا في ذات الوقت هو المعادل النفسي (السيكولوجي) لأن يكون معذبًا على المخلعة. فبينما تجذبنا اليقظة دائمًا إلى أعلى، تسحبنا جاذبية نعاسنا المتزايد إلى أسفل. ويعني ذلك أن هناك قوى متساوية القدرة تشدنا بصورة غير مريحة في اتجاهات متعاكسة. وليس من المفاجئ معرفة أن فرط اليقظة يرتبط بالاكتئاب، والذي يصاحبه شعور مستمر بالتعثر.

هل من الممكن أن يكون الحس الإلهي الحديث بداخلنا هو ما يشجع على فرط اليقظة؟ على كل حال، نادرًا ما يهبط الإله وفق المعتقد اليهودي والمسيحي من مسكنه في السماوات، ومن المعروف أنه عمِلَ بلا هوادة لأيامٍ طوال قبل أن يأخذ يومًا للراحة. وعلى النقيض تمامًا، كانت آلهة العصور القديمة موصولة بالأرض، رغم قدرتها على الطيران، فقد عاشت على الأرض أو على سفوح الجبال أو تحت الأرض، مثل نيكس وهيبنوس. ورغم أن نيكس صعدت ليلًا التزامًا بواجبها، إلا أنها عادت بكل إخلاص إلى مسكنها تحت الأرض للراحة اليومية.

مثلما تهبط الطائرة تدريجيًا بعد تحليقها فوق السحاب، تنطوي العودة عن حالة فرط اليقظة خوض ومواجهة طبقة من الاضطرابات. فقد يهتز الجسم ويقفز ويرتعش بينما يواجه الدماغ تيارات من القلق والأفكار والمشاعر العالقة.

يحجب التدخل الطبي الطبيعة الحقيقية للنوم، أي طوله وعمقه ومتعته. كما يخفي الأبعاد الشخصية والمتسامية والرومانسية للنوم. نحن في حاجة ماسة لاستعادة إحساسنا بالأبعاد الأسطورية للنوم وإعادة تخيل تجربتنا الشخصية معه، ولديَ يقين بأن تحقيق ذلك على أفضل وجه يكون من خلال الشعر والروحانية، والتأمل الذاتي بالأساس.

بدءًا من جلال الدين الرومي، الذي كتب «كل إنسان يسري في الليل إلى المحب المجهول»، وحتى ماري أوليفر، التي وصفت الليل بأنه «هلاك مُضيء»، اكتشف عدد لا يُحصى من الشعراء على مر العصور ألغاز النوم التجريبية والرومانسية. كما نظرت النصوص المقدسة من التقاليد الهندوسية والبوذية واليهودية والإسلامية والمسيحية وغيرها من التقاليد إلى النوم باعتباره تجربةً متسامية. وعلى نحو مماثل، تؤكد أعمال الرواد الروحيين مثل رودلف شتاينر وسري أوروبندو وكين ويلبر على الطبيعة المتسامية للنوم.

على الجانب الآخر، تفترض النظرة الطبية المعاصرة أن عالم النوم يخلو من شيء يستحق التساؤل الذاتي، وهناك اعتقاد أن النوم نفسه يقع خارج حدود إمكاناتنا للوعي. ورغم قدرتنا على الوعي بالأحلام، إلا أنها غالبًا ما تعتبر بلا قيمة أو معنى. لكن تجاهل قيمة الأحلام يغلق الباب أمام تجربتنا المباشرة والأسهل في النوم، كما يضعِف ويخمِد الأبعاد الحسية للنوم، وهي أوضح ما تكون في الأحلام. وبذلك أصبحنا حقيقةً وبصورة روتينية مُثارين جنسيًا في أحلام نومنا، سواء كنا على دراية بذلك أم لا.

ترى وجهات النظر الأسطورية أن هناك شيئًا ما في مياه النوم العميقة يستحق الوصول إليه، وتدعونا للتفكر والتساؤل بشكل شخصي حول هذا الأمر، وهي تشجعنا، بصورة مجازية، على النزول إلى مياه النوم وعيننا الثالثة مفتوحة، إذ يعتبر النوم العميق، من منظور أسطوري، حالة من السكينة التامة، لكننا عادة ما نفشل في ملاحظتها بسبب حالة اليقظة المسيطرة علينا، ونفترض أن الوعي بالنوم العميق أمر مستحيل بسبب عدم وجود نقاط مرجعية لدينا لليقظة لكي نتصوره أو نسميه أو نذكره. إلا أن الأبحاث الجديدة في اليوجا نيدرا، والتي تركز على الحفاظ على الوعي خلال حالات الاسترخاء والنوم العميقين، تؤكد ما أشارت إليه النصوص الروحانية منذ قرون: أن الوعي بالنوم العميق يمكن بلوغه في حقيقة الأمر. ومثل المناهج الأسطورية الأخرى، ترى أدفايتا فيدانتا، وهي مدرسة فلسفية هندوسية، أن النوم العميق الخالي من الأحلام هو أعلى حالة من الوعي، فهو عودة إلى وعينا الافتراضي وذاتنا العميقة.

30% من البالغين يشتكون على الأقل من عَرَض واحد من أعراض الأرق، بما في ذلك صعوبة الخلود إلى النوم أو الاستمرار في النوم أو الاستمتاع بنومٍ عميق

لا يمكن اعتبار قلة النوم إذن مجرد مشكلة طبية؛ إنها أيضًا تحدٍ روحاني خطير، فكفاحنا الملحمي لنحظى بنومٍ عميق هو في جوهره كفاح للوصول إلى جوانب أعمق في ذواتنا. نحن اليقظون نفترض أن هويتنا وحقيقتنا تقتصر على هويتنا في عالم اليقظة، لكن جوانب أساسية من هويتنا يحجبها وهج حياة اليقظة. وتتجلى تلك الجوانب بأوضح ما يكون في الليل؛ في المياه العميقة للنوم والأحلام.

يهدد النوم العميق والطبيعي ذاتنا المتمحورة حول اليقظة. ويبدو من المنطقي أن يكون ثاناتوس، إله الموت عند الإغريق، وهيبنوس أخَوَين. وتعتبر العلاقة غير المستقرة والنموذجية بين النوم والموت أمرًا شائعًا في الحقيقة في كثير من الثقافات حول العالم، إذ يعلمنا دالاي لاما أن التجربة النفسية الروحية للنوم تتطابق مع تجربة الموت، فذاتنا اليقظة والمألوفة لدينا تموت أثناء النوم. إن الانفتاح على إقامة حوار مستمر مع هيبنوس -والذي من شأنه أن يُثْمِر فَهْمًا أعمق للنوم- يعلّمنا أن ذاتنا اليقظة الطبيعية ليست سوى إحساس محدود لذاتنا النائمة الأعمق.

سوف تؤثر الطريقة التي نتناول بها مسألة النوم -أي كيف نخلد إلى الفراش- على عمق استغراقنا في النوم. ويدعونا استسلام إحساس اليقظة في أنفسنا إلى وقفة تواضع، فالتواضع بمثابة الترياق لفرط اليقظة، إذ يتصدى للعجرفة التي تغذي مركزية اليقظة والتدخل الطبي في النوم. ويمكن القول إن التواضع هو المكون الأساسي المفقود في جهودنا الفاشلة لعلاج وباء الأرق.

مثلما تهبط الطائرة تدريجيًا بعد تحليقها فوق السحاب، تنطوي العودة عن حالة فرط اليقظة خوض ومواجهة طبقة من الاضطرابات. فقد يهتز الجسم ويقفز ويرتعش بينما يواجه الدماغ تيارات من القلق والأفكار والمشاعر العالقة. ويكمن التحدي الماثل أمامنا في تجنب الارتداد لأعلى لا إراديًا هربًا من تلك المواجهة. ومن هنا يتلخص التواضع في الثقة بأن الأمان الذي يوفره النوم يكمن مباشرة خلف تلك الاضطرابات.

على العكس من الانهيار والسقوط في النوم من شدة الإرهاق، أو تدمير أنفسنا بالمخدرات أو الكحول، يدفعنا التواضع إلى الخضوع بوعي وعن قصد للنوم، لنكتنف برعاية هيبنوس، بمعنى آخر نحن نضع أجسامنا على السرير بقصد ثم نفقد عقلنا بإرادتنا، لنطلق سراح إحساسنا باليقظة من أنفسنا.

ليس من السهل جعل الجسم يغفو. فهو يخضع في كثير من الأحيان لإرادة الدماغ، فيتسبب في إرهاقه ورفع حرارته. ويتطلب الحفاظ على الجسم من ارتفاع الحرارة نمط حياة مضاد للالتهابات؛ أي تغذيةً جيدة، وتمرينًا منتظمًا، وإدارة الضغوط بشكل فعّال. كما يمكن لحمام دافئ، ويوغا لطيفة، وغرفة نوم بدرجة حرارة منخفضة أن تساعد جميعها في تبريد الجسم قبل النوم. يمكن أيضًا للاستخدام الذكي للميلاتونين، وهو من أشهر المكملات الغذائية حول العالم، أن يساعد على ذلك.

تنظر ذاتنا اليقظة إلى النوم باعتباره حادثًا، ويمكننا فقط أن ننزلق أو نتعثر أو نقع فيه. لكن تعاملًا كهذا مع النوم على أنه مشكلة هو الفخ الرئيسي، إذ لا يمكننا أن نتسبب عمدًا في وقوع حادثة.

من أجل أن تهبط الطائرة وتلامس الأرض، لابد وأن تتعاون مع الجاذبية. ويمكننا بالمثل أن نطوّع مساعدة الجاذبية في خلودنا إلى النوم. وعلى العكس من الاتجاه الشائع بالنوم تحت بطانيات وثيرة وأخف من ذي قبل، من المفيد لكثير منا استخدام بطانيات ثقيلة لتزيد من تأثير الجاذبية بشكل أساسي، حيث تعمل البطانيات الثقيلة بصورة مشابهة لتقميط الكبار لأطفالهم ما يساعد على التصدي لفرط اليقظة. فالمقصود من الأمر ليس النوم على سحابة، بل النوم مثل الحجر.    

يجب أن يكون الجسم موصولًا بالأرض ومرتكزًا لكي ينام جيدًا. كتبت الشاعرة ماري أوليفر في قصيدتها «النوم في الغابة» (1979): «اعتقدت أن الأرض لا تزال تذكرني، فقد أعادتني برفق». إن كلمة سرير في حقيقة الأمر مشتقة من أحواض الزراعة. فنحن نعيد زراعة الجسم في السرير ليعود مؤقتًا إلى أصوله فيزدهر. تُكمِل أوليفر قصيدتها: «لم أنم أبدًا بشكل أفضل، هناك مثل صخرة على قاع النهر».

على عكس القطط التي تُفضِّل الارتفاع من أجل النوم، تهبط الكلاب حرفيًا إلى أسفل. حيث تلتف الكلاب بفطرتها حول نفسها فوق بقعة من الأرض لتتجهز للنوم، وبذلك تعتبر نموذجًا للتواضع. ويتسبب استعدادها وجاهزيتها للهبوط في تداول الملصقات التي تحمل صورًا لجراء مختلفة، كونها تكسر زخم فرط اليقظة وتستبدله بالتواضع. النوم مساوٍ عظيم، فجميعنا نكون على نفس الارتفاع عندما نكون في أسرّتنا.  

عوضًا عن أن ننهار نائمين عندما تتساقط أجنحتنا، أو أن ندمر أنفسنا بالمخدرات أو الكحول، يجب أن نكون على استعداد لفعل أمرين لكي نخلد إلى النوم بصورة طبيعية. علينا أولًا أن نفقد عقلنا، لكي يستسلم إحساسنا باليقظة في نفسنا، كما نحتاج لأن نستدعي النوم.

بينما يستقر الجسم في السرير، يكون التحدي أمامنا في التخلي عن عقلنا العادي، أي إحساسنا باليقظة في نفسنا. هذا الجزء فينا، الذي عادة ما نطلق عليه الـ«أنا»، غير قادر على النوم ببساطة. فهو قادر على أخذنا إلى شاطئ بحر النوم، لكنه لا يستطيع السباحة. وبحكم التعريف، يستطيع هذا الجزء فينا الذي نطلق عليه الـ«أنا» أن يستيقظ فقط، لأن اليقظة تَعتبر أن هذه الأنا هي كل ما نملك، وأنها تعزز إدماننا على اليقظة ونفورنا من الخلود إلى النوم. وتعد عبارة «لا يمكنني النوم»، وهي الشعار العالمي للأرق، صحيحة بطبيعتها. لذا فالإيمان بأن الذات اليقظة تحتاج لتعلم النوم يعد أمرًا فطريًا.

ساهم العلاج السلوكي المعرفي للأرق، وهو فرع من طب النوم يركز على البدائل النفسية للأدوية، مساهمة بالغة في التخلص من الأرق، فقد أجرى أبحاثًا وابتكر تدخلاتٍ مفيدة، مثل النوم الصحي، والتحكم في وجود منبه، وتحدي المفاهيم الخاطئة عن النوم، لكنها جميعها أمور مقيدة بعدم إدراكنا لعجزنا عن تعليم الذات اليقظة أن تنام. فالنوم في النهاية يعد فنًا وليس علمًا.

رغم ما قد يبدو عليها من تناقض، إلا أن وجهات النظر الطبية والأسطورية عن النوم لا بد وأن تُدمَج إذا أردنا التصدي بفاعلية لوباء الأرق المنتشر بيننا.

تنظر ذاتنا اليقظة إلى النوم باعتباره حادثًا، ويمكننا فقط أن ننزلق أو نتعثر أو نقع فيه. لكن تعاملًا كهذا مع النوم على أنه مشكلة هو الفخ الرئيسي، إذ لا يمكننا أن نتسبب عمدًا في وقوع حادثة، وهو ما تحاول ذاتنا اليقظة القيام به باستمرار، وبهذا يكون في التخلي عن الذات اليقظة شيء من التواضع، وبفعلنا ذلك، نفتح أنفسنا أكثر على التفكير في شيء خارج ذواتنا، وعلى توجيه دعوة للنوم.

كان النوم في العصور القديمة محكومًا بقوى إلهية جبارة، ويمكن بلوغه بالتضرّع للآلهة. ويدور هذا التضرع حول الانفتاح على سرّ مقدّس خيِّر، أو طلب المعونة الإلهية، أو الاتصال بقوى عليا من خلال التأمل أو الصلاة أو إقامة شعائر مقدسة. يعني ذلك أن نفتح حوارًا قائمًا على الاحترام مع النوم. فذلك الإملاء الشائع في الليل بأن «عليك أن تذهب إلى النوم» هو في نهاية المطاف طلب، سواء أكان نابعًا من ذاتنا أو من شخصٍ آخر. لكن على العكس، يعتبر استدعاء النوم حديثًا ألطف وأحنّ من ذلك، فهو بمثابة دعوة مُقدَّمة من مُحِب أو من هيبنوس نفسه «بأن تأتي لتنام». يساعدنا استدعاء النوم على الوقوع في حب هذا الفعل نفسه.

رغم ما قد يبدو عليها من تناقض، إلا أن وجهات النظر الطبية والأسطورية عن النوم لا بد وأن تُدمَج إذا أردنا التصدي بفاعلية لوباء الأرق المنتشر بيننا. ومن هنا فإن إدخال المشورة الطبية المتخصصة على نومنا يتطلب في الوقت نفسه أن نبدّل إحساسنا بالنوم بمساعدة الحكمة الأسطورية القديمة. كما علينا أن نتعامل مع النوم بشكل عملي من دون أن نتجاهل علاقتنا الشخصية والحميمية معه.

لقد استغنى هيبنوس بلطف عن النوم. لكن النوم لم يكن جائزة نفوز بها ولا سلعة نشتريها، مثلما لم يكن شيئًا علينا أن نعمل من أجله، بل هو شيء علينا أن نكون مستعدين للتوقف عن العمل من أجله. لقد مُنِحَ النوم باعتباره هدية وتعبيرًا عن الحب.

بعد الانتهاء من محاضراتي عن الأرق، عادة ما يأتيني بعض الحاضرين من الجمهور بتعليقات أو أسئلة شخصية. وفي بعض الأحيان، ينتظر أحدهم في نهاية الصف متعمدًا أملًا في شيء من الخصوصية، وقد يراقب المكان للتأكد من أن أحدًا ليس بمقربة ليسمع حديثه ثم يميل ليهمس: «أنا أحب النوم! أقصد أنني أحبه حقًا!» ربما لا يود هؤلاء إيذاء مشاعر جميع الغافلين في القاعة، أو ربما يشعرون بالضعف لمشاركتهم أمرًا عزيزًا جدًا عليهم.

لا ينبع حب هؤلاء للنوم من يأسهم من الأرق المزمن، بل على العكس تمامًا، هو إخلاص صادق للعلاقة الحميمة مع النوم، ولقاء رومانسي في الليل مع هيبنوس. إن التعامل مع النوم بوعي مع إبقاء عيننا الثالثة مفتوحة أمر محفوف بالمخاطر، لكن الانفتاح على استقباله باعتباره هبة يجعلنا أقرب للوقوع في حب النوم.


* روبن نايمان هو طبيب نفسي متخصص في طب النوم والأحلام، وأستاذ مساعد إكلينيكي للطب في مركز أندرو ويل للطب التكاملي في جامعة أريزونا.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية