نورٌ طوال الليل بأكمله: كيف يُغتال نومنا البريء؟

الإثنين 30 أيار 2022
النوم
تصميم محمد شحادة.

يورد نيل بوستمان في كتابه «تكنوبولي: كيف استسلمت الثقافة للتكنولوجيا» قصة ينقلها عن المؤرخ لويس مامفورد، يشرح من خلالها كيف تعمل التكنولوجيا بأشكالٍ لم نكن نتصورها لحظة اختراعها. في القصة، يبحث بعض الرهبان في أحد الأديرة البندكتية خلال القرنين الثاني والثالث عشر عن طريقة تساعدهم على إضفاء الانتظام إلى طقوس عبادتهم التي تتطلب أداء سبع صلوات خلال اليوم، ومن هذه الحاجة لعب الجرس دور المعلن عن قيام ساعة الصلاة وظهرت الساعة الميكانيكية.

ما لم يتنبأ به الرهبان، وفقًا لبوستمان، هو الآثار التي سيحدثها اختراعهم على نطاقٍ أوسع. إذ إن تأثير اختراع الساعة لم يتوقف عند تتبع مرور الوقت وحسب، بل امتد إلى تنسيق حركات الإنسان والتحكّم بها أيضًا. ومع شيوع الساعة خارج أسوار الدير، وإسهامها في ظهور مفاهيم الإنتاج المنتظم وساعات العمل والمنتجات القياسية، ظهرت الملامح الأولى للنظام الرأسمالي في أوروبا. وهكذا ساهم مجموعة رجال يبحثون عن تكريس أنفسهم لخدمة الرب في ظهور أولئك الذين كرّسوا أنفسهم لمراكمة الثروات. 

ليس ثمة إجماع حول من اخترع الساعة أولًا، لذا لن نستفيد هنا من قيمة الحكاية التاريخية بقدر ما ستفيدنا في النظر إلى العلاقة بين «الوقت» وحياتنا، فكما يقول مامفورد، لم تكن لتتوفر شروط نشوء الرأسمالية دون هذا الانتظام. على الجهة الأخرى غيّر هذا النظام الوقت من حولنا وأعاد تركيبه، وما الذي نفعله خلال هذا الوقت، داخل العمل وخارجه وأثناء الراحة والتسلية وغير ذلك، لذا لا يبدو من المستغرب أن نبحث في هذه العلاقة مع جزءٍ آخر وهو النوم.

خطوة إلى الأمام، خطوة إلى الخلف

تنتقل معظم دول العالم، خلال شهري آذار ونيسان نحو التوقيت الصيفي، وتقدّم التوقيت (في حين تعمد دول أخرى على الانتقال إلى التوقيت الصيفي في شهري أيلول وتشرين الأول نظرًا إلى اختلاف مواعيد الفصول فيها عمّا نعرفه). اليوم، تبدو هذه العملية شديدة البديهية ومن المسلّمات بالنسبة لبعضنا -رغم اللبكة التي تحدث أثناء تطبيقها-، إلا أن الطريق نحو هذا الحال لم يكن كذلك.

عرف البشر في السابق طرقًا عدة لمزامنة نشاطاتهم بحسب المواسم والتغيرات في الساعات التي يغطيها النهار، فكان الرومان مثلًا يعدّلون من عيارات الساعات المائية في يومي الانقلاب الصيفي والشتوي. إلا أن هذه الأشكال كانت تتخذ من الشمس مرجعًا أساسيًا لها، بسبب الافتقار إلى آلية دقيقة لقياس الوقت. وبعد أن صار البشر قادرين على قياس الوقت بدقة أكبر، ومع تحوّل التصنيع إلى نشاطٍ رئيسي، بدأت هذه الطرق تصبح أكثر تعلّقًا برقمٍ معيّن وأقل ارتباطًا بالشمس ذاتها.

ففي عام 1895، اقترح الفلكي البريطاني جورج هدسون تقديم عقارب الساعة لـ120 دقيقة، أي ساعتين، للاستفادة من ضوء النهار. وارتبطت المرحلة الأولى من تطبيق هذا المقترح بـ«أوقات الحرب» وضروراتها، وكانت البداية من ألمانيا التي تبعتها المملكة المتحدة وفرنسا والولايات المتحدة، بقصد توفير استخدام الطاقة للإنارة. منذ ذلك الحين، صار التوقيت الصيفي ملازمًا للحروب والأزمات، كالحرب العالمية الثانية وأزمات الطاقة في السبعينيات، وتفاوتت ردود أفعال الدول حياله، حتى إن الاتحاد الأوروبي الذي كان يتهيأ للاستغناء عنه كليًا، أوقف خططه بعد بريكسيت وجائحة كورونا، بينما عادت إليه دولة مثل مصر منذ سنواتٍ فقط لاحتواء أزمة الطاقة قبل أن تتخلى عنه مجددًا. 

يعد النوم، وفقًا لجوناثان كراري، عائقًا لم تستطع الرأسمالية تجاوزه حتى اليوم، ومساحة من الزمن لا نكون خلالها عمالًا أو منتجين أو مستهلكين، ولا مجال لاختراقها بالتسليع أو الإعلانات. 

على الجهة الأخرى، صارت بعض الدول تستعمل هذا التوقيت بشكلٍ دائم، مستغنيةً عن «التوقيت الشتوي» أو «المعياري»، مثل المغرب منذ العام 2018، والولايات المتحدة التي خصصت لذلك قانونًا ذا اسم مهيب هو «قانون حماية أشعة الشمس»، ومثل النقاش الذي دار في الأردن مؤخرًا حول الاستغناء عن التوقيت الشتوي ولم يحسم بعد. ولا شك أن هذه المراوحة والتفاوض على ساعة أو اثنتين من اليوم ليست عمليةً سلسة بالمطلق، فلها من المناوئين والمؤيدين ما يكفي لإثارة النقاش كلّ عام، ولأسباب شديدة الاختلاف.

فرغم ما يقال مثلًا عن تفضيل المزارعين التوقيت الصيفي، يوضح كثيرون أن رأي المزارعين لم يكن الفيصل في تغيير كهذا، بل على النقيض تمامًا، لا يبدو أن المزارعين يفضلون هذا التوقيت لأنه يضر بعملهم الذي لا يزال يرتبط بالشمس لا بالساعة الميكانيكية، ويؤثر سلبًا على الحيوانات وعلى الوقت اللازم لبيع منتجاتهم. وليسوا الوحيدين، فكما سنجد، يعتبر هذا التغيير إشكاليًا بالنسبة للطلبة، الذين تعد ساعة الاستيقاظ محوريةً في يومهم وتحديد كيفية مضيه وجودته.

يدفعنا ذلك للتساؤل عمّن يستفيد من الانتقال نحو التوقيت الصيفي الدائم، والواقع أن ثمة إجابات كثيرة على هذا السؤال. 

من المؤكد أن الثبات على توقيتٍ دائم هو أمرٌ أقل إثارة للالتباس من تغيير التوقيت بشكلٍ دائم، خصيصًا حين نأخذ بعين الاعتبار الطابع العالمي لهذه الخطوة وتطبيق كل دولة لهذه الشؤون بطرقها. ينسحب الأمر ذاته على مجمل تفاصيل الحياة، من تحديد المواعيد إلى تنظيم النوم، ولذلك فإن الثبات يبدو مبدئيًا الخطوة المنطقية. لكن لماذا يقع الاختيار على التوقيت الصيفي بينما يمكن اختيار التوقيت الشتوي أو التوقيت «القياسي» كما يُعرَف، خاصةً أنه أكثر توافقًا مع إيقاع ساعاتنا البيولوجية.

يكمن جزءٌ من السبب في أن بعض فعاليتنا تحظى بأولوية على حساب أخرى. ففي الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، طالما حظي التوقيت الصيفي بدعمٍ من جهات كبيرة كصانعي الحلوى والبائعين بالتجزئة، لأن الساعة الإضافية التي تلي خروجنا من العمل تعتبر هامةً لتحقيق نسب المبيعات المطلوبة، وسلوكنا الاستهلاكي على ما يبدو يتأثر بالظروف المحيطة وتحرّضه ساعة إضافية من ضوء الشمس. 

يقول الصحفي المغربي خالد بن الشريف، في تعليق على تطبيق المغرب التوقيت الصيفي بشكلٍ دائم، إن هذه الخطوة تصب في مصلحة النخب المالية التي يشاع ضغطها على الحكومة لإقرار هذا التغيير. ويضيف إن هذا القرار يعطي مالكي وسائل الإنتاج في الضيع الفلاحية القدرة على إبقاء عمالهم لساعة إضافية في الصناعات التي لا تتوفر فيها الإنارة الكهربائية، وتعزيز التجارة مع الشركاء الأوروبيين بعد تقليص الفارق الزمني معهم. ورغم أن بعض هذه الأسباب يغلب عليها التخمين، يمكن ملاحظة قابلية تطبيقها على بعض دول المنطقة أيضًا التي تتشارك مواقعًا قريبة من المغرب وبنى تحتية شبيهة.

أكثر من ذلك، ليست هذه المرة الأولى التي يُسخَّر خلالها الوقت لغرضٍ سياسيٍ. فمع موجات الإغلاق الجزئية والحظر الليلي التي شهدتها بعض الدول إقليميًا أو عالميًا، كان اختيار توقيت الإغلاق دائمًا ما يتفادى «أوقات العمل» ويتعلق بما يسبقها أو يليها، مؤكدًا وجود الأولويات وحضور الوقت، وأي فعاليات تمارس خلاله، كعاملٍ مؤثر في اتخاذ قراراتٍ كهذه. وإذا عدنا بضع سنين إلى الوراء، سنجد الأمر ذاته حين قررت السعودية اعتماد التقويم الميلادي لصرف رواتب العاملين في قطاعها الحكومي، كواحدٍ من إجراءات التقشف التي اتخذتها حينها.

النوم، النوم البريء

يمكننا الآن أن نتحدث عن الخاسرين إذن، وهم كبار السن، والأطفال والمراهقون، وأولئك الذين تفرض عليهم أعمالهم الانطلاق منذ الصباح الباكر. ليست هذه المرة الأولى التي تجد فيها هذه الشرائح نفسها في دور الخاسر، فقد لعبت ذات الدور في أحداث تاريخية سابقة كالأزمات الاقتصادية وجائحة كورونا.

يقول ماكبث، بطل التراجيديا الشكسبيرية التي تحمل اسمه، بعد أن يقتل الملك دنكن الذي حل ضيفًا عليه، إنه اغتال النوم البريء بفعلته هذه. لم يغب عن شكسبير، رغم الفارق الزمني الهائل، ما يفعله اضطراب النوم بنا ونحن مستيقظون، وهذا ما يظهر بوضوحٍ على ليدي مكبث كما يعرف القرّاء. ورغم هذه المعرفة، والفارق الزمني، لا يبدو أن معظمنا يحظى بليلة أفضل عادةً. وإذا كان السؤال الفعلي هنا، هل صرنا ننام بشكلٍ أفضل؟ سيكون الجواب المختصر هو لا. فرغم الاختلافات بين بلدٍ وآخر في أنماط النوم وجودته، يقال إن 62% من البالغين في العالم يشعرون أنهم لا يحظون بنومٍ كافٍ، وهذه الساعة -رغم أنها قد لا تبدو تفصيلًا جوهريًا- ستزيد الأمور تعقيدًا بالنسبة لأنماط نومنا الهشة أساسًا. 

يصف ماثيو ووكر في كتابه «لماذا ننام؟» التوقيت الصيفي على أنه تجربة عالمية تتعلق بالصحة القلبية، وتطبق على أكثر من مليار ونصف مليار بشري سنويًا عبر تخفيض عدد ساعات نومهم، إذ تعد مخاطر السكتات القلبية واحدة من الآثار التي يتم ربطها بتقديم الساعة وخسارتنا للنوم. يخصص ووكر بعدها قسمًا للحديث عن آثار الاستيقاظ المبكر أكثر من اللازم على الطلبة، الذين يضطرون إلى قطع ساعات نومهم لتتلاءم مع أجراس بداية الدوام التي تُقرَع اليوم بأوقات تسبق ما كانت عليه في الماضي. يقول ووكر إن هذه الآثار تبدأ بضرر يصيب مقدرات الطلاب الذهنية وقدرتهم على التعلم وتمتد إلى الاكتئاب والقلق والشيزوفرينيا، ويضيف أن العائلات ذات الدخل المنخفض، التي يُستبعَد أن تمتلك سيارة، يكون أطفالها أكثر عرضةً للتأثر بسبب اضطرارهم للاستيقاظ أبكر من أقرانهم لاعتمادهم على المواصلات العامة.

يتأثر المراهقون بغياب الشمس ساعة استيقاظهم بدرجات تختلف عن الأكبر سنًا، لأن إفرازهم لهرمون الميلاتونين الذي يسبب النعاس يتأخر في هذه المرحلة العمرية، ما يعني ميلهم للخلود إلى النوم والاستيقاظ في أوقات متأخرة مقارنة بالبالغين.

أكثر من ذلك، يتأثر المراهقون بغياب الشمس ساعة استيقاظهم بدرجات تختلف عن الأكبر سنًا، لأن إفرازهم للميلاتونين -وهو الهرمون الذي يسبب النعاس- يتأخر في هذه المرحلة العمرية، ما يعني ميلهم للخلود إلى النوم والاستيقاظ في أوقات متأخرة مقارنة بالبالغين، وهو ما سيتعارض مع ساعات الدوام الباكرة أساسًا وتقديم الساعة، ويهدد سير العملية التعليمية والغاية منها. ولن يختلف الأمر كثيرًا حين ننظر إلى الأكبر سنًا، أو من يعملون بدوام صباحي وتلحق بهم المعاناة ذاتها عند الاستيقاظ في ساعات مظلمة أو في درجات حرارة منخفضة، وما يلي ذلك في الرحلة نحو مكان العمل. وإن كان تقديم الساعة سيزيد الطين بلّةً، فذلك لأنه يؤثر على وضعٍ هش وغير صحيٍ أساسًا، تكاد تكون ضحيّته غير مرئية أو مندرجة تحت بند التضحيات المعقولة، بل والجريئة أحيانًا.

أتاحت لنا وسائل الاتصال والإنترنت فرصةً لنعرف أدق التفاصيل عن الأشخاص «الأكثر تأثيرًا» بشكلٍ مباشر، كما أعطت منبرًا لـ«صانعي محتوى» تحت مسميات الإلهام أو التعليم أو غيرها. والواقع أن هذه التفاصيل تشكّل ما يشبه دليلًا لعيش الحياة بكل تفاصيلها، من طريقة اختيارنا للطعام إلى إنفاقنا للنقود وحتى برامج نومنا، التي لا يزال النوم فيها يصوّر كخطيئة. متى يستيقظ توم كووك، المدير التنفيذي لآبل؟ في الرابعة صباحًا، مثله مثل السيدة الأولى السابقة ميشيل أوباما والممثلة جينيفر آنيستون. وبشكلٍ أكثر دقة، كان يتباهى الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بحاجته لأربع ساعات نومٍ فقط، وبالطبع فإن دليل العيش العصري، فيما يتعلق بالنوم على الأقل، ليس جديدًا بالكامل، إذ يمكننا أن نجد هذه التضحية المعقولة في أماكن عدة. في الأمثال الشعبية يُنال العلا بسهر الليالي، وفي القصص التي رويت لنا في الطفولة عن النمل والصراصير التي تحب الغناء، وصولًا إلى الاستخدامات المجازية والصور التي يعبّر عنها كلًا من النوم واليقظة، والظلام والنور، وإلى الخطط التي وضعها كاتب هذا المقال، ووجد خلالها أن التضحية بساعات من نومه لإنجاز عمله هي الخيار الأول والأسهل، بوصفها ساعات لا يجري خلالها أي شيء بطبيعة الحال.

الحرب على النوم

يفتتح الناقد جوناثان كراري كتابه «24/7 الرأسمالية المتأخرة ونهاية النوم» بإشارة إلى أبحاثٍ قامت بها وزارة الدفاع الأمريكية لصناعة جنود خارقين يمكنهم الاستغناء عن النوم دون الإصابة بالمضاعفات التي ترافق ذلك، كفقدان التركيز والحذر، وإلى مساعٍ قام بها علماء روس وأوروبيون لإطلاق أقمار صناعية تعكس جزءًا من أشعة الشمس وتسلطه على البقع المظلمة من الأرض، لمدها بـ«نور الشمس، طوال الليل بأكمله». وبالنسبة لكراري، فإن كل ما ينتج خلال «أوقات الحرب» يتسلل بطريقة أو بأخرى إلى الحياة العامة، وهو ما يجري مع نومنا ومشاكله. إذ يعد النوم، وفقًا لكراري، عائقًا لم تستطع الرأسمالية تجاوزه حتى اليوم، ومساحة من الزمن لا نكون خلالها عمالًا أو منتجين أو مستهلكين، ولا مجال لاختراقها بالتسليع أو الإعلانات. 

فمنذ بداية الثورة الصناعية حتى اليوم، لعب تنظيم الوقت، بالإضافة إلى عوامل أخرى كالإنارة الصناعية، دورًا في تغيير إيقاع حياتنا وفصله عن الأدوار الطبيعية المرتبطة بالليل والنهار، وحتى الفصول. وبالنسبة لكراري فإن المشكلة الرئيسية في هذا الفصل تكمن في الدافع الرئيسي الذي يقف يقف وراءه، والمتمثل في الوصول إلى حالة لا تتوقف من الإنتاجية، أو وضعٍ من «الاستمرارية الدائمة»، التي يفقد عندها الزمن الخصائص التي تميّزه، ويتحول إلى حاضرٍ دائم.

ضمن هذا الكابوس، تلعب الشاشات الإلكترونية دورًا هامًا في تحريك العجلات، فهي ليست مجرد وسيلة هامة في «اقتصاد الانتباه» الذي نشهده اليوم، والذي يتحول داخله كل الأفراد إلى وكلاء اقتصاديين تخضع تفاصيل هوياتهم وأنماط حياتهم لأسواقٍ وشبكات معلومات تعمل دون توقف وحسب، بل يصدف أنها تؤثر بشكلٍ مباشر على جودة نومنا وعدد ساعاته أيضًا. ولهذا، يولي كراري أهميةً لتطور التكنولوجيا في بحثه حول الحرب على النوم، ويقف عند محطاتٍ عدة كالانتقال من الصورة الثابتة التي كانت تعلن نهاية التلفزيوني نحو البث المتلفز على مدار اليوم، أو ظهور المستحدثات التكنولوجيّة «الشخصية» كالكمبيوتر.

من الغريب ألا نملك إجابة واضحة حتى اليوم عن السبب الذي يدفعنا للنوم، رغم أنه يبدو بديهيًا للوهلة الأولى، ولهذا تحديدًا قد لا تعني التضحية بساعة نوم إضافية الكثير.

وعندما نقرأ هذه التحولات ضمن السياق الاقتصادي والسياسي في القرن العشرين، نجد أننا لم «نُمكَّن» أو نحظى بوسائل أكثر ديموقراطيةً وأفقيةً ومناهضةً للهرميات، كما يقول كراري، بل صرنا داخل مجموعة مفتوحة النهاية من الطقوس والمهام المستمرة، التي تسعى لاستخراج الأرباح من كل ساعة نكون مستيقظين خلالها، وتغيّر من خصائص الزمن ليصبح تكديسًا مكثفًا يسمح لنا بأداء عدة مهام في الوقت ذاته، أينما كنّا، وسواء عملنا أم لا. 

ولهذا، يبدو النوم بشكلٍ طبيعي نقيضًا لهذه الخصائص بما تحمله من سرعة واستمرارية وكثافة، وآخر ما يذكرنا بالتعاقب في عالمٍ صار يعيش حاضرًا سريعًا وطويلًا لا ينتهي. وعندما ننام، فإننا بكلمات كراري، نعيش آخر اللحظات التي نترك فيها أنفسنا تحت رعاية الآخرين، ونبدي ثقةً ودعمًا مشتركًا لبعضنا، ما يضفي على النوم طابعًا سياسيًا واجتماعيًا يسعى الكاتب لإبرازه ضمن الكتاب، حتى يصل في نهايته إلى أن الحلم الأكبر بعالمٍ لا يتهدد مصيره بكارثةٍ ما وبمستقبلٍ أفضل سيراودنا خلال النوم (وهي خلاصة ربما يكون من الأفضل فهمها مجازيًا).

يغفل الكتاب عدة تفاصيل مهمة حين يعامل العلاقة بالنوم وكأنها عملية صدامية بشكل مباشرٍ فقط. فإزاء كل هذه المشاكل المتعلقة بالنوم وازدياد مرئيتها، لا شك أن الفرص ستظهر لمن يشم رائحتها. 

اليوم، تمتلئ الأسواق بمختلف الأشكال من الأجهزة الإلكترونية التي تدّعي أنها تحسّن من جودة نومنا، على شكل سوار أو سماعة أذن أو حتى تطبيق أو فرشة أو مخدة ذكية، وتمدنا عبر حكمة البيانات بمعلوماتٍ لم نكن نعرفها حول كيفية النوم بشكلٍ أفضل. ثمة شكوك حول جدوى ونجاعة هذه التكنولوجيا بالطبع، والكثير من الأسئلة حول البيانات التي تجمعها. إلا أنها بالتأكيد تشكك في كون النوم ذلك الحصن المنيع والعصيّ على التسليع الذي لا طريق لاختراقه سوى بالهدم، ولو أننا لم نصل بعد إلى المرحلة التي تتحول فيها الأحلام إلى بيانات يمكن استخراجها، وهي نقطة لا يغفل كراري المرور عليها ونقاشها.

وبالحديث عن الطرق البديلة، يقدم سيمون ويليامز في كتابه «سياسات النوم» نموذجًا من الأجندات يسميه بـ«الصديق للنوم»، والذي بدأت الشركات وقطاع الأعمال بتبنيه، بوصف النوم حليفًا للإنتاجية ومحفزًا للأرباح في شكله المدروس، كتنظيم فترات القيلولة داخل أماكن العمل. وإضافةً إلى المنتجات التي دخلت الأسواق، فتح هذا النموذج فرصًا لمختصي «العناية الذاتية» وللشركات الاستشارية ومزودي خدمات «إدارة الإنهاك» وغيرها من الأسماء التي تثير قراءتها للمرة الأولى الاستغراب. 

يترك وليامز الإجابة النهائية عن فائدة هذه الخطوات غير محددة، إلا أنه يشير لدورها في محو الخطوط الفاصلة بين أوقات العمل والراحة وبين مكان العمل والمنزل، وإلى قدرتها على تحويل وقتٍ غير منتِج كالقيلولة إلى سلوكيات مضبوطة زمنيًا ومكانيًا. وإذا كان وليامز يعيب على هذه الثقافة الجديدة نسبيًا انحصارها بـ«عمال المعرفة»، الذين ترتكز أعمالهم على المجهود الذهني، فهي مرتبطة أيضًا، على الصعيد العالمي، بالمراحل المختلفة للتنمية الاقتصادية والسياق السياسي والثقافي، ما يعني بالنسبة له توقعًا بأن قوننة القيلولة في بلدانٍ معينة قد يعني مزيدًا من الإنهاك للعمال في دولٍ أخرى.

وباختصار، فإن النوم هنا (أو مشاكله) يقف عند نقطةٍ صرنا نعرفها جيدًا، تبرز عندها الحلول التخصصية غير المسيّسة، مثل إدارة الإنهاك أو الالتفات إلى العناية الذاتية، التي يكون الفرد فيها طرفًا مكافئًا للظروف التي يواجهها. 

لماذا ننام إذن؟ من الغريب، بعد كل شيء، ألا نملك إجابة واضحة حتى اليوم عن السبب الذي يدفعنا للنوم، رغم أنه يبدو فعلًا بديهيًا للوهلة الأولى ويدور حول جزءٍ لا يمكن تخيّل الحياة بدونه، حتى اليوم على الأقل. ومع أن بعض الغموض لا يزال يلف هذه الحاجة مقارنةً بحاجاتنا الأخرى، إلا أنها أيضًا شديدة الاتصال بالعالم الأوسع وبالمتغيرات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية. وضمن هذا السياق، قد لا تعني التضحية بساعة نوم إضافية الكثير، خصيصًا حين يجري ذلك بالتزامن مع حديثٍ عن أزمة غذاء عالمية مثلًا (وهو ما قد يحفزنا للعمل بكدٍ أكبر) أو حين يُقرأ بالعلاقة مع كل شيء يهدد سلامة نومنا، وبالتالي مجمل ما نفعله خلال الوقت الذي نقضيه مستيقظين وجودته. 

إلا أن المسألة ليست تفضيلية تمامًا، بل شديدة الترابط. فمقابل ما تملكه البشرية اليوم، ومقابل الإمكانات الهائلة التي يمكن أن تحققها، يتصوّر الإنسان أن جودة الحياة كانت ستتحسن بشكلٍ أكثر جذرية، مثلما فعل الاقتصادي الإنكليزي جون مينارد كينز عام 1930 وتنبأ أن البشر سيعملون بعد مئة عام، في 2030، بمعدل 15 ساعة في الأسبوع، واليوم يبدو توقعه بعيدًا جدًا عن الصحة. ومع أننا نعمل أقل من أسلافنا، إلا أن ملازمة سمة مثل «الاحتراق» لنا تؤكد أننا بعيدون حتى اللحظة عن الحالة الصحية في يقظتنا أو سباتنا، وقريبون مسافة إشعارٍ واحد أو تغير مفاجئ من الإجهاز بكل «مرونة» على استراحة ليلةٍ أخرى.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية