«كإنه مش موجود بالدنيا»: مجدي والعيش لـ22 عامًا بلا وثائق

الثلاثاء 21 شباط 2023
العيش بلا وثائق
تصميم محمد شحادة

في 20 نيسان 2001، وفي أحد المستشفيات بالأغوار الشمالية في الأردن، وُلد طفلٌ أسماه والداه مجدي. صحيحٌ أن أهله ومعارفه سينادونه بهذا الاسم، وبه سيظل يعرّف عن نفسه، لكنه اسمٌ سيظل لـ22 سنةً غائبًا عن سجلات الدولة وقيودها، ما سيجعل حياة صاحبه «مَرْمطة» كما يصفها.

عند ولادة ابنهما الخامس مجدي، تلقّى والداه تبليغَ الولادة من المستشفى، لكنهما لم يسجّلاه رسميًا في دائرة الأحوال المدنية، ثم ضاعت منهما ورقة التبليغ، وأهمَلا مسألة تسجيله وإصدار شهادة ميلاده. سيظل الحال هكذا لسنوات؛ مجدي بلا أية أوراق ثبوتية، وبالتالي لن يحظى بالرعاية الصحية الأساسية مثل بقية المواليد، حتى إنه لن يتلقى مطاعيم الأطفال لتحصينه ضد الأمراض. و«كان بدي أدرس، بدي أطلع مثل العالم والناس»، لكنه لن يلتحق بالمدرسة أبدًا.

عاش مجدي سنواته الأولى مع والديه في الباقورة بالأغوار الشمالية، ولسنواتٍ وقعتْ مشاكل عائلية بين الأم والأب وانفصلا على إثرها، فانتقلت الأمّ مع معظم أبنائها إلى أبو نصير في عمّان، وظلّ الأب في الأغوار، قبل أن يتطلقّا رسميًا عام 2008، ومجدي آنذاك في السابعة من عمره.

تزوّج الأب من أخرى وأنجب منها، وتزوّجت الأم أيضًا، فيما صار مجدي يتنقّل للإقامة بين أبو نصير والأغوار. ورغم حبّه لأبيه إلا أنه لم يكن يرتاح للبقاء عنده لاعتقاده أن زوجة أبيه تفضل أبناءها عليه. لذا كان يقضي وقتًا أكبر في بيت والدته وزوجها، اللذين انتهى بهما الأمر للطلاق أيضًا.

بعد طلاقها الثاني، رحلت الأم إلى الزرقاء، لكن بدون مجدي هذه المرّة، إذ سيظل -وهو ابن 12 عامًا تقريبًا- في أبو نصير باحثًا عن عملٍ ومقيمًا في بيت عائلة صديقه المقرّب وابن جيرانهم عمر. لم يكن مجدي غريبًا على العائلة، تقول والدة عمر: «كل الناس عارفة مجدي، كنت باخده معي وهو صغير عند أهلي وعند خواتي، يظل عندي».

في البداية، عمل مجدي بشكل متقطّع في محلّ لبيع الكعك (الدونات)، ومحلاتٍ لبيع القهوة. لكن ما إن بلغ 13 عامًا حتى توقف أهله عن إعطائه المال، فصار أكثر انتظامًا في العمل وإن كان مجهدًا، حيث كان يتقاضى خمسة دنانير يوميًا لقاء ما يزيد عن 12 ساعة عمل. ارتفعت أجرته لاحقًا إلى ثمانية وإلى 10 دنانير، رافقها زيادة في عدد ساعات العمل تصل أحيانًا إلى 18 ساعة متواصلة. دون أن يستطيع بأي حالٍ التقدّم بشكوى للجهات الرسمية، رغم أن هناك من يستغل عدم وجود أوراق ثبوتية لديه كما يقول مجدي.

حاول مجدي العثور على فرص عمل أفضل، لكن كثيرًا منها تطلّب تقديم أوراق رسمية مثل بطاقة الهوية، أو شهادة الميلاد، أو دفتر العائلة، أو عدم المحكومية، أو شهادة الخلو من الأمراض.. إلخ، وهو لا يملك أيًا منها، لهذا يقول إنه حتى لو أكل أحد أصحاب العمل حقَّه فـ«بدي أبوس على راسه إنه شغّلني»، مضيفًا: «أنا ما بشتغل غير بالقهاوي، مين بده يشغلني والدولة مش معترفة فيي؟».

طلب مجدي مرارًا من والديه تسجيله رسميًا، وكان ردّ أمه: «إنت شايف، أنا تعبانة وبقدرش، لازم أبوك يسمّيك [يسجلك]». بالمقابل، ظلّ أبوه يعده بتسجيله، مرة تلو أخرى، دون أن يفي بوعده. لكن بلوغ مجدي سن المراهقة جعل حياته أصعب، إذ لم يعد ذلك الطفل الذي يلهو بسهولة في الشارع، بل صار عُرضة لإيقافه من رجال الأمن وسؤاله عن إثباتاته، لذا صار لا يغادر المنزل إلا للضرورة، وصار يحفظ أماكن النقاط الأمنية، ويتجنّب ما أمكن التنقّل عبر الشوارع الرئيسية تفاديًا لها. وصار أكثر إلحاحًا على والده من أجل تسجيله، ليستجيب له عام 2013، حيث رفع الأب في الزرقاء قضية قيد ولادة لمجدي، دون أن يستعين بمحامٍ، فردّت المحكمة القضية لعدم اختصاصها المكانيّ؛ أي أنه كان يتوجب رفع القضية في الأغوار حيث وُلدَ مجدي. ورغم أنه كان يمكن متابعة القضية لدى المحكمة المختصة، إلا أن الأب لم يفعل ذلك، رغم كل محاولات مجدي لإقناعه باستكمال السير في القضية.

ظلّ مجدي لسنواتٍ يعمل في أبو نصير. وإن كان يزور والديه بين الحين والآخر، إلا أنه أقام أغلب الوقت في بيت أهل صديقه عمر، وظلّ كذلك حتى صار شابًا في الثامنة عشر من عمره، وصار يصعُب على والدة عمر إقامته في منزلهم: «صار شب وصرت أستحي منه (..) كِبر وصار يحدّ من الحرية»، كما أنها صارت مشوّشة التفكير حياله، إذ إنها تودّ تقديم المساعدة له لدواعٍ إنسانية، لكن -في المقابل- يخيفها حديث بعض الناس عما قد يسبّبه الأمر من مشاكل. هكذا، صار مجدي يبيت في محلات بيع القهوة التي يعمل فيها، أو عند أصدقائه، فيما ظلّ بيت صديقه عمر مفتوحًا له للإقامة المؤقتة في حال تعطّل عن العمل أو لم يتوفّر في مكان عمله مساحة للمبيت.

ومع مرور السنوات ازدادت المشقّة، مرّةً كان في طريقه إلى الزرقاء، فأوقفته دورية أمنية، ولمّا لم تجد معه أية أوراق ثبوتية، أخذه رجال الأمن إلى المخفر، وظلّ فيه حتى وصل أحد أشقائه شارحًا وضع مجدي، ليفرج الأمن عنه بكفالة. صار توقيفه في المراكز الأمنية يتكرر أكثر، وأحيانًا يطول لأيام متنقلًا بين مركز وآخر كما يقول، حتى يأتي أحد أشقائه ويعرّف عنه، «بس ينمسك مجدي برن علينا وبنروح نطلعه، أحيانًا بغلبونا كثير لحتى يطلع»، يقول والد مجدي، لأن رجال الأمن يتخوّفون أحيانًا أن يكون مجدي كاذبًا أو أن ينتحل أحد ما صفة شقيقه أو أحد إخوته.

تزيد المشكلة عن ذلك، فمجدي يعاني من التهاب في القصبات الهوائية، وضيقٍ في التنفس، بالإضافة إلى التهابٍ مستمرٍ في جلد يديه (إكزيما) جرّاء عمله في محلات القهوة. تقول والدة عمر إن مجدي «دايمًا مريض، دايمًا مفلوز، دايمًا مرشّح»، وهو مع هذا لا يستطيع مراجعة المراكز الصحية والمستشفيات، لأنها تتطلب تقديم بطاقة الهوية أو شهادة الميلاد مثلًا، لذا يكتفي بوصفات الصيدليات. ورغم أنه كان يرغب بالحصول على مطعوم كوفيد، لكنه لم يتمكّن من تلقيه للسبب نفسه. يذكُر أنه في إحدى المرّات أصابته إنفلونزا حادّة رافقتها أعراض شديدة، دفعته لانتحال شخصية أحد إخوته حتى يتلقى العلاج على تأمينه الصحي، لكن أحد العاملين في المستشفى اكتشف الأمر وهدّده بالحبس إن أعاد المحاولة مرّة أخرى.

قبل حوالي أربع سنواتٍ ضاق الحال بمجدي أكثر عندما أصيب والده بالسرطان، وصار يصعب عليه أن يطلب منه استئناف السّير في القضية في المحكمة، «أبوي بغيّب، وبوقع إذا مشي، ما بقدر». لذا، حاول تولّي القضية بنفسه، تواصل مرةً مع محامية فطلبت منه ألف دينار مقابل أتعابها في القضية، وهو مبلغ لم يكن متوفرًا لديه. مرةً أخرى، وبمساعدةٍ من أحد أصدقائه، اتجه العام الماضي إلى مركزٍ يقدم خدمات المساعدة القانونية، لكنه احتاج إلى حضور والده للحصول على بعض الأوراق، منها مثلا ورقة من المختار لتعدّ بمثابة بلاغ ولادة، لكن «المختار رفض يعطيني ختم، خاف (..) بقولك شو بثْبت إنه هذا أبوي؟». وصادف أن تعطّل عن العمل خلال هذه الفترة، ما منعه من توفير النفقات اليومية اللازمة لمتابعة القضية.

اليوم، يتفق معارف مجدي على أن اليأس أصابه، وهو يؤكد ذلك: «أنا يئست وبدي أسلّمها لربنا»، متمنيًا لو أن الجهات الرسمية تصلح وضعه حتى يتمكن من عيش حياة عادية. تلخص والدة عمر وضع مجدي قائلة: «حالته بالويل من كل الجهات (..) بدون هوية، بدون إشي، زي كإنه مش موجود بالدنيا».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية