مجمّع الشفاء في قطاع غزة: أكثر من مجرّد مستشفى

الإثنين 21 حزيران 2021
وحدة العناية المركزة المخصصة لمرضى كوفيد-19 في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، في 7 أبريل 2021. تصوير محمود حمص. أ ف ب.

على مفترق تقاطع شارعيْ عز الدين القسام والوحدة وسط غرب غزة، يقع مجمّع «الشفاء». المستشفى الذي بناه الاستعمار الإنجليزي عام 1946، وكان وقتها عبارة عن أكشاك صغيرة تقدّم الرعاية الصحية الأولية، بات اليوم مجُمّعًا يمثل حجر الأساس للمنظومة الطبية في غزة، وأحد ثلاثة مستشفيات مركزية في القطاع، إلى جانب مجمع ناصر الطبي ومستشفى غزة الأوروبي.

تولى المصريون إدارة المستشفى بعد خروج الإنجليز من فلسطين، وتوسعت أقسامه وزاد عدد أسرّته. لكن الاحتلال سيطر عليه بعد نكسة حزيران عام 1967، ليبدأ مخططًا لإعادة تصميم المستشفى معماريًا بشكلٍ مشابه لمستشفيات الاحتلال. كان ذلك ضمن خطة إسرائيلية أكبر، ضمت كذلك تصميم وتطوير مستشفى الأميرة عالية في الخليل.

كان النمط الذي حاول الاحتلال تطويره في الشفاء خلال الثمانينات وأوائل التسعينات معنيًا أكثر بإنشاء غرفٍ تتسع لثلاثة مرضى في حدها الأقصى، وهو ما يعني أن قدرات المستشفى الاستيعابية ستظلّ قليلة مقارنةً بالبقعة الجغرافية التي يغطيها، ومجموع من تُقدّم لهم الخدمات الصحية. خصوصًا أن الشفاء، وقتها، كان مركزيًا أكثر مما هو عليه الآن، فأغلب مستشفيات المناطق الأخرى لم تكن قد أُنشئت بعد.

خلال الانتفاضة الأولى، اتخذ جيش الاحتلال من مستشفى الشفاء مركزًا لتجمّع جنوده وسياراته العسكرية، لذلك شكّل المستشفى أحد أبرز نقاط المواجهة بين الجيش والشبان. بل إن الاحتجاج الأول الذي خاضه الطلاب في أول أيام الانتفاضة الأولى، كان باقتحامهم المستشفى ومواجهتهم جنود الاحتلال هناك. وتحكي شهادات من الانتفاضة الأولى عن محاولة الاحتلال اختطاف جثامين الشهداء من المستشفى أيام الانتفاضة. 

مع مجيء السلطة الفلسطينية وتسلّمها لإدارة المستشفى بعد اتفاقية أوسلو، موّل اليابانيون والأوروبيون تطوير المستشفى عبر بناء مبانٍ جديدة، وتوسيع الغرف القديمة لتتسع لعدد أكبر من الأسرّة. وخلال السنوات الماضية شهد المستشفى عمليات توسيع وتطوير، ليُصبح اليوم مجُمّعًا يضم ثلاثة مبانٍ رئيسة متخصصة، مستشفى الولادة ومستشفى الباطنة ومستشفى الجراحة، وتقدم خدماتها الصحية لأهل مدينة غزة على وجه الخصوص، إضافةً إلى تغطية الحالات الصعبة والمتخصصة من بقية مناطق القطاع التي تخلو مستشفياتها من أقسام وجراحات متخصصة. مثل مدينة رفح، التي لا يوجد فيها إلا مستشفى أبو يوسف النجار، وهي عبارة عن عيادة رعاية أولية، غير قادرة على التعامل مع الحالات المرضية من الدرجات الوسطى والصعبة والتخصصية، والتي يجري تحويلها عادةً إلى المستشفيات المركزية ومنها الشفاء.

عاملات في وحدة العناية المركزة المخصصة لمرضى كوفيد-19 في مستشفى الشفاء في مدينة غزة، في 7 أبريل 2021. تصوير محمود حمص. أ ف ب.

وفق إحصائية المجمع لعام 2020، تلقى 460 ألف مواطن الخدمة داخل أسواره. فيما قدّم الخدمات الصحية في أقسام الطوارئ لربع مليون شخص، وأجريت فيه 25 ألف عملية، بينما بلغ عدد المنومين 49 ألفًا في أقسام المجمع، بنسبة إشغال وصلت إلى 107%، فيما أجريت فيه 69 ألف جلسة غسيل كلى، وشهد المستشفى 13 ألف حالة ولادة.

وبحسب نعيم البنا، نائب رئيس قسم العلاقات العامة والإعلام في مجمع الشفاء، فإن تلك الخدمات تمثل حوالي 45% من مجمل خدمات الرعاية الصحية المقدمة في القطاع، رغم أنّ خدمات المجمع تغطي بصورةٍ أساسية محافظة غزة، التي تشكل 34% من عدد سكان القطاع. ولكن حصرية عدد من الأقسام والجراحات والأجهزة الطبية في الشفاء هي السبب في ارتفاع حصته من الخدمات. لذلك من الطبيعي أن يكون للشفاء النصيب الأكبر على صعيد القدرات الاستيعابية والقوى العاملة البالغة حوالي 1889 موظفًا، بنسبة بلغت 26% من مجموع العاملين في مستشفيات وزارة الصحة في غزة، منهم 501 طبيب ما بين عام واختصاصي، و760 في قسم التمريض، و32 صيدلانيًا، وحوالي 200 إداري. 

على طول سنوات الحصار عانى المجمع مما أصاب المنظومة الصحية في غزة برمتها، من عجزٍ حاد في المستهلكات الطبية والأدوية والأسرّة، إلى نقصٍ في قطع غيار الأجهزة الطبية. عدا عن الانقطاع المستمر في الكهرباء واستنزاف احتياطات الوقود للمستشفى. قال البنّا إن كل ذلك أثّر، وما زال، على توفير الرعاية الصحية اللازمة للمرضى داخل المجمع، رغم السعي الدائم لإدارة الأزمات حسب الإمكانيات المتاحة، وما توفره الوفود والقوافل الطبية القادمة من الخارج.

رغم ظروف الحصار خلال السنوات الماضية، كان الشفاء قادرًا على افتتاح أقسام وتخصصات جديدة وتطويرها، لكن البنّا يُشير إلى أن ذلك وضع ضغطًا هائلًا على الطواقم الطبية بسبب عدم مواكبة عملية التوسع تلك عمليةَ توظيف موازية لها، هذا إلى جانب أن عملية التوسع زادت من أزمة النقص الدائم في مستلزمات المجمع الطبية.

عادت تلك الأزمات إلى الواجهة مع العدوان الأخير، ومن قبله مع تفشي وباء كورونا المستمر، والارتفاع المضطرد في أعداد الإصابات، وافتتاح أقسام خاصة بمُصابي كورونا في معظم مستشفيات القطاع ومنها الشفاء، بعد أن كان الأمر مقتصرًا على مستشفى غزة الأوروبي الذي كان مخصصًا للتعامل مع حالات الوباء. كل هذا وضع المستشفى تحت ضغط جديد، من نقص المستلزمات الطبية، وضغط العمل على الكوادر، وتأجيل العمليات الذي بدأ مع مسيرات العودة وفك الحصار التي استنزف خلالها الاحتلال القطاع الصحي برمته. فمنذ انطلاق المسيرات في نهاية آذار 2018 وحتى نهايتها في تشرين الثاني 2019، بلغ عدد الشهداء 316 شهيدًا، وعدد الجرحى حوالي 35 ألف جريح، دخل منهم حوالي 19 ألفًا إلى مستشفيات القطاع الحكومية وغير الحكومية، وكان نصيب مجمع الشفاء منها 4131 إصابة، وتركزت حوالي 48% من الإصابات في الأطراف السفلية. 

عدوان 2021: شهادات كوادر الشفاء

مع دخول العدوان، حوّل المجمع قسم العناية المكثفة الخاص بحالات كورونا إلى قسم عناية مكثفة لاستقبال مُصابي العدوان. فيما تم تحويل حالات كورونا إلى مستشفى غزة الأوروبي. كما جهّز قسمين جديدين للعناية المكثفة.

بلغ عدد شهداء غزة في العدوان الأخير 259 شهيدًا، استقبل مجمع الشفاء 123 شهيدًا منهم. واستشهد في الأيام اللاحقة للعدوان ثمانية شهداء في الأقسام الداخلية للمجمع. فيما وصلت 655 إصابة إلى الشفاء بشكل مباشر، وحُوِّلت 70 إصابة أخرى إليه من المستشفيات الأخرى، وفقًا لدائرة إعلام المجمع.

واجهت الكوادر الطبية في المجمع ظروفًا صعبة في التعامل مع الإصابات الواصلة. الدكتور حسن الشاعر، رئيس قسم العمليات الكبرى في مجمع الشفاء الطبي، بيّن لحبر أن أزمة نقص المستلزمات الطبية والأدوية كانت حاضرة بشدة في العدوان، مع وصول نسبة العجز إلى 40%. هذا إلى جانب ضغط ساعات العمل على الطاقم الطبي.

منذ اليوم الأول للعدوان الأخير جهّز المجمّع خِيمًا خاصة لاستقبال العائلات في باحته الخلفية. لجأ لها عدد ممن تعرضت بيوتهم أو مناطقهم لقصف الاحتلال وخصوصًا في فترات الليل.

كما أشارت نور النمنم، الممرضة في قسم العناية المكثفة بالمجمع، للأمر ذاته، وتحدثت عن اضطرار الطاقم الطبي إلى العمل 24 ساعة متواصلة، بل ووصلت عدد ساعات عمل بعض أفراد الطاقم من ممرضين وأطباء إلى 36 و48 ساعة. تقول النمنم إن عددًا من أعضاء طاقم المجمع لم يغادروه طيلة أيام العدوان.

يلفت الدكتور الشاعر الانتباهَ إلى الاختلاف في طبيعة الإصابات وعددها مقارنةً بالحروب السابقة، فيقول إنه من جهة هناك ارتفاع في عدد الشهداء مقارنة بعدد الإصابات. ومن جهةٍ أخرى، فإن عدد الإصابات الخطيرة مرتفع مقارنة بالمتوسطة والطفيفة. يُرجِّح الشاعر أن ذلك يعود إلى القصف المباشر للمنازل المأهولة.

إضافةً إلى ذلك، يلفت الشاعر الانتباه إلى طبيعة الإصابات، فيقول إن المصابين في الحروب السابقة كانوا يصلون المستشفى بإصابة في موضع واحد من الجسد، أمّا في العدوان الأخير فالإصابات «من الرأس للرجل، الجريح كنا نشتغل فيه جراحة أعصاب، جراحة عامة، وجراحة صدر مع جراحة عظام».

الشاعر الذي شهد كل الحروب على غزة من مستشفى الشفاء، يقارن مثلًا الوضع في غرف العمليات بين العدوان الأخير وعدوان 2008، فرغم تجهيز المجمع لكل أقسام العمليات الموجودة في المستشفيات الثلاث بداخله (الولادة، والجراحة، والباطنة) لتكون مهيأة لاستقبال مُصابي العدوان الأخير، إلّا أن عدد الإصابات المنخفض مقارنة بالحروب السابقة لم يضطرهم إلّا إلى تشغيل قسم عمليات واحد، على العكس من الوضع في عدوان 2008، «تفاجئنا بأول يوم، كان تقريبًا 50 لـ60 جريح في غرف العمليات، ما كان هناك إلا ست غرف عمليات، اضطرينا نشتغل حالتين وتلاتة في الغرفة الواحدة، غير الحالات اللي اشتغلناها في الممر، وانجبرنا نعمل تنفس يدوي لكتير حالات بدون أجهزة».

يقول كلٌ من النمنم والشاعر أنهم وزملاءهم ظلّوا متماسكين حتى ليلة مجزرة عائلتي الكولك وأبو العوف. والتي وصفوها بأنها أصعب ليلة مرّت عليهم داخل غرف العمليات والعناية. كان زميلهم الدكتور أيمن أبو العوف، رئيس قسم الباطنة في المجمّع، أحد الشهداء الذين وصلوا إلى المستشفى ليلتها. وصل عدد شهداء العائلتين إلى 47 شهيدًا، «أُرهِقنا نفسيًا من المناظر وطبيعة الإصابات ومحو العائلات»، يقول الشاعر.

خلال الأيام التالية للعدوان، جرى تحويل عدد من المصابين إلى مستشفيات الداخل المحتل والأردن ومصر. في حين لم يغادر آخرون قسم العناية المكثفة في المجمّع، واستشهد بعضهم خلال الأيام الماضية، كان آخرهم مؤيد حمدان، مساء الثلاثاء 15 حزيران.

خلال الانتفاضة الأولى، اتخذ جيش الاحتلال من مستشفى الشفاء مركزًا لتجمّع جنوده وسياراته العسكرية، لذلك شكّل المستشفى أحد أبرز نقاط المواجهة بين الجيش والشبان.

بحسب تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية، وإلى جانب 15 مستشفى وعدد آخر من عيادات الرعاية الأولية في غزة، استهدف الاحتلال مجمع الشفاء بشكلٍ مباشر خلال عدوان 2008، عدا عن تعرضه لأضرار بسبب الاستهدافات التي طالت مُحيطه آنذاك. 

لم يشهد العدوان الأخير، كسابقاته، استهدافًا مباشرًا لسيارات الإسعاف، لكن المسعف نسيم حسن، يقول لحبر إن قصف الاحتلال لعدد من الشوارع الرئيسة، ومنها شارع الوحدة المؤدي إلى المجمع، أعاق وصول طواقم الإسعاف من أماكن الاستهداف إلى المجمع، ما اضطرهم لقطع مسافات طويلة بغية تجاوز الطرق المستهدفة. 

وإلى جانب أن سيارات الإسعاف تمر بأزمة نقص في عددها، إثر منع الاحتلال دخولها وقطع غيارها إلى غزة، فإن المسعف حسن يُشير إلى صعوبات أخرى واجهتم في عملهم خلال العدوان الأخير، وتحديدًا في البحث تحت أنقاض البيوت بعد قصفها لانتشال جثامين المُصابين والشهداء، «بأي لحظة كنا معرضين للأذى، كنا بنبحث تحت الأنقاض والقصف مستمر في مناطق قريبة كتير، المعدات كمان مش كافية. فش شيالات كنا نضطر أحيانًا نشيل الناس بايدينا، وفش شبكات إضاءة، بالجوالات كنا نضوي». 

كانت أصعب عمليات الانتشال بعد توقف العدوان بيومين. عمل حسن وزملائه برفقة طواقم الدفاع المدني ليومين متواصلين، لانتشال جثامين شهداء المقاومة من الأنفاق التي تعرضوا للقصف بداخلها أول أيام العدوان. 

الشفاء ملجأ للعائلات النازحة

تتكثف مركزية الشفاء وتأخذ أبعادًا مختلفة مع كل عدوان إسرائيليٍ على غزة؛ فمن جهة، مثّلت باحة الشفاء مركزًا لتجمّع الصحفيين والإعلاميين خلال أوقات العدوان باعتبارها محلًا آمنًا نسبيًا، وموقعًا يسهل الوصول منه لأحياء غزة، عدا عن سرعة الوصول إلى المعلومات الصحفية. كما ظلّ المجمّع وجهة أولى للوفود الطبية والسياسية إلى غزة.

ومن جهةٍ أخرى، اتخذت العائلات من مجمّع الشفاء ملجأً بعد اضطرارهم الخروج من منازلهم سواء بسبب قصفها أو التهديد بذلك، مثلما حدث في عدوان 2014، حين لجأ للمجمع أهالي حي الشجاعية تحت وطأة القصف الاسرائيلي المدفعي والجوي على حيهم صباح 20 تمّوز 2014، في مجزرة قتل فيها الاحتلال 72 شهيدًا من سكان الحي. وصلت حينها معظم العائلات مشيًا على أقدامها إلى الشفاء، وتوزّعوا في باحته وفي مبنى الجراحات التخصصي الذي لم يكن بناؤه مكتملًا آنذاك. قال البنّا لحبر إن جيش الاحتلال هدّد وقتها بقصف المبنى، وهو ما اضطرهم لإخلاء العائلات منه، عدا عن تسببه بإرباك كبير لإدارة الشفاء وطواقمه الطبية. 

ومنذ اليوم الأول للعدوان الأخير جهّز المجمّع خِيمًا خاصة لاستقبال العائلات في باحته الخلفية. لجأ لها عدد ممن تعرضت بيوتهم أو مناطقهم لقصف الاحتلال وخصوصًا في فترات الليل. مكثت أغلب تلك العائلات ليلة واحدة في الشفاء قبل أن تعود إلى بيوتها أو تنتقل للمدارس. 

نزحت عائلة أحمد عصفور إلى المستشفى في الليلة الخامسة للعدوان كمحطة أمنة، قبل أن تنتقل صباح اليوم التالي إلى إحدى المدارس القريبة. عصفور البالغ من العمر 43 عامًا، قضى مع زوجته وطفليهما 30 يومًا في باحة مجمع الشفاء خلال عدوان 2014، «بالحرب اللي فاتت راحت الدار، المرة هاي كانت الضربة لبيت جيران بس نص الدار راحت، وين بدنا نضل، وين بدنا نروح بنص الليل، لقينا حالنا مع الجيران ماشيين ع الشفا».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية