«احتفالية» عصر الزيتون

استخلاص زيت الزيتون بواسطة المكبس في معصرة مرحبا في لواء الكورة في الجنوب الغربي لمحافظة إربد. تصوير مؤمن ملكاوي.

معاصر قديمة وحديثة تحاول التكيّف مع موسم استثنائي

«احتفالية» عصر الزيتون

الثلاثاء 17 تشرين الثاني 2020

في الوقت الذي كانت فيه حاجة الذيب وابنتها فاطمة محمود تنتظران أن ينتهي عصر محصولهما من الزيتون في معصرة «حوفا الوسطية» (12 كم غرب مدينة إربد)، كان مربي الحلال سليمان سالم في الساحة الأمامية للمعصرة، يحمل إلى صندوق سيارته الـ«بيك أب» أوراق الزيتون التي تخلفت من عملية العصر، وأرسلتها خطوط الإنتاج عبر الأنابيب إلى صندوق يُفتح على الساحة. وبالتوازي، كان المزارع حرب الترابين في الساحة الخلفية، يقف بسيارته الديانا، يملأ صندوقها بالجفت الذي ينزل من مزراب خاص.

مثل غيرها من المعاصر الحديثة، يمر عصر الزيتون في هذه المعصرة بمراحل، يقول سامي الطواها، أحد الشركاء في المعصرة، إنها تبدأ بعامل يفرغ الزيتون في حوض ينزل منه إلى «الذَرّاية» التي تفصل الورق عن حبات الزيتون، يذهب بعدها إلى الغسل، ثم الجرش. ويُنقل بعدها إلى «الخلاطة» حيث يغمر بالماء الساخن. وعندما يلين بدرجة تسمح باستخلاص الزيت منه، يرسل إلى المكبس الذي يفصل الزيت والماء عن الجفت. ثم أخيرًا إلى «الفَرّازة» التي تسحب المياه من الزيت.

حاجة وابنتها فاطمة تنتظران انتهاء عصر زيتونهما.

يسير العمل بحيث تتم الاستفادة من كل ما يمكن الاستفادة منه. فتحصل حاجة وابنتها على مؤونة السنة من زيت الزيتون الذي جمعتاه من حديقة منزلهما في مدينة إربد، ويعود سالم إلى قريته كفر أسد بورق الزيتون الذي سيقدمه طعاما لأغنامه، ويحمل الترابين الجفت إلى قريته وادي العرب، حيث ستجففه عائلته على شكل كرات، لاستخدامها لاحقًا وقودًا للتدفئة في مواقد الحطب.

كانت المعصرة قد بدأت العمل في الخامس من الشهر الماضي، وفق قرار وزارة الزراعة، التي تحدد كل سنة للمعاصر موعد بدء موسم العصر. والذي يمتد في العادة أربعة أشهر، بين بداية تشرين الأول ونهاية كانون الثاني. المختلف هذه السنة، يقول الطواها، هو مشهد ساحة المعصرة شبه الخالية إلا من أكداس أكياس الزيتون التي تركها أصحابها بعد أن حجزوا دورًا للعصر، وبضع أشخاص ممن حان دورهم بالفعل. في هذا الوقت من السنة، تكون الساحة في العادة عامرة بتلاميذ المدارس الذين يأتون في رحلات علمية، وبالعائلات التي جاءت من مختلف نواحي إربد، وعمان والزرقاء لشراء مؤونتها من الزيت. رجال ونساء وأطفال، يقول الطواها إن الأمر بالنسبة لهم أكثر من عملية شراء زيت، بل رحلة ترفيهية، وطقس سنويّ احتفاليّ، يضفي أجواءً مبهجةً على المكان. خصوصًا مع وجود مخبز للعائلة ملاصق للمعصرة، يقدم للجميع مناقيش زعتر طازجة بزيت السنة. هذا العام، يقول الطواها، «كورونا غيّرت الوضع».

سليمان سالم يستعد لتفريغ صندوق مخلفات أوراق الزيتون الذي سيأخذه علفًا لأغنامه (أعلى، يسار)، حرب الترابين يقف تحت مزراب الجفت الذي سيجففه ويستخدمه للتدفئة (أسفل، يمين).

المعصرة التي تأسست عام 1972، وكانت وقتها نصف آلية قبل أن يتم تحديثها ابتداءً من العام 2010 بثلاثة خطوط إنتاج، تعمل بطاقة إنتاجية مجموعها ستة أطنان تقريبًا في الساعة، وهي واحدة من 136 معصرة في المملكة، لديها 298 خط إنتاج، وتعمل بطاقة إنتاجية مقدارها 443 طن في الساعة. ويقع العدد الأكبر من هذه المعاصر، وهو 93 معصرة، في محافظات الشمال؛ إربد وعجلون وجرش والمفرق.[1] والسبب في هذا التركز هو تركز المساحات الأكبر من زراعة الزيتون وإنتاج الزيت في هذه المحافظات.

وفق أرقام العام 2018،[2] بلغت المساحة المزروعة بالزيتون 566 ألف دونم، شكلت 72% من إجمالي المساحة المزروعة بالأشجار المثمرة في المملكة. وبلغ عدد الأشجار 10.6 مليون شجرة، أنتجت 125.2 ألف طنٍ من الزيتون. ذهب منها للعصر 97.6 ألف طن زيتون، أنتجت 21.2 ألف طن زيت. وكان نصيب محافظات الشمال من هذه الأرقام هو 60% تقريبًا من مجمل مساحة الزيتون، و57% تقريبًا من عدد الأشجار، في حين أنتجت 71% من مجمل الإنتاج، الذي صُدّر منه 575 طنًّا.[3]

في العام الماضي، أنتج في الأردن 21,233 طن زيت، بحسب بيانات وزارة الزراعة. يقول أمين سرّ نقابة أصحاب المعاصر، المهندس نضال السماعين، إن قسمًا كبيرًا منها تكدس لدى أصحاب المعاصر. وذلك بسبب دخول كميات كبيرة من الزيت من سوريا وتركيا. فالمعاصر إضافة إلى نشاطها الأساسي وهو عصر الزيتون، تمارس البيع أيضًا كنشاط رئيسي آخر. فهي تتلقى أجر العصر بواحدة من طريقتين إمّا النقد، أو بأخذ نسبة من الزيت. والطريقة الأخيرة والمعروفة بـ«الرِّدْ» موروثة من العهد العثماني، بحسب السماعين، عندما كانت هذه الطريقة المعتمدة لاستيفاء الأجر لدى طواحين القمح ومعاصر الزيتون. في الأردن، ظلّ تحديد الأجرة ونوعها خاضعًا للعلاقات التعاقدية بين أصحاب المعاصر وزبائنهم، إلى العام 2013، عندما أقرت النقابة لأول مرة أجرة العصر النقدية، وهي 65 قرشًا عن كل كيلو زيت، بحسب السماعين.

ويقول السماعين إن أزمة تسويق الزيت العام الماضي كانت السبب الذي دفع بالنقابة لأن تصدر هذا العام قرارًا يلزم المعاصر بعدم استيفاء الزيت كأجرة، وطلب منها في حال رغبة الزبون الدفع بالزيت، احتساب كمية من الزيت تساوي قيمة الأجرة.

على باب معصرة حوفا هناك بالفعل لوحة توضح تسعيرة العصر، لكن المعصرة في الحقيقة، يقول الطواها، لا تلتزم بها، إذ تتقاضى نصف دينار بدلًا من 65 قرشًا. كما لم تلتزم بقرار عدم استيفاء الأجرة بالزيت، كما فعلت بعض المعاصر الأخرى. وما زالت تتقاضى 900 غرام زيت عن كل 10 كيلو زيت، و800 غرام لأصحاب الكميات الكبيرة. يشير الطواها إلى أن الأمر على الأرض ما زال محكومًا بتقديرات كل معصرة، وبالعلاقة التي تبنيها مع زبائنها وتعمل على استمرارها. ولهذا، وحتى قبل أزمة فيروس كورونا المستجد، كانت قيمة الأجرة، سواء نقدية أو زيتًا، تختلف من معصرة إلى أخرى.

الطواها الذي يرى أن أزمة كورونا أيضًا كانت عاملًا أساسيًا في كساد سوق الزيت العام الماضي، بسبب التردي الهائل للقدرة الشرائية لدى الناس، خاصةً أن تسويق الزيت يمتد لأشهر بعد العصر، يقول إن الإصرار على تقاضي الأجرة نقدًا في هذا الوقت، يعني أن المعصرة لن تعمل، لأن «الناس حرفيًا معهاش تدفع».

مرحلة استخلاص الزيت في معصرة حوفا الوسطية (أعلى، يسار)، عاملان يفرغان الزيتون في الحوض تمهيدًا لتنظيفه من أوراق الزيتون ومن ثم غسله (أسفل، يمين).

الزيت: «فَغيشْ» و«مسلوق»

في معصرة مرحبا في لواء الكورة في الجنوب الغربي لمحافظة إربد، لا توجد مشكلة في تسويق الزيت، ليس فقط بسبب قلة الكميات التي تتعامل بها المعصرة الصغيرة التي تأسست قبل أكثر من 70 سنة، وما زالت تستخدم لعصر الزيتون التقنية القديمة التي بدأت بها، والمعتمدة على حجارة الصوان، بل بشكل أساسي لأن هناك زبائن ثابتين لنوع الزيت الذي تنتجه المعاصر التقليدية ويسمى «المسلوق»، والذي يختلف في الطعم واللون بشكل واضح عن زيت المعاصر الحديثة الذي يسميه أهل المنطقة، «الفغيش» أو «من الشجر للحجر».

في الغرفة المفتوحة على أحد الشوارع الضيقة في قرية مرحبا، توجد معصرة الزيتون القديمة، وهي واحدة من أربع معاصر تقليدية ما زالت عاملة، وجميعها في لواء الكورة. هذه المعصرة معروفة في المنطقة باسم معصرة أم زياد، نسبة إلى نوال العلام (90 سنة)، أرملة إبراهيم خريسات، الذي شارك في تأسيسها مع 34 شخصًا من أهل البلدة. وقد بدأت كما تقول العلام بحجر «بدّ» واحد، جُلب من فلسطين، وأضيف الثاني لاحقًا. وكانت عمليتا الطحن واستخلاص الزيت تتم وقتها بواسطة الدواب. هذا قبل دخول الكهرباء إلى البلدة، والتي باستثنائها ما زال العمل يتم بالتقنية ذاتها، إذ يقتصر على خطوتين، طحن الزيتون في الجرن الحديدي بواسطة الحجارة، ونقله يدويًا بعد أن يتحول إلى عجينة إلى «الكفاف»، وهي قفاف دائرية مسطحة، كانت تغزل قديمًا من خيوط الليف، وتصنع حاليًا من خيطان بلاستيكية رفيعة، ترتّب فوق بعضها في مكبس يضغطها لتسييل الزيت.

وما زالت أم زياد تساعد في المعصرة بشكل أساسي، فهي، كما تقول، «بِْتجرِّنْ» أي تقف أمام الجرن، وتواصل دفع الزيتون من جدران الجرن إلى أسفل الحجرين، بواسطة ذراع حديدية مثبتة في الجرن لهذه الغاية، والهدف منها ضمان أن يطحن كلّ الزيتون بأقصى درجة من النعومة، لاستخلاص أكبر كمية من الزيت. وهي أيضا «بتنزّل الثُّم»، أي تقدّر بعينها الخبيرة متى صارت عجينة الزيتون في الجرن جاهزة للكبس، وتقرر إنزالها.

نوال العلام وابنها أمين خريسات في استراحة أمام معصرتهما في مرحبا (أعلى، يسار)، نوال العلام داخل معصرتها في قرية مرحبا (أسفل، يمين).

لا تتذكر العلام السنة التي تأسست فيها المعصرة بالضبط. هي تتذكر فقط أن المعصرة وضعت بدايةً في خيمة نصبت في حاكورة تخصّ عائلة زوجها، قبل أن تبنى لها غرفة توضع فيها، ثم بنى زوجها فوق هذه الغرفة غرفة أخرى، انتقلت معه إليها من بيتهم الطيني. وإلى الآن ما زالت المعصرة تحتل المكان نفسه في المبنى الذي توسع ليصبح بيت العائلة، تسكنه العلام مع عائلتي ابنيها التوأم أمين وصادق (43 سنة)، وهم الثلاثة الذين آلت إليهم ملكية المعصرة بعد سلسلة من المخالصات جرت خلال السنوات الماضية.

ولعدم توفر آلية لفصل الزيت عن الماء في المعاصر التقليدية كما في المعاصر الحديثة، أو ألية لفصل الأوراق عن الحبوب، فإن الزيتون ينظف بعد قطفه من الأوراق والعروق التي يؤدي طحنها معه إلى إكساب الزيت طعمًا مرًا، ثم يسلق ويجفف قبل حمله إلى المعصرة، بحسب أمين، المتقاعد من الجيش، والذي كان مداومًا في المعصرة وقت زيارتنا.

هذه المعالجة المسبقة للزيتون قبل العصر، هي ما يعطي الزيت المنتج بالطريقة التقليدية طعمه المميز، الذي تقول عبير الدهون، إنها نشأت وربّت أبناءها عليه. وجميعهم بما فيهم الأطفال، لا يستسيغون غيره، خصوصًا عندما يؤكل نيئًا، مع اللبنة والزعتر والحمص مثلًا.

الدهون جاءت من كفر عوان إلى مرحبا كي تعصر ثمانية شوالات، جهزتها جميعها على طريقة المسلوق؛ فغلت الزيتون، ثم صفّته من الماء، ونشرته على السطح أسبوعين، ظلّت خلالهما تقلبه حتى جفّ تمامًا وتحوّل إلى اللون الذهبي. ورافقها في رحلة عصر زيتونها والداها وأولادها وشقيقها. بعضهم جلس على الكراسي البلاستيكية المقابلة للجرن، وآخرون توجهوا لغرفة ملحقة بالمعصرة، ومجهزة بالفراش والمساند، خصصتها عائلة خريسات لانتظار الزبائن. وقد منح وجودهم المكان الجوّ الاحتفالي الذي افتقدته معصرة حوفا هذا العام. تقول الدهون إن عملية سلق الزيتون نفسها تتم في أجواء احتفالية، إذ يتوافد الجيران عادةً لمشاهدة العملية التي تتم في براميل نصفية على الحطب.

عائلة الدهون مع نوال العلام في غرفة انتظار الزبائن

إضافة إلى «المسلوق»، تشير والدة عبير، جميلة الإبراهيم، إلى نوع آخر من الزيت هو «المَدّادِّيّة»، الذي كانت النساء في الماضي تنتجنه في البيوت عندما يحتجن إلى زيت قبل موسم العصر. ويكون بتحمير الزيتون على صاج، ثم دقّه ووضعه في قطعة شاش، ووضع حجر ثقيل عليه، يضغطه فيسيل الزيت.

وقت زيارتنا، كان أمين وابن أخيه وائل، طالب التوجيهي، يتعاونان على تفريغ الجفت من الكفاف التي انتهى كبسها على الأرض. يقول أمين إن العرف في المعاصر التقليدية أن الجفت من حق صاحب الزيتون، وله أن يأخذه معه. وهذا ما يحدث بالتحديد لمن يستخدمونه في التدفئة، أو لمن لديهم أغنام، لأنه يصلح أيضًا علفًا لها. لكن يحدث كثيرًا أن يترك الجفت على أرضه. هنا يتم تجفيفه، ويباع بدينار ونصف، لشوال وزنه 30 كيلو تقريبًا.

وائل خريسات يملأ القفة بالزيتون المطحون استعدادًا لكبسه.

على النقيض من ذلك، جرى العرف في المعاصر الحديثة، أن يظل الجفت للمعصرة. ومع ذلك قال لنا الترابين إنه أخذ حمولة سيارته الديانا مجانًا. كما أخبرنا الأمر نفسه سالم الذي أخذ ورق الزيتون. وهذا بحسب الطواها يدخل ضمن العلاقات التي تبنيها المعصرة مع زبائنها. ما عدا ذلك، فإنها مثل باقي المعاصر تستثمر في الجفت بوصفه موردًا إضافيًا، فتستخدم قسمًا منه بشكله الخام وقودًا لبويلر تسخين مياه الزيتون في الخلاطات بدلًا من الديزل. وإلى ما قبل سنتين، كان الفائض يباع بـ13 دينارًا للطن الواحد، لتجار يتولون كبسه آليا في قوالب أسطوانية، وبيعه وقودًا للمدافئ. ثم استثمرت العائلة في مكابس حديثة، وبدأت تقوم بهذه العملية بنفسها، حيث يبيعون الطن بـ65 دينار تقريبًا.

تتقاضى المعصرة بحسب أمين أجرة تبلغ كيلو زيت عن كل 10 كيلو تعصرها. والعائلة تبيع هذا الزيت إضافة إلى محصولها الخاص من الزيت -الذي تجهزه كله على طريقة المسلوق- إلى زبائن يأتون من مختلف محافظات المملكة، وبعضهم من بلدان الخليج. ويشترونه رغم أنه أعلى ثمنًا من زيت المعاصر الحديثة، بسبب المشقة التي ترافق عملية إنتاجه. العام الماضي، يقول أمين، عندما بيعت تنكة الزيت بـ80 دينارًا، بيع «المسلوق» بـ110 دنانير.

 وفق أمين فإنه يمكن تجفيف الزيتون دون سلق، لكن يظلّ السلق هو ما يعطيه طعمه المرغوب لدى زبائنه. ويوضّح أن الفكرة في الحالتين هي أن يأتي الزيتون جافًا، لأن المعصرة التقليدية كما تقدم لا تفصِل الماء عن الزيت.

أمين خريسات يملأ القفة بالزيتون المطحون، يساعده عبدالله العمايرة ابن عبير الدهون. وفي الخلفية والطفل وديع الزعبي حفيد نوال العلام

لكن الدكتور سلام أيوب، الخبير في الزيتون، يقول إنه يجب مراجعة القناعة السائدة لدى كثيرين بأن زيت «المسلوق» ولأنه منتج بالطريقة التقليدية هو بالضرورة أكثر صحة. ذلك أن للعلم رأي آخر.

أيوب الذي يعمل مدير مديرية البستنة في المركز الوطني للبحوث الزراعية، وشارك في عدة بحوث منشورة عن الزيتون، يناقش أحدها[4] العلاقة بين جودة الزيت وطريقة عصره، يقول إن هذا الزيت يطحن ويكبس في ظروف يكون فيها مكشوفًا تماما للهواء، ويكون قبلها قد تعرض أثناء السلق لحرارة عالية جدًا. وهذان العاملان؛ التعرض للهواء وللحرارة العالية، يرفعان من نسبة البيروكسيد (Peroxide) في الزيت، ما يعني تأكسده، وفقدان المركبات التي تمنح الزيت الصفات الحسية الجيدة في الطعم والرائحة، وبالتالي انخفاض جودته وقيمته الصحية بشكل كبير جدًا.

ويقول أيوب إنه حتى دون تعريضه للحرارة، في حالة التجفيف من دون سلق، فإن التعرض الطويل للشمس يفقد الزيت جزءًا من خواصه الحسية، لهذا فإن من شروط تخزين الزيتون قبل العصر هو أن يخزن في الظلّ. ويلفت أيوب هنا إلى أن مأخذ تعريض الزيتون للحرارة لا يقتصر على المعاصر التقليدية، لأن بعض المعاصر الحديثة، في المرحلة التي تسخن فيها الزيتون لتليينه بما يسمح لاستخلاص الزيت منه، لا تلتزم بدرجة الحرارة المفترض ألا تزيد عن 30 مئوية، فترفعها إلى 40 مئوية. وهذا أيضًا ينتج زيتًا منخفض الجودة. وإن كان الضرر في هذه الحالة أقل بكثير من تعريض الزيتون إلى درجة حرارة تتجاوز 100 درجةً مئوية، كما يحدث في حالة السلق.

مرحلة فرز الزيت عن الماء في معصرة حوفا الوسطية.

«الزيبار» معضلة بيئية

مع ذلك، فإن المعاصر التقليدية أخفّ وطأة على البيئة من ناحية أنه لا ينتج عنها «زيبار»، وهي المياه الناتجة عن عصر الزيتون، ويجمع الخبراء على خطرها التلويثي. وأنتجت المعاصر منها العام الماضي 43,467 مترًا مكعبًا، بحسب بيانات وزارة الزراعة.

مشكلة هذه المياه بحسب أيوب هي أنها غنية بمادة الفينولات (Phenols)، وهي إحدى المكونات الصحية الموجودة في الزيتون والتي تعمل مضادًا للأكسدة في جسم الإنسان. لكنها عندما تخرج مع مياه الزيبار وتتعرض للهواء تتأكسد، وتتسبب بالرائحة الكريهة لهذه المياه. وهذه المياه أصلًا ملوثة بشدة للمياه الجوفية وللتربة والنباتات.

لكن أيوب يلفت إلى أن استخدام هذه المياه في التربة الزراعية بتراكيز خفيفة، وضمن معايير بالغة الدقة، يمكن أن يكون مفيدًا. وهذا ما تفعله بعض الدول المنتجة للزيت، مثل اليونان وإيطاليا وإسبانيا، وكان موضوع دراسات داخل المركز الوطني للبحوث الزراعية. لكن هذا غير مطبق في الأردن، إذ يقتصر التعامل معها، على نقلها إلى المكبات الثلاثة الرئيسية في المملكة، حيث تجمع في أماكن خاصة بها. ويمنع خلطها بمياه الصرف الصحي، التي يقول إن معالجتها أقل تعقيدًا وأقل كلفة بكثير من «الزيبار».

كلفة المعالجة التي ذكرها أيوب، تتجاوز المليون دينار لكل محطة تخدم خمس معاصر كما يقول المهندس محمود الزبون، من مديرية إدارة النفايات في وزارة البيئة. لهذا فإن التعامل الوحيد مع مياه الزيبار يتم بإلزام المعاصر بتجميعها في حفر خاصة داخل المعصرة بما لا يتجاوز خمسة أيام، ثم نقلها إلى واحد من المكبات الثلاثة الرئيسية، وهي الأكيدر في الشمال، والحمرة في السلط، واللجون في الكرك. داخل هذه المكبات، يقول الزبون، هناك خلايا خاصة لاستقبال الزيبار، ذات طاقة استيعابية مقدارها 200 ألف متر مكعب، حيث تترك هناك لتتبخر. والمشكلة هنا بحسبه، هي أن موسم الزيتون يأتي في وقت تنخفض فيه درجة الحرارة، وتقل بالتالي معدلات التبخر. وإلى أن يأتي الربيع والصيف، وترتفع درجات الحرارة ثانية، تكون قد تكوّنت على السطح طبقة كثيفة من الزيوت، تبلغ سماكتها نصف متر، تعيق نفاذ أشعة الشمس إلى المياه، وبالتالي تبخيرها. الأمر الذي يستدعي تدخلًا بكشط هذه الطبقة بشكل متواصل عن وجه الماء.

رغم ثقة خريسات بأنه سيظل هناك دائمًا سوق لنوع الزيت الذي تنتجه المعاصر القديمة، إلا أنها مهددة بالإغلاق بسبب عدم توفّر قطع غيارها. لقد بقي منها كما تقدم أربع معاصر، في حين كان هناك في عام 2010 ثماني معاصر.[5] بعض هذه القطع يقول خريسات إن أصحاب المعاصر تمكنوا من اجتراح بدائل لها، مثل «الكفاف» التي بات بعضهم يغزلها بنفسه من خيطان البلاستيك التي تباع في السوق. لكن في المقابل، هناك قطع ليس لها بدائل، وتلفها يعني توقف المعصرة. وهذا ما حدث بالفعل مع معاصر أخرى، ومعه هو شخصيًا، إذ توقف أحد المكبسين في معصرة العائلة بسبب تلف قطعة لم يجدوا لها بديلًا. وهذا شيء محزن، يقول خريسات، لأن هذه المعاصر لا توفر فقط نوعًا خاصًا من الزيت له عشاقه. بل هي أيضًا ملجأ للفقراء الذين يستغلون موسم الزيتون لـ«البعارة»، أي يجمعون من البساتين التي انتهى أصحابها من فراط زيتونها الحبات الباقية على الشجر وعلى الأرض، ويحصّلون بهذه الطريقة قسمًا من حاجتهم للزيت. وكثيرون منهم لا يجمعون الكميات التي تسمح باستقبالهم في المعاصر الحديثة. يقول خريسات إنه قبل أيام، حضر شابان صغيران إلى المعصرة ومعهما 16 كيلو زيتون جمعاها من البساتين المجاورة. «عصرتهن وطلعن أربعة كيلو زيت».

  • الهوامش

    [1] الكتاب السنوي لوزارة الزراعة، 2019.

    [2] نشرة الإحصاءات الزراعية، مسوح الاستراتيجية الوطنية للتنمية الزراعية، 2018. دائرة الإحصاءات العامة.

    [3] الكتاب الإحصائي السنوي 2019، دائرة الإحصاءات العامة.

    [4] Effect of Pressing Techniques on Olive Oil Quality, september 2015, American Journal of Food Technology.

    [5] التقرير السنوي لوزارة الزراعة، 2010.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية