موسم العكوب والخبيزة: الربيع كمشغِّل

تصوير مؤمن ملكاوي، آذار 2020.

موسم العكوب والخبيزة: الربيع كمشغِّل

الثلاثاء 09 آذار 2021

تنويه: قبيل بدء فرض حظر التجول في الأردن العام الماضي، وتفاقم أزمة ما زالت مستمرة أجبرت الكثيرين على البقاء في المنازل وغيّرت الكثير من أنماط الزراعة والتجارة التي كانت مسلمًا بها، تتبعنا مسيرة العكّوب والخبيزة في الربيع، من نموها وقطافها في البرية إلى تجهيزها كوجبات خفيفة تميز الموسم. أُعد هذا التقرير والتقطت الصور المرافقة له في منتصف آذار 2020، لكن سطوة الجائحة جعلته خارج دائرة ما يشغل الأذهان الربيع الماضي، لذا آثرنا تأجيل نشره. ورغم أن حظر يوم الجمعة عاد في المرحلة الحالية، فيما يلوح حظر أطول في الأفق، فإن الربيع لم يعلّق عودته، وعاد معه العكّوب والخبيزة وفرصة الاستمتاع بهما والاستفادة منهما.

في سوقٍ موازيةٍ للأسواق المركزيّة للخضار في المحافظات، تنشط في ربيع كل سنة، بشكل أوسع على جوانب الطرقات وأطراف المدن، سوقٌ شعبيّة لطيْفٍ واسعٍ من النباتات البريّة الموسميّة، منها الخبيزة، الأكثر انتشارًا في هذا الموسم والأقلّ ثمنًا، والأسهل في الحصول عليها. وبحسب بعض من قابلناهم فإنه لم يتم البدء بزراعة الخبيزة بغرض البيع إلّا قبل سنوات قليل، وذلك بسبب ارتفاع الطلب عليها.

على النقيض من الخبيزة، يندرُ العكوب ويرتفع سعره ليصل إلى عدة دنانير، يسري جامعو قبل الفجر له في دروب وعرة إلى الجبال وشِعاب الأودية النائية، وحين يعودون من الجبال تبدأ مراحل أخرى من تهيئته قبل الطبخ تكون خلالها الأيدي قد تشققت وأدميت بفعل شوكه والآلات الحادّة المستخدمة في تنظيفه.

بالإضافة إلى وجودهما كوجبةٍ خفيفةٍ، يشكّل العكوب والخبيزة مصدر دخلٍ لكثير من الشباب والعائلات؛ إذ يوفّر العمل فيها دخلًا، لكنه دخلٌ من عملٍ موسميّ قصير، ومصدر غذاءٍ مجانيّ لأسر أخرى تنتظر هذا الموسم في تقليدٍ قديم يعود لسنوات.  

في هذا التقرير نتتبع طرق التعامل معهما؛ للبيت كوجبةٍ خفيفةٍ، وكمصدر دخلٍ لأسر تنتظر موسمهما، وعلى نطاقٍ ضيّق، كتجارةٍ  يعمل فيها مختصون في إيفاد الشباب والنساء للبحث عنهما في السهول والجبال.

العكوب البخيل

بكميّات قليلةٍ، توزّعت على الطريق بين إربد وعمّان بسطات لبيع العكّوب في ثلاث أصناف؛ عكوبٌ بشوكه، ونصف منظفٍ، ومنظفٌ بشكل كاملٍ جاهزٌ للطبخ. إلى جوار إحدى هذه البسطات قرب قضاء المصطبة يقف المتقاعد العسكريّ أبو نبيل، ومعه أولاده موزعين على جانبيّ الطريق.

«نجيبه من جهة جبال السلط، [ومن] شفا الغور الجنوبيّ، ومادبا، ودوقرا في الزرقا، أفضل عكوب عكوب مادبا ودوقرا»، يقول أبو نبيل عن الجبال التي يأتي منها بالعكوب.

يبدأ موسم العكّوب مع بدء الموسم المطري، فإن تأخر يبدأ الموسم بداية شهر شباط، وإن بكَّر المطر يبدأ موسمه في كانون الثاني. مع بداية هذا الموسم، خرج أبو نبيل مع أولاده لتلقيط العكّوب، أفاقوا بين الساعة الثالثة والرابعة فجرًا، وتوجهوا إلى جبالٍ في السلط معروفة لهم، وصلوا الساعة السادسة صباحًا. ركن أبو نبيل الباص حيث يمكنه الوصول، وبعدها توغلوا بين الجبال وشعاب الوديان الوعرة باحثين عن العكوب «لولا ولادي ما أعرف أطيح جبل». يقول أبو نبيل عن ولديْه اللذيْن يساعدانه في جمع العكوب، وأعمارهما 18 و19 سنة. 

أبو نبيل أثناء بيع العكوب في باصه.

منذ أن تقاعد أبو نبيل وهو يعمل في البيع على الشارع، لكل صنف موسمٌ؛ الفطر والفول واللوز والمشمش والفراولة، والباذنجان للمكدوس، هكذا لا يعدم أبو نبيل العمل على طول السنة «نبلش نقعد بشهر 12 لنص واحد، لا شغلة ولا عملة، القريشات اللي نجيبهم نصرفهم بالشهرين»؛ وهما شهران يشتدّ الشتاء فيهما وتفرغ الشوارع من البسطات. بعد الشهرين يفتتح العكوب مواسم العمل.

وبعد سنوات من جمع الكعّوب وغيره من النباتات، يقول أبو نبيل «أنا من ورا العكوب صار معي ديسك». ولذا بدأ يوظّف عمّال شباب، يخرجون لتلقيط العكوب في الرابعة فجرًا، وينتهون من جمعه في الثانية ظهرًا، لتبدأ بعدها مرحلة التنظيف، والتي تنتهي عادة بعد منتصف الليل.

يبدأ أبو نبيل ببيع العكوب منذ السابعة صباحًا، ويبقى حتى العاشرة ليلًا «هذا الباص رفيقي».على جانب الطريق الآخر، بعيدًا عنه بحوالي مئتي متر كان ابنه خير الله الذي سيتقدّم لامتحان التوجيهي هذه السنة يقف على مجموعة صناديق عكوب أخرى. 

بعيدًا عنهما بنحو كيلومتر يجلس طفلان ينظفان بمشارط أكوامًا صغيرةً من العكوب، تقترب سيّارةٌ منهما، يفاوض أحد الطفلين المشترين «خذوه على ليرتين وربع، على ليرتين» لكن المشتري يغادر ويرمى جملةً غير مفهومةٍ تغيب بين أصوات السيارات العابرة «لو تعبان فيه ما يحكي الحكي هاظ». يردّ أيمن (17 سنة).

يجمع العامل الواحد من 20 إلى 25 كيلوغرام من العكوب في اليوم، ويباع الكيلو غير المنظف بدينار ونصف، والمنظف نصف تنظيف بثلاثة دنانير. أمّا المنظف بشكل كامل، والجاهز للطبخ مباشرة بين 4-5 دنانير.

«لمّا نجيبوا تكون الحبة كبيرة، تكون كلها شوك، بنظفوه على الجبال»، يقول أيمن ثم يعمل هو وابن عمه قيس على تنظيفه مرّة أخرى ليكون جاهزًا للطبخ. كانت الساعة قريبة من الرابعة عصرًا، وكان أيمن قد باع بمبلغ 20 دينارًا. «والله مصيبة هاي، لدّ الشخوط»، يقول أيمن ويمد كفّه لنرى أثر الآلة الحادة عليها.

أيمن وقيس أثناء تنظيف العكوب على طريق جرش.

ليست هذه هي الطريقة الوحيدة لبيع العكوب. إذ يتفق، في بعض الأحيان، تجار من الأسواق المركزيّة مع مجموعات شبابٍ على توريد العكوب لهم يوميًا، لقاء سعر محدد، لكنها تبقى كميات قليلة. 

يشغّل زياد الخريسات الذي يعمل في العكوب منذ 30 سنة مجموعة من هؤلاء الشباب، وكما هو الحال مع عائلة أبو نبيل، يخرجون من إربد الساعة الثالثة فجرًا إلى جبال الكرك ومادبا، ويستمرون في تنظيفه حتى ساعات المساء.

مع ساعات المساء يُعبّأ في شوالات ويبعث إلى الخريسات الذي يتوّلى بيعه في الأسواق المركزية في إربد والزرقاء وعمّان. «كنا نودي على مستوى لبنان وأبو ظبي» يقول. 

باعة العكوب في السوق المركزي في إربد.

يتنقل الخريسات بين محافظات مختلفة في الأردن، ففي شباط يجمع العكوب من جبال السلط، وفي آذار، وحتى أواخر نيسان يجمعه من مادبا، وفي نهاية الموسم يذهب إلى جبال الطفيلة. «آخر عكوبات عكوبات الطفيلة، إحنا عارفين وين بطلع. في ناس ما وفّت معها، تركت الزراعة وحوّلت على شغلة العكوب».

في أقصى الشمال يندر العكوب، لكنه ينبت بين الجبال وفي المناطق الوعرة مثل جبال أم قيس، وهناك يجري التعامل به في نطاقٍ ضيّق وللعارفين بمواطنه، فلا يجري جمعه بكميات تجارية، وإنما بكميّات قليلة. محمد العمرات أحد العاملين في جمع النباتات الصالحة للأكل، «خبيزة، عكوب، خرفيش، بسباس». وفي بعض الأحيان، يعمل في جمع هذه النباتات بناء على طلب من مغتربين خارج الأردن أن يزودهم بكمية قليلة منها. 

خلال التجوال بجبال أم قيس الوعرة، وجد محمد العمرات فطرًا، وقبل أن يقلعه، ضرب بالسكين عليه «مشان تنزل البذور بالتربة للسنة الجاي». ثم قصّه بالسكين، ومثل الفطر يتعامل العمرات مع العكّوب «الناس صارت تشلعه شلع من الأرضية عشان هيك صار يخفّ، أول وين ما كنت تروح تلاقي عكوب هس خف صار فيه صعوبة». 

تقول الأغنية الشعبيّة في الشمال «يا لقّاطات العكوب، اطْعمنّي فطيرة»، إذ كان التقاط العكوب مرتبطًا تقليديًا بالنساء، يذهبن في جولات إلى الجبال القريبة لجمعهِ وطبخه للأولاد. وفي السنوات الماضية، كانت العاملات في العكوب، يخرجن نهايات الليل ملثمات، وبأحذية طويلةٍ للجبال في الجنوب لجمع العكوب.

«نبتةٌ بخيلةٌ»؛ يقول عنها الباحث علي طه النوباني الذي عمل في مشروع الخابية، لجمع التراث الغذائي وأدوات الإنتاج التقليدي في محافظتي جرش وعجلون؛ إذ أنَّ كومةً منها، تطلب عدة أشخاصٍ عارفين بدروب الجبال، ومجهزين بأداوتهم، ولاحقًا جهدهم ليومٍ كامل في تنظيفها، وفي النهاية تكاد لا تكفي الكمية وجبةً خفيفةً لشخصٍ واحدٍ. وبحسب النوباني، يطلق على العكوب في جرش وعجلون شماليخ عكوب.

خبيزة في كل مكان 

خلال التجوال مع محمد العمرات في سهول وجبال أم قيس، كانت الخبيزة أمامنا، لكنه رفض جنيها، يرصدها العمرات كلما مرّ من أمامها وهو يحفظ مكانها «أنا خليتها، ما رضيتش ألقطها، هاي بطّلع فيها نوّار وبعدين بذور تعبي المنطقة أكثر [السنة المقبلة]». هكذا يُدير العارفون بالخبيزة شؤونها في نهاية الموسم.  

بعكس العكوب، تعد الخبيزة وهي من نباتات حوض البحر الأبيض المتوسط نبتةً طيعةً لناحية لقطها وطبخها؛ إذ هي متوافرة في أي فسحةٍ في الريف أو الجبال. ولا يحتاج طبخها تنظيفًا، وسعرها أقل من سعر أي نبتة أخرى في السوق.

في موسم الخبيزة في إربد، تتوزّع النساء جالسات على أطراف سوق الخضار ومعهنّ ربطات الخبيزة ومجموعة الحشائش سهلة الجمع، مثل العلت. يأتين في الصباح الباكر ويجلسن على الأرض. أما في السوق المركزيّ فبائعو الخبيزة يُعرفون بتجّار الحشائش، منهم حسين الرميلات الذي يأتي بها من الأغوار بداية الربيع «بتعامل مع ناس، بشتريها منهم بموسمها، لمّا تعرنس وتعصي يبطل حدا يشتغل بيها، الناس زهقت خبيزة من شهر 11 لشهر 3 توكل خبيزة». 

أخيرًا، تعد الخبيزة والعكوب وطيف واسع آخر من النباتات البريّة مصدر غذاء لكثير من العائلات في الأرياف، وهي من ضمن الأكلات التي تسمّى الحوسات، أي التي تطبخ بطريق الحوس، تقّطع ويضاف لها البصل والزيت وتطبخ وهي كذلك من ضمن ما يُقال عنه بأكلات الغموس أي التي تؤكل بالخبز. وهي قديمةٌ عند الفلاحين جرى رصد بعضها منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين مثل «حوسة فطر، حوسة يقطين، حوسة فول، حوسة قرع، كوسة عكوب»،* ومعها نباتات أخرى تختلف طريقة أكلها مطوبخةً أو نيئةً مثل الحُميضة، والشومر، والحميميصه، وخبزة الراعي، والعلت، والخرفيش، وإبرة العجوز.  

طهي وتحضير الخبيزة.

خلال التجوال في السوق المركزي بإربد كان محل واحدٌ فقط، يختصّ ببيع العكوب، وتاجر واحد على باص صغير خارج السوق، إذ لا يوجد الكثيرون ممن يتعاملون به. في سوق عمّان المركزي يقول مدير السوق أنس محادين لحبر عن العكوب والخبيزة «ليست أصناف رئيسيّة، نظامها موسمي، وليس هناك طلب كبير، إذا موجودة تُشترَى وإن لم تكن فش حد بدور وراها».

نهاية اليوم، قبل المغرب بقليل، مرّ مشترٍ من عند أبو نبيل، ودخل معه في نقاشٍ حاد حول سعر العكوب المرتفع، قال له المشتري، «ما فيه أرخص» فرد أبو نبيل: «فيه، جيب فاس، وسطل، ومشرط والحقني على الجبال نلقط».

* ناهض حتّر وأحمد أبو خليل، «المعزب ربّاح: مداخل إلى تراث الإنتاج الفلّاحي-البدوي وتقاليد الغذاء في الأردنّ»، منشورات البنك الأهلي الأردني، 2012، ص 208.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية