هل من بديل عن العودة لحبس المدين؟

الأربعاء 31 أيار 2023
تصميم ندى الجفّال.

منذ شهر أُعلن توقف العمل بأمر الدفاع 28 لسنة 2021، الصادر بالاستناد إلى أحكام قانون الدفاع رقم 13 لسنة 1992، والذي يقضي بتأجيل حبس المدين شريطة ألّا يتجاوز مبلغ الدين مئة ألف دينار، والأمر نفسه ينطبق على عقوبة إصدار الشيكات دون رصيد. وكان رئيس الوزراء قد أصدر عدّة بلاغات لتمديد أمر الدفاع، كان آخرها ساريًا حتى 30 نيسان من العام الحالي. 

تطرق أمر الدفاع إلى مسألتي مراعاة الظروف المالية والاقتصادية الناجمة عن وباء كورونا، والتخفيف من اكتظاظ مراكز الإصلاح والتأهيل، كدوافع جوهرية لتأجيل العمل بحبس المدين ومُصدري الشيكات دون رصيد. علمًا أن عدد المطلوبين في جميع دوائر التنفيذ بلغ قرابة 158 ألف شخص، 68% منهم يقلّ دينهم عن خمسة آلاف دينار، و87% منهم يقل عن 20 ألفًا، بحسب تصريحات صحفية لوزير العدل أحمد الزيادات.

وبعد سريان قانون التنفيذ المعدل رقم 9 لسنة 2022، قُلصت نسبة الدفعة الأولى التي يتوجب على المدين دفعها من 25% إلى 15% من نسبة الدين، ومُنع حبس المدين للديون الأقل من خمسة آلاف ما عدا عقود الإيجار والعمل. وقُلّصت مدّة الحبس من 90 يومًا كاملة للدين الواحد، إلى المدة التي يقدّرها القاضي على ألا تتجاوز 60 يومًا للدين الواحد خلال السنة، وعلى ألا يتجاوز الحبس مدة 120 يومًا مهما تعدد الدائنون.

للحديث عن مسار التعامل مع مسألة الدائن والمدين والتغييرات التي طرأت على القوانين خلال العقود الماضية، وصولًا إلى التعديلات الأخيرة، حاورنا المحامي عمر العطعوط، وهو خبير دستوري وناشط سياسي، وعضو في نقابة المحامين الأردنيين منذ العام 1989، وعضو مؤسس في الجمعية العربية للقانون الدستوري. كما نحاول من خلال الحوار فهم فلسفة الرأي المعارض لحبس المدين والبدائل التي يمكن أن توفرها الدولة لضمان العدالة دون اللجوء إلى الحبس.

رحمة حسين: من خلال الإطار التشريعي، كيف يمكننا فهم توجهات الدولة في التعامل مع ملف المدين، والتحولات التي طرأت على التشريعات منذ عقود وحتى اللحظة؟ وهل هنالك أية ممارسات تشريعية فضلى في هذا الملف؟

عمر العطعوط: قبل عام 2002، كان لدينا تشريع أفضل من قانون التنفيذ الذي يحكم حاليًا مسألة التعامل مع المدين، وهو قانون الإجراء لسنة 1952، الذي بقي ساريًا حتى إلغائه بموجب قانون التنفيذ المؤقت رقم 36 لسنة 2002. لم يُجز هذا القانون حبس المدين لغاية دينٍ مدني؛ إلا بحالة واحدة وهي إذا تبلغ المدين بالإخطار ولم يحضر أو يعرض أية تسوية يدفعها كدفعة أولى للوفاء بدينه، وذلك وفقًا لقدراته المادية الفعلية. 

بالتالي لم يحدد ذلك القانون نسبةً للدفعة الأولى، وهو أكثر إنصافًا للمدين المعسر. وأكثر توافقًا مع مبادئ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص على عدم جواز حبس المدين غير المقتدر على السداد، رغم أن القانون سبق مصادقة الأردن على العهد الدولي بعقود. فيما بعد، أصدرت الحكومة قانون التنفيذ المؤقت رقم 36 لسنة 2002، بغياب مجلس الأمة. واشترط القانون نسبة 15% من أصل الدين، يدفعها المدين دفعةً أولى، كي لا يتم سجنه، حتى وإن لم يكن قادرًا على السداد. ورفعت نسبة الدفعة الأولى في 2007 إلى 25% ومن هناك أصبح لدينا مفهوم حبس المدين المدني.  

مع سريان قانون التنفيذ المعدل رقم 9 لسنة 2022، عادت النسبة المشترطة كدفعة أولى إلى 15% وتم منح القاضي صلاحية تقدير مدة الحبس من يوم حتى 60 يوم للدين الواحد. وحُضرت عقوبة السجن على الدين بمبلغ يقل عن خمسة آلاف دينار، باستثناء عقود الإيجار وعقود العمل.  

ما السياق الذي توجهت من خلاله الحكومة نحو قانون التنفيذ المؤقت لعام 2002؟

برأيي، في تلك الفترة بدأ تدخل أصحاب رأس المال؛ من الشركات الضخمة والبنوك وشركات التأمين في السُلطة. أصبحت هناك سيطرةٌ لرجال الأعمال والشركات الكبرى على مفاصل التشريع والسلطة التنفيذية في الدولة، ما جعل الحكومة تذهب باتجاه فرض قوانين لصالح هذه الشركات. 

من المعلوم أن من بين كل القطاعات الأخرى، فإن أرباح البنوك هي الأعلى بالأردن. وبعد سريان القانون كانت تلك هي الفرصة للبنوك لتتوسع في الإقراض، ومع ازدياد استيفاء الفوائد المتراكمة على الأفراد، أصبحت تتزايد أرباحهم. حتى أن البنوك ومؤسسات التمويل الأصغر أصبحت تقرض الناس دون ضمانات كافية وهي على علم بذلك.

يقول البعض إنه ولولا التهديد بعقوبة الحبس، لن يضطر المدين إلى تسديد دَينه. برأيي، الأصل قبل منح أي قرض أو دين، أنه ينبغي على الجهة الدائنة، أن تقوم بالإجراءات اللازمة للتأكد من أن هذا الشخص لديه القدرة على السداد. وهذا يوضح فلسفة البنوك في إقراض الأفراد دون ضمانات كافية. إذ تعلم جيدًا توجس الأفراد من عقوبة السجن. وأن المدين المحكوم عليه بالحبس ورغم عدم قدرته على السداد سوف يحاول الاستدانة من مصادر أخرى بأية طريقة لتسديد هذا الدين.

في النهاية، سيبقى المتضرر الأكبر هو المدين، وذلك لأن البنوك تضمن تسديد دفعة أولى بكل الحالات، وينبغي أن يعرض المدين تسويةً معقولة، وطوال تلك الفترة سوف يتزايد المبلغ مع تزايد قيمة الفائدة القانونية. فبالتالي نستطيع القول إن قانون التنفيذ يعزز مصالح الشركات الكبرى بالفعل. 

ما هي الفلسفة التي يمكن الاستناد عليها لفهم إشكالية حبس المدين؟

الأصل هو عدم تدخل الدولة بين الأفراد إلا في حالة وقوع جريمة. أما في حالة الدين، لا يوجد حق عام في حالة اقتراض شخص ما وتعثر مشروعه. وليس من واجب الدولة أن تسجن الأفراد بسبب عدم قيام المؤسسات الكبرى بأخذ احتياطاتها.

كما قلت سابقًا، فالبنوك تُقرض الناس مع معرفة مسبقة بأن قدرتهم على السداد ضعيفة. إذًا، لا ينبغي على الدولة أن تدفع نفقات إقامة المدين في السجن، ينبغي على البنوك التحقق من حالة المدين، ومن تاريخه الائتماني، وأملاكه، وراتبه، لكنها لا تقوم بذلك.

القاعدة الرئيسية هي أن الحبس للمجرم الذي صدر عليه حكمٌ قطعيٌ بارتكابه جريمة، أمّا المدين الذي ليست لديه القدرة على التسديد، فلا يستحق عقوبةً بحجم تقييد الحريات، ومكانه ليس السجن مهما كان الدين.

يرى البعض أن التعديلات الأخيرة التي أُجريت على قانون التنفيذ كانت خطوة إيجابية لصالح المدين، كيف تقرأ تلك التعديلات؟

لا شك أن التعديلات الجديدة جعلت القانون أقل ضررًا من السابق، تحديدًا في مسألتي تخفيف مدة السجن، وإعطاء القاضي الصلاحية لاتخاذ هذا القرار. لكن هنالك بعض النقاط التي علينا الالتفات إليها؛ فالقانون الحالي منع حبس المدين لأقل من خمسة آلاف، باستثناء عقود الإيجار وعقود العمل. لكن، من هي الجهات الدائنة لمبالغ أكثر من خمسة آلاف؟ إنها الشركات الكبرى بالتأكيد. بوجهة نظري إن هذا النص ليس دستوريًا، فما هو الأساس الذي مُيز فيه مبلغ الخمسة آلاف عن مبلغ أكبر، بالنسبة لدائن صغير قد يساوي ضرر فقدانه للخمسة آلاف نفس ضرر فقدان شركات كبرى لمبالغ أكبر. في الخلاصة، فالقانون لا يزال يعمل لصالح الشركات الكبرى. 

يمكننا القول، إن التعديلات حسّنت من قانون التنفيذ، إلا أنه من وجهة نظري، لا يجوز أن يُحبس المدين المعسر لدينٍ مدني، إلا إذا ثبت أن هذا المدين متهربٌ من السداد وهو قادر.

هل يميّز القانون الحالي بين المدين المعسر والمدين المتهرب؟

لا، القانون اليوم لا يفرق بين الحالتين، إن كان الدّين يفوق الخمسة آلاف دينار، وفي حال لم يدفع المدين الدفعة الأولى بنسبة 15% من الدين، حتى وإن لم تكن بحوزته، فالحكم بالحبس قطعًا على الحالتين سواء. ولا توجد للقاضي أية صلاحيات بتأجيل الحبس في حال عدم دفع الـ15% المنصوص عليها بالقانون.

في حال إلغاء عقوبة حبس المدين، كيف يمكن للدائن أن يحصّل حقوقه من المدين غير المعسر والمتهرب من التسديد؟

بالعودة إلى قانون الإجراء لعام 1952، الذي يعدّ برأيي أفضل ممارسة قانونية للدولة في هذه المسألة. لقد كان يعالج هذا الأمر. فقد كان المدين المتعسّر غير ملزمٍ بدفع نسبة من مبلغ الدين وإنما يعرض تسوية شهرية بما يتناسب مع أوضاعه. وفي حالة المدين المتهرب تتم محاسبته عبر تشريع آخر. 

بطبيعة الحال وبغض النظر عن قانون التنفيذ، توجد بعض النصوص القانونية في قانون العقوبات التي تغطي مسألة الغش إضرارًا بالدائنين وتهريب المدين لأمواله من خلال التنازل بها لأحد أقاربه، في هذه الحالات يحق للقضاء إبطال التصرف، وتعود الأملاك باسم المدين مرة أخرى. وهذا موجود ومطبق بالقانون ويتم استخدامه بشكل يومي. 

من خلال القانون الحالي، ما هي الاستثناءات التي لا يجوز فيها حبس المدين؟

هناك عدد من المستثنيين من الحبس، منهم موظفو الدولة، والمدين الذين لم يبلغ الثامنة عشرة والمعتوه والمجنون، والحامل حتى انقضاء ثلاثة أشهر بعد الوضع وأم المولود حتى إتمامه السنتين من عمره. والمدين المفلس والمدين المعسر وفقًا لأحكام قانون الإعسار، وهذا القانون ينطبق على الأفراد والشخصيات الاعتبارية. بعد أن يُثبِت المدين أن ديونه تزيد عن كل ما يملكه، يقدم على إثره طلبًا للمحكمة لإعلان إعساره. لكن الإشكالية في مسألة إعلان الإعسار أنها لا تنطبق على معظم المدينين، ومنهم الموظفين، وأنها مسألة معقدة وتأخذ إجراءاتها وقتًا طويلًا.

هل هنالك أية مسارات أخرى أو إجراءات يمكن تطبيقها للتعامل مع المسألة كبدائل عن حبس المدين المعسر؟

هنالك إجراءات مطبقة عالميًا، وليس من الصعب تطبيقها في الأردن، وهي عقوبات لا تسلب حرية الفرد أو تسجنه، ولكنها تسقط عنه بعض حقوقه المدنية. منها منعه من فتح حسابات بنكية أو إصدار دفتر شيكات أو الحصول على خط هاتف أو تسجيل شركة، ومن الممكن أن تصل في حالات معينة إلى المنع من السفر. باعتقادي، هذه الإجراءات كفيلة بإن تجعل المدين المتهرب على الأقل أن يسعى لتسديد دينه حتى لا يعرض نفسه لهذه العقوبات.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية