بالصور | في انتظار السياح، أهالي رمّ وعمّالها يتكيّفون مع أزمة غير مسبوقة

الدليل السياحي سليمان الزلابية مع أحد الجمال في وادي رمّ. تصوير علي السعدي.

بالصور | في انتظار السياح، أهالي رمّ وعمّالها يتكيّفون مع أزمة غير مسبوقة

«لولا السياحة رمّ اندفنت بالرمال»، كهذا يصف الدليلٌ المحليّ سليمان الزلابية، أبو يعقوب (37 سنة) الذي يعمل ويعيش في قرية رمّ، اعتماد أهالي القرية على السياحة منذ عقود.

يعود هذا الاعتماد إلى بداية الستينيات، بعد أن شهد وادي رمّ تصوير مشاهد من فيلم لورنس العرب عام 1962، كما يقول مدير المحميّة صالح النعيمي. اليوم، باتت المهن في رمّ تتمحور بشكل رئيسيّ حول العمل في نقل السياح على الجمال وسيارات الدفع الرباعي إلى الصحراء، والدلالة السياحيّة المحليّة، ورياضات التسلق، وتوفير خدمة مبيت السيّاح في مخيّمات تحاكي الحياة البدوية، شيّدها الأهالي جنوب القرية في الصحراء بين الجبال ضمن محميّة وادي رمّ، التي تبلغ مساحتها 720 كيلو مترٍ مربعٍ ممتدةٌ من جنوب القرية إلى ما قبل الحدود السعوديّة.

وترتبط سلسلة أعمال أخرى في القرية بمهن السياحة، مثل بيع الوقود لسيّارات الدفع الرباعي، وإصلاح هذه السيّارات من قبل حرفيين مختصين، وبيع العلف للجمال العاملة في نقل السيّاح، وبيع المواد التموينية والبناء في محال ترفد المخيمات بحاجاتها.

لذا، عندما توقفت السياحة في الأردنّ بسبب جائحة فيروس كورونا المستجد، انقطع دخل العاملين فيها وفي سلسلة الأعمال الأخرى المرتبطة بها، وجرى تبادل كل شيء تقريبًا بالدين، وباع آخرون جزءًا ممَّا يملكونه من جمال وحلال لمواصلة العيش، وفكّر بعض آخر بترك القرية، وعانت بسبب الإغلاق عائلات القرية وعمّالها الوافدون، وباتت المخيمات التي اعتادت استقبال السيّاح مهجورة. ولم تنقذ السياحة الداخليّة، التي بدأت نهاية حزيران، هذا القطاع في رمّ، إذ كانت أعداد الداخلين إليها حتى السادس من تموز شحيحةً، وفق النعيمي والدليل أبو يعقوب.

لا تتوفر معلومات عن عدد العاملين المرخصين في السياحة في رمّ وحدها، إذ تشمل أرقام وزارة السياحة عن عدد العاملين بالسياحة من يعملون في قضاء الديسة بالسياحة كذلك، ويبلغ عددهم، بحسب أرقام وزارة السياحة، 1363 عاملًا. وتنتشر في الديسة بالإضافة إلى المخيمات، مراكز الترفيه والخدمات، مثل محال الصرافة والصرّافات الآلية وفروع البنوك، بالإضافة إلى ميدان الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان لسباق الإبل، وهي خدمات لا تتوفر في قرية رمّ.

هذا العدد من العاملين في السياحة لا يشمل الدليل أبو يعقوب، إذ أنه دليل محليّ غير مرخص، ورث هذه المهنة من والدهِ مثل كثير من العاملين بمهن السياحة في القرية.

سليمان الزلابية، أبو يعقوب، مع أحد الجمال في رمّ.

داخل القرية 

بدايات حزيران الماضي، كانت القرية ومحلاتها لا تزال خالية من السياح. تقع رمّ والتي يبلغ عدد سكانها 2192 نسمة وتتبع إداريًا للواء القويرة ضمن محافظة العقبة، وتبعد عن عمّان حوالي 391 كيلو مترًا. وهي من ضمن آخر القرى في الأردنّ قبل الحدّ السعودي، والأقرب للمخيّمات السياحية في الصحراء، وهي التي تزود هذه المخيّمات بحاجاتها الأساسية.

في طرف القرية، يقع بيت الدليل أبو يعقوب، الذي نمت ببابه عدة شتلات. «زرعت بطاطا وبندورة في الحاكورة من بداية كورونا، حبة صغيرة بس زاكية»، يقول أبو يعقوب الذي توقف عمله بالسياحة، وخاف لأوّل مرةٍ على مصدر طعامه، خاصةً في أيام الحظر الأولى التي فُرض فيها الحظر الشامل.

يعمل أبو يعقوب في السياحة مذ تفتحت عيناه على الدنيا؛ إذ رأى من عمر مبكر جدًا السياح الأجانب في بيته، ومنهم بريطانيّ يدعى توني هاورد، يأتي بضعة شهور كل سنة إلى وادي رمّ عند والد أبو يعقوب ليجمع معلومات عن التسلق والسياحة. «الإنسان هذا عاش معنا أيّام جدي، أيّام الصحرا»، يقول أبو يعقوب.  ولمّا أنهى الصف العاشر في مدرسة الملك طلال الثانوية في القرية، قال لنفسه «يا ولد ما في داعي للدراسة، الإنسان يدرس من الحياة أحسن». وساعده على اتخاذ القرار عدم وجود مدرسة ثانوية في قريته، والمواصلات لأقرب قرية فيها  مدرسة ثانوية صعبة. وواصل عمله بالسياحة، يقود مجموعات السيّاح داخل الصحراء، يطبخ لهم، ويبني الخيام.

 أبو يعقوب في سيارته.

عند حاجته للوقود، وبما أنه لا محطة وقود في القرية، يتوجه أبو يعقوب إلى محل الشاب نواف الزلابية الذي يبيع الوقود لسيارات الأدلاء السياحيين، ولسكان القرية، كما يبيع علف الجمال. يعيل نوّاف عائلته المكوّنة من تسعة أفرادٍ، وكان يبيع في اليوم 20 جركن (صفيحة) وقود، يأتي بها يوميًا من محطّات الوقود على الطريق الصحراوي. وتنتشر في القرية محال بيع الوقود لسببين؛ لكون معظم سيّارات الأهالي غير مرخصة، وبالتالي لا تستطيع الخروج إلى الطريق الصحراوي حيث تنتشر دوريات الشرطة، فضلًا عن أنَّ المسافة إلى أقرب محطة وقود بعيدة. 

انخفضت مبيعات نوّاف إلى ما بين ثلاثة وأربعة جراكن يوميًا بعد توقف السياحة، وصار يذهب مرة كل أسبوع أو أسبوع ونصف لمحطّات الوقود، وكذلك انخفضت مبيعاته من علف الجمال، إذ أصبح الكثيرون يتركون جمالهم لترعى في البرّ.

ساهمت الجائحة وما تبعها من توقف للعمل بشكل شبه تام على انتشار البيع بالديْن. يقول نوّاف، والذي يبيع البنزين بالدين أحيانًا، «إنت تقيس الظرف عليك قبل تقول للزلمة لأ، صعب أقول لأ».

نواف الزلابية في سيارته التي يجلب بها الوقود.

إلى جوار محلّ نوّاف كان أحد محلّات المواد التموينية، يبيع بالدين كذلك. يقول عطية الصويلحين (50 عامًا)، والذي يعمل على سيّارة تويوتا دفع رباعي قديمة في نقل السيّاح في جولات داخل الصحراء، إنه كان لديه خمس معزات، أكل وعائلته منهن اثنتين خلال الحظر، أما حاجات البيت فهو يشتريها من المحل بالديْن. «هم بياخذوا دين، وإحنا بنزّل [بضاعة] دين»، يقول أحد العاملين في المحل، وهو مصري يقيم في رمّ منذ 24 سنة، فضّل عدم نشر اسمه. 

يعمل عطية كذلك، مثل العديد من أبناء القرية، في تصليح السيارات، ويبدو أنهم حرفيون مهرة إذ أن معظم هذه السيارات التي يصلحونها قديمة جدًا، ويعود بعضها لستينيات وسبعينيات القرن الماضي. ولا يستطيع أصحاب هذه السيارات تصليحها في معان أو العقبة للسبب ذاته الذي يمنعهم من تعبئة الوقود من محطات الوقود على الطريق الصحراوي، وهو أن سياراتهم غير مرخصة. كغيره، توقف عمل عطية وبالتالي باتت عائلته المكوّنة من ثمانية أفراد بلا دخل.

إلى جوار محل نوّاف، جلس الشاب إبراهيم عارف الدماني (21 سنة)، أمام محلّات عمّه التي يعمل فيها؛ واحدٌ لبيع مواد البناء، وآخر لبيع الخيام ومستلزماتها، وثالث لبيع القهوة، حيث كان قبل كورونا يبيع موادَ البناء والتمديدات الصحية والكهربائيّة وبيوت الشعر المستورد التي يطلبها أصحاب المخيمات باستمرار.

مع توقف العمل بالسياحة، توقف بيع المحلات الثلاثة، «حتّى الموزعين اللي من عمان اللي كل إسبوع يجوني بطلت أشوفهم»، يقول إبراهيم. فمنذ بدء فرض حظر التجول لم يبع غير بيتيْ شعر للبدو، أما المخيمات فلم يعد يرى أحدًا من أصحابها. أعفى صاحب العقار الذي يضم المحلات الثلاثة عمّ إبراهيم من الأجرة حتّى تعود حركة السياحة في المنطقة، «قال بدون ما تحكوا معي، أنا مقدّر الوضع».

إبراهيم الدماني في أحد محلات عمه.

كان برفقة إبراهيم ابن عمه، يوسف الزلابية (33 سنة)، الذي شيّد مخيمًا السنة الماضية في المحميّة بتكلفة 25 ألف دينار هي حصيلة عمله بالسياحة مذ كان يعمل على الجمال في السابعة من عمره، وبجانبه عوض، العامل المصريّ الذي يتنقّل بالعمل بين مخيم يوسف والقهوة، والذي يعمل في رمّ منذ 11 سنة. توقف يوسف عن دفع راتب عوض مع توقف السياحة، لكنه يدفع له مصروفه الشخصيّ، مضيفًا إن أهالي القرية يرسلون الخبز باستمرار للعمال الوافدين فيها.

يقول إبراهيم إنه إذا بقي الوضع على ما هو عليه، فسيكون مضطرًا لإغلاق هذه المحال والعودة إلى عمله السابق، سائقًا لصهريج مياه. يعمل إبراهيم عند عمّه، ولا يتقاضى راتبًا، بل مصروفًا شخصيًا، فيما يقول إن عمّه وعده «هو يجمّع لي راس مال ويسوّي لي [مشروع]»، بعد خدمةٍ عنده.

يتذكّر أبو يعقوب كيف أمضى عيد الفطر الأخير مع أولاده في ظل الحظر: «يوم العيد ذبحتلهم جدي، وشوي، الساعة 2 بالليل عيّوا يناموا. وزعنا على الناس، أكثر ناس تضرروا المغتربين سودانيين مصريين». فيما مضى، جرت العادة أن يأخذ العاملون في السياحة الأبناء في رحلة إلى الصحراء في أيّام العطل والأعياد، ويأخذوا معهم ذبيحة يشوونها، ويلعبون «خزنزن» أي طمّاية، «وسباق على الرمال»، كما يقول أبو يعقوب. 

عوض، العامل المصري في رم.

في عمق الصحراء

قبل الغروب بقليل، بعيدًا عن القرية بكيلو متر واحد، بين الرمال، على دربٍ شقَّته عجلات سيّارات الدفع الرباعي للأدلاء المحليين، يقف عتيّق الزلابية (44 سنة)، أبو زيد، الذي يعمل بالسياحة منذ 25 سنةٍ، وابنه معه يتهيّآن للذهاب إلى سقاية إبله المتروكة في الصحراء لتأكل، بعد أن عجز عن إطعامها. «ما في مصاري نعلفهن»، يقول عتيّق، إذ تأكل جماله علفًا يوميًا بقيمة 22 دينار، أمّا ما تبقى منها فتركها للبرّ لتأكل، وعند الغروب تأتي الجمال لمكان محدد عوّدها عليه لتشرب من صهريج ماء، حيث يتكفل ابنه زيد بمهمة سقايتها.

ملكَ عتيّق قبل أزمة كورونا 20 جملًا، منها ما يعمل في نقل السيّاح، وأخرى يُطلق عليها إبل أصايل، يربّيها للسلالة والسباقات في مضمار الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في الديسة. «إحنا مرتبطين بيهن للجمال كونهن من تراث الآباء والأجداد»، يقول، ومع ذلك اضطر لبيع أربعة من جمالهِ التي تعمل في السياحة ليغطي مصاريف العائلة. 

أثناء حديث عتيّق مرَّت سيّارة تاجر إبل تحمل جملًا، يقول عتيّق إن التاجر يأتي ليشتري من أهل المنطقة الجمال التي توقف عملها بالسياحة، مستغلًا انخفاض أسعارها وحاجة أصحابها للمال. فالجمل الذي كان ثمنه 2000 دينار بيع بـ1400 دينار. أما جماله الأربعة، فقد باعها لتاجر لحمٍ من الشمال. 

عتيّق الزلابية وابنه زيد في أحد المخيمات.

على بعد كيلو مترات قليلةٍ داخل الصحراء، حيث كانت الجمال ترعى في مجموعات، تظهر مخيمات أهالي المنطقة عند أطراف الجبال. تنتشر هذه المخيمات المخصصة للمبيت في رمّ في المحميّة وخارجها، وهي نوعان؛ مخيّمات تقليدية، يعود العمل فيها إلى السبعينيات وفقًا لمدير المحميّة صالح النعيمي، التي كانت تلك السنوات على نطاق ضيّق، وأخرى فاخرة (Luxury) وهي نادرة وحديثة النشأة مقارنةً مع التقليدية. 

أغلب مخيّمات رمّ الموجودة في المحميّة تقليدية ومملوكة للأهالي إذ تمنع أنظمة المحميّة هناك بناء المخيمات لغير أهالي المنطقة، إلا أن بعض هذه المخيمات، فضلًا عن جميع المخيمات الفاخرة، تُؤجّر لمستثمرين وفق النعيمي. ويجري المخيمات التقليدية تقديم الخدمات الأساسيّة فقط، مثل المبيت وجولات بسيّارات الدفع الرباعي في الصحراء وتقديم الطعام. 

عند أحد الجبال، نصب مدّ الله الزلابية (47 سنة) الذي يعمل بالسياحة من 30 سنة، بيت شعر. يملك مدّ الله مخيمًا من هذه المخيمات التقليدية في المحميّة، ويعمل فيه مع أولاده.

بدأ مد الله العمل على الجمال في الثمانينيات، ثم اشترى سيّارة «لاندروفر» موديل 1969 «دوبها ماشية» ينقل فيها السيّاح إلى الصحراء، ثم شيّد خيمةً خاطها مع عائلتهِ، ينام فيها السيّاح «صفّ واحد». ويقتصر الفراش المقدم لهم على فرشة وغطاء ووسادة، وحمام مشترك من الزينكو، ومطبخ صغير. وظل العمل بهذا النظام لنهاية التسعينيات وفق مدّ الله.

تطور بناء المخيمات مع الوقت، وصارت أكثر تكلفة، إذ تبلغ تكلفة إنشاء الغرفة الواحدة في المخيّم أربعة آلاف دينار؛ تبنى الأرضيّة من الطوب والخشب، ثم ترفع الأعمدة الحديد على جوانبها، وتغطى بالقماش الاصطناعيّ تركي المنشأ، الذي يشترونه من تاجر من معان، بعدما كانت الخيام تصنع قديمًا من شعر الماعز الذي يُحاك ويصنع يدويًا، لكنه قلّ استخدامه هذه الأيّام. يقول مدّ الله إنَّ سبب ارتفاع تكلفة بناء الغرفة الواحدة يعود إلى ارتفاع تكلفة الحرفيين ونقل المواد، إذ يطلبون ضعف الأسعار بسبب بعد المسافة في الصحراء، وعدم وجود طرق معبدة إليها. فيما يختار أهالي المنطقة مكان بناء المخيّم بعناية كي لا يضطروا لمعاودة نقله، ويكون بعيدًا عن مجرى الماء ومضرب الهواء على جنب الجبل، «إذا حاولت تنقله لمكان ثاني يتمزّع»، يقول مدّ الله.

مدّ الله الزلابية وأبناؤه.

عادة ما يأخذ شكل العمل بالسياحة في رمّ نظام الاقتصاد العائلي، سواء في إطار الأسرة الضيقة أو الممتدة، بحيث يعمل الأولاد على نقل السيّاح بالسيّارات والجمال، وآخرون في الطبخ أو التنظيف داخل المخيمات، فيما يكون الأب عادة مدير هذه الاستثمار. في حالة مدّ الله، يعمل معه أربعة شبان؛ واحد كطاهٍ في المخيّم، وثلاثة آخرون على سيارات دفع رباعيّ، كلهم أولاده وأبناء عمومتهِ، فيما يدير المخيم بنفسه.

قبل كورونا، تحضّر أصحاب المخيمات للموسم مثل كل سنة، إذ تجري عمليات الصيانة لسيّارات الدفع الرباعي، ولغرف المخيّم. طوّر مدّ الله مخيمه بإضافة أربعة غرف جديدة بتكلفة بلغت 16 ألف دينار، وهو ما لم يكن سيفعله لو علم بتوقف السياحة بعدها. «إذا استمرت الأزمة شهور، شباب القرية عاطلين عن العمل ودهم يرحلوا يدوروا بالعقبة [على شغل]»، يقول.

في الليل، في أحد هذه المخيمات التقليدية داخل المحميّة، ظلّت القطط والكلاب تنبح وتموء حتّى وضع طعام العشاء ورُمي لها قطعة دجاج، لكنها استمرت بالتقاتل على البقايا. لم تعتد الحيوانات أن تُترك دون طعام، لكنّها بدت هزيلةً هذه المرّة، إذ مرّت أيّام طويلةٌ عليها دون عطايا البشر. في الليل بدت القطط والكلاب كأنها تطارد الأشباح، أي شيء يتحرّك، تتحرك خلفه. لمح كلب وقط شيئًا يتحرّك، تقاتل الاثنان عليه، ليتركاه في النهاية إذ لم يكن في الحقيقة سوى كيس.

يقول عتيّق الذي يملك مخيمًا تقليديًا في محميّة رمّ إنَّ استثمارات أصحاب المخيمات زاحمتهم، إذ كان أهالي المنطقة يشيدون المخيمات العادية كما فعل البدو لعشرات السنين. لكن بعد أن تأسست محمية وادي رمّ عام 1998 بدأت المخيمات الفاخرة بالظهور في الديسة. «شوي شوي صارت الناس تيجي من عمان ومن العقبة، ناس رؤوس أموال»، يقول عتيّق. 

أثرّ انتشار هذه المخيمات على عمل مخيمات أهل رمّ التي بقيت السنوات الماضية تعمل وحدها، أما الآن فيتجه الكثير من السيّاح إلى المخيمات الفاخرة لما فيه من خدمات ترفيه أكثر، كما يقول عتيّق. إذ يرى أن المخيمات الفاخرة تعتبر فنادق خمسة نجوم لكن في الصحراء، فيها كل أساليب الترفيه، من تقديم الكحول والحفلات، فيما يرفض أهالي رمّ ذلك، كما يقول عتيّق، إذ تقتصر الخدمة في المخيمات التقليدية في تقديم الطعام وجولات في الصحراء وركوب الجمال وتوفير المبيت. 

يعمل عتيّق في السياحة موسمي الربيع والخريف، ويتفرغ في بقية السنة لتربية الجمال العاملة في السياحة وعمل الصيانة للمخيم، «نشتغل الربيع ويجي الصيف غير وإحنا على الحفّة»، يقول. قبل أن يبدأ الإغلاق في آذار، تحضّر عتيّق للعمل في صيانة السيّارات والمخيّم، «نشيّك على الجمال ونجيب غراض من العقبة وللسياح من ماء وأكل وفرش. في عمّال بالمخيم ينظفوا بعد ما يطلع السيّاح، العمّال هجّت». يقول عتيّق إنه مديون لهؤلاء العمّال ولم يدفع لهم من شهرين.

عتيّق ووراءه مخيمه.

تعويض بالسياحة المحلية؟

كان أبو يعقوب قد جلس يراقب هدوء المنطقة لأوّل مرة إذ كانت السيّارات في الماضي في الليل تأتي أو تذهب لتجلب حاجيات السياح المقيمين في المخيمات من القرية. «أنا مواليد الصحرا، وأعرف الصحرا لحدود السعودية، صعب اتوّه بالصحرا كونك تخبرها. كيف الجمل، ذاكرة جمل عندي، الجمل أوّل ما يمشي مع طريق صعب ينساها»، يقول أبو يعقوب الذي يرافق السياح على الجمال مذ كان في العاشرة قاطعًا 20 كيلو مترًا تقريبًا في اليوم. إذ يحدد دربه بتعليمها بالمسارات، ويستعين بالنجوم والجبال. 

«كل جبل عندنا له اسمه، هذا الجبل رمّ، الشلالة، وادي صباخ، فرعة سلّام». يعرف أبو يعقوب هذه الجبال بحكم ممارسته التسلّق مع السيّاح، ويعد نفسه محترفًا في التسلق الذي ورثه عن والدهِ ويمارسه منذ عشرين سنة. عدة التسلق التي يملكها اشترى بعضها من عمّان فيما أهداه المتسلقون بعضها الآخر بعد انتهاء تسلقهم للجبال بمرافقتهِ.

تسلق أبو يعقوب كما يقول كل جبال رمّ، وكان أصعبها عليه «جبل رمّ» الذي يأخذ منه يومًا كاملًا في الصعود يستريح فيه كل ساعة لمدة خمسة دقائق، يبدأ التسلق في ساعات الصباح الأولى، وخلال شهري آذار ونيسان، ضمن مجموعة من أربعة أشخاص «مشان تقدر تسيطر عليهم»، ولو زادت المجموعة على الأربعة يستعين أبو يعقوب بقائد تسلق ثانٍ معه. يكون أبو يعقوب الأول في الترتيب، يثبت خلال رحلة الصعود الأسافين والحلقات لتثبيت نفسه. «تطلع وتثبت العدة لحين يلحقك اللي وراك»، ويتكفل من خلفه بإزالة الحلقات، حين ينتهون من تسلق الجبال ينامون على قمة هذه الجبال.

أبو يعقوب في أحد المخيمات.

يقول أبو يعقوب إنَّ الأجداد سمّوا هذه الجبال وورثها جيله، وبعضها موجود في خارطة رمّ القديمة، «نحاول نرجع الأسماء على جوجل نقلهم مثلًا هذا الجبل، أم عشرين»، لكن ما من خوف ليتوه أبو يعقوب هذه الليلة بالذات، إذ توقف عمله ولا حاجة لأن يتوغل في الصحراء في الظلمة بين الرمال أو يتسلق الجبال كما ظل يفعل طوال السنين الماضية.

في اليوم التالي، تعطلت سيارة أبو يعقوب واضطر للمسير لساعة ونصف بين الرمال. أخبر أحد أصدقائه في المخيم أن سيّارته اللاندكروز 1989 تعطلت ويريد استعارة سيارته، وهذه ثاني سيارة يمتلكها أبو يعقوب، الأولى اشتراها وعمل عليها بنقل السياح عندما كان عمره 18 سنة قبل أن يستبدلها بثلاث جمال شغَّلها بالسياحة. في الفترة الأخيرة، حاول الاستثمار بمخيم خاص مكون من خمس خيام، لكن خيامه تمزّقت بعد تركه فترة الحظر.  

«إحنا نقدر نشتغل بأسعار أقل من اللي كنا نشتغل بيها. بس في مخيمات ما عندها نقل وبدها تكاليف». يقول مدّ الله ولا يعارض تنزيل السعر إلى الربع للسياحة المحليّة. فالسياحة توقفت ومخيمه مهجور، والمخيمات القريبة منه قطّعتها الريح كونها تركت هذه المدة دون صيانة، كأن جزءًا من رمّ قد اختفى بانقطاع السيّاح، الأمر الذي دفع أبو يعقوب إلى دعوة السيّاح الأردنيين. «لو في ناس حاب ييجي وادي رمّ وما معاه يا أهلا وسهلا، نتونّس مع الناس»، يقول أبو يعقوب.

بعد فتح الأردن الباب أمام السياحة الداخليّة، كان يوم السادس من تموز في القرية مثل بقية أيام الحظر تقريبًا، يقول أبو يعقوب، إن سيارتين وباص فيه مجموعة صغيرة من السيّاح، أتت للزيارة دون مبيت، هي حصيلة هذا اليوم.

تم تنفيذ هذا التقرير بدعم من جمعية ناشيونال جيوغرافيك.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية