ياسين الفوال

ياسين الفوّال: سبعون عامًا مع الفول المدمّس

تحضير الفول في مطعم ياسين الفوّال. تصوير مؤمن ملكاوي.

ياسين الفوّال: سبعون عامًا مع الفول المدمّس

الأربعاء 29 آذار 2023

في إربد، ومنذ نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، تناوب ياسين الفوّال، ومن بعده أولاده ثم أحفاده، على صناعة الفول المدمّس؛ مستخدمين محاصيل الفول العربيّة فقط، والطريقة العربيّة القديمة في الطبخ، التي تعود إلى مئات السنين على أقل تقدير، وأسرارًا أخرى في الإضافات عليه لا يعرفها غير واحد من كل جيل منهم.

بدأت القصة من مكان مختلف عن صناعة الطعام، فمنذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، حين تأكّدت مدينة إربد كمعبرٍ تجاريٍ في بلاد الشام، بين الأردن وسوريا من جهةٍ، والأردن وفلسطين من جهة أخرى، استقطبت التجّار والحرفيين من سوريا وخاصة دمشق، ومن فلسطين وخاصة نابلس، للعمل فيها بسبب تطوّر سوقها الذي صار كذلك مقصدًا لأهل القرى والبدو القريبين منها.

فمثلًا، بين الأعوام 1926 و1928، جاء إلى المدينة ثلاثة حجّارين وبيطريّان من نابلس، وعطّارٌ ولحّامان وبائع أدوية وعقاقير من الشام،[1] بعدها في العام 1936 جاء إليها من نابلس روحي خويره ليستقرّ ويعمل فيها بيطريًا في خان حدّو. كان في الخان عدة غرف مبنية من اللَّبِن، وله ساحة فيها مشارب ومرابط للدواب، يودعُ فيها أهل القرى الآتين إلى سوق المدينة دوابهم مقابل أجر لحين قضاء حوائجهم والعودة إلى القرى، وتقدّم فيه كذلك خدمة البيطرة للدواب.

ومع السنوات، وكما حصل لكثير من عائلات حرفيي بلاد الشام، غلب لقب مهنة الرجل على اسمه فصار يُعرف بروحي البيطار، لكن هذا اللقب لن يدوم طويلًا؛ إذ سيغلب لقب مهنة ابنه وأحفاده من بعده على الاسم الجديد ويعرفون بعدها بلقب الفوّال.

خان حدو في إربد. المصدر: التاريخ الأردني

كان ابن البيطار، واسمه ياسين، يكبر في المدينة، ولا يعرف المهنة التي سيعمل بها؛ شجعه الأب نهاية الأربعينيات على العمل في بيع الحمص والفول على عربة اختار الابن وسط السوق الرئيسي مكانًا لها. اشترى الأب حبّات الحمص والفول، وفرزت الأم وجاراتها الحبّ في بيتها، وطبخ الأب الصنفين، وبعثهما مع الابن ليبيعها على مقربة من شارع الملك طلال.

يُعد المكان الذي بدأ فيه ياسين البيع على العربة مركز إربد التجاري؛ ففي مساحة أقل من كيلو متر مربع كانت مطحنة مطر المملوكة لآل خريس، ومحطتا وقود الدجاني والبلبيسي اللتين تستقبلان الوقود المكرر في ميناء حيفا، وفيه أسواق: الفحم، والصاغة، والبخارية، وفي الجوار مكتب سفريات الشام ومجمع آخر تصل حافلاته إلى الضفة الغربية، بالإضافة إلى وجود تجمع سكّاني من عائلات إربد القديمة.

لم يكن غريبًا إذن أن تنشأ في المكان مجموعة محال لبيع الطعام إلى المرتحلين والزائرين للمدينة، ومنها: أحمد للفلافل 1947، والنابلسي للكنافة والقطايف 1945، ونايف الطعاني لبيع اللحوم 1957،[2] وعربة ياسين التي صارت محلًا تنقّل منذ العام 1952 في أكثر من مكان في المحيط نفسه، حتى استقرّ العام 1961 في شارع الملك طلال حيث يوجد إلى اليوم.

زبائن مطعم ياسين الفوال أمام المحل

يوميًا، جاء ياسين من مكان سكنه في شارع الهامي، ليصل الساعة الرابعة فجرًا ويدقّ على يده في وعاءٍ ومطرقة خشب حبات الفول، والناس تشتري منه وتأكل على أطراف الشارع والرصيف وبجانب العربة، بعد أن يشتروا الخبز من مخبز قريب.

أكثر من غيرهما في المنطقة العربيّة، تُعرف الشام ومصر بصناعة الفول المدمَّس، وفي المنطقتين، ومنذ قرون بعيدة تشابهت طريقة طبخه؛ إذ توضع حبّات الفول في قدر مصنوعة من النحاس أو الفخّار ويغمر الفول بالماء، ويطمر القدر داخل مرجل تسخين ماء الحمّامات الشعبيّة لينضج على سخونة الماء لا النار نفسها، ولمدة 12 ساعةً. ثمة روايات كثيرة عن أصل تسمية الفول المصنوع بهذه الطريقة بالـ«مدمّس»، لكن واحدةً منها تدلّ على طريقة طبخه، فجاء في لسان العرب تحت «دَمسَ»: دَمَّسَ الشيءَ، أي أخفاه.

مثلًا، يذكر قاموس الصناعات الشامية من القرن التاسع عشر تحت باب مهنة الفوّال هذه الطريقة في صنع الفول، ويورد كذلك معلومات عنها بأنها «حرفةٌ لا تنقطع في الشام في سائر فصول السنة».

لم تكن مراجل الحمّامات الشعبيّة متاحة في إربد، فاستخدم ياسين بيوت نار أفران الخبز؛ يضع القدر عند الساعة الرابعة عصرًا ويأخذه عند الثالثة فجر اليوم التالي ويبدأ عمله، وهذه الطريقة في الطبخ هي أول أسرار هذه الصناعة.

قدر فول نحاسي في مطعم ياسين الفوّال.

توسّعت المدينة، وتضاعف عدد سكّانها بعد موجات لجوء النكبة والنكسة، وخلال بداية السبعينيات، عندما كان الكثيرون من أبنائها وأبناء قراها يخرجون إلى الوظائف الحكوميّة ومعسكرات الجيش مارّين مبكرًا من هناك، كان محلّ ياسين الفوّال جاهزًا منذ الساعة الرابعة فجرًا لتقديم صحون الفول للمسافرين، يتناولونه على أطراف الشارع، أو يأخذونه في أكياس بلاستيكية شفّافة إلى حيث أعمالهم.

بداية السبعينيات كان أحمد شخاترة يتدرب في كلية الشرطة في عمان بعمر 16 عامًا، ويمر على ياسين الفوّال في طريقه إلى عمّان ويأخذ معه الفول، ومثله فعل عبد الرحمن الشرمان في طريقه إلى كتيبة سلاح الجو، الأمر الذي جعل زملاءهما يطلبون الفول منهما كل مرة يذهبان فيها في إجازاتهما إلى إربد، والأهم من ذلك كما يقول الشرمان أن الكثير من منتسبي الجيش صاروا يعرفون فول ياسين.

مطعم ياسين الفوال من الداخل

وفّرت هذه الوجبة لشخاترة والروسان خيارًا لكونها لا تحتاج إلى طبخ، ومنخفضة الثمن كذلك، والأهم طعمها فريد لا يعرف شخاترة سرّه، لكنه يعرف شيئًا واحدًا، أن هذا هو ما يجب عليه أن يكون صحن الفول.

منذ البداية، لم يستخدم ياسين لعشرات السنوات التي داوم فيها على العربة ثم المحل غير الفول الآتي مع التجّار من الشام، وفي الثمانينيات عندما لم يعد التجار يجلبون الفول، أصر ومعه أولاده الذين التحقوا به في العمل في المحل وهما جواد (المولود عام 1964) ومحمد (المولود عام 1967) على الذهاب إلى درعا بسيارة فوكس فاجن لشراء الفول، وهذا السرّ الثاني في صناعة هذا الرجل؛ استخدام الفول الشامي ذو الحبّة العريضة.

يقول محمد إن حبة الفول الشاميّة تختلف عن كل حبّات الفول التي تزرع في العالم: «ميّة الشام غير، تعطيك حبة الفول تتمارى فيها».

الجد، ياسين الفوّال، مؤسس المطعم، والأب جواد.

مع نهاية الثمانينيات، صار طبخ الفول على مواقد النار الخاصّة بالمحل، وحافظ ياسين على طريقة الطبخ القديمة وهي أن تبقى حبّات الفول على نار هادئة منذ المساء وحتى فجر اليوم التالي، مستخدمًا نفس مصدر الفول الشاميّ بزيت الزيتون، ومقدمًا معه صحنًا فيه حبّة بصل، وتتبيلة يظهر فيها طعم حارّ للثوم هو أحد أسرار المحل، وهكذا تأكّدت طقوس تناول الفول المدمّس عنده.

وقد عرف ضيوف إربد وزوارها صحنَ فول ياسين، ومنهم طلبة جامعة اليرموك من خارج المحافظة ومدرسوها، حتّى وصل اسم الرجل إلى أبعد من ذلك؛ خلال حفلات تخريج أفواج طلبة الجامعة كان صحن فول ياسين حاضرًا، أكثر من مرّة جيء بالفول من شارع الملك طلال إلى الجامعة لتقديمه للملك حسين وولي عهده آنذاك الحسن، حيث كانا يُخرّجان أفواج الطلبة، يطبخ ياسين الفول ويقدمه ابنه محمد على طاولة الملك أو ولي العهد.

منتصف التسعينيات رحل ياسين، وترك المحل لابنه جواد الذي توفي قبل ثلاث سنوات هو الآخر، فقرر محمد التوسع، وفتح ثلاثة فروع للمحل القديم أحدها في مول تجاري في المدينة، وقدّم بنفسه الفول للناس وبنفس طريقة الصناعة، «توسعت وما زبط، كنت أشتغل بإيدي بالمحلات، بيقولك [الزبون] لأ، إحنا بدنا الخلطة إللي بالسوق».

كانت صورة صحن الفول جزءًا من الطعم، لذا عرف محمد أن تقديم صحن الفول لا يكتمل إلّا بالمكان القديم الذي أسسه والده، فرجع إلى محلّه بشارع الملك طلال الذي لا تتجاوز مساحته 50 مترًا وبطاولاته القليلة.

تحضير الفول في مطعم ياسين الفوّال.

تغيّرت عادات كثيرة في مرتادي المحل، يمكن مثلًا ملاحظة فئتين من الزبائن، من يطلب صحن الفول فقط، وهم على الأغلب من كبار السن ومن متقاعدي الأجهزة الأمنية والوظائف الحكوميّة، ومن يطلب صحن الفول وإلى جواره صحن الحمص والفلافل، وهم في الأغلب من الجيل الجديد، يقول محمد: «تاريخيًا، إللي بيجي عند ياسين الفوال ما بيوكل فلافل، الجيل الجديد هو إللي بيوكل فلافل، ياسين الفوال ييجوا الناس عليه للفول، اسمه ياسين الفوّال».

في السنوات القليلة الماضية تعددت مصادر الفول من الصين واستراليا وأوروبا، وتعددت كذلك أثمانه، منه الرخيص الذي يصعب نضجه فتُضاف إليه مواد أخرى لينضج أسرع مثل الكربونة أو الفول المجروش، وكلها يظهر طعمها في صحن الفول.

لكن، ما زال محمد ومعه ابنه وابن أخيه ياسين الثاني يُحافظون على طريقة ياسين القديمة؛ حبات فول شاميّ عريضة، 12 ساعة من الطبخ على نار هادئة، وفتح أبواب المحل للزبائن عند الرابعة فجرًا، والأهم طريقة التقديم التي يترك فيها محمد أحيانًا تحضير الفول ويقدمه بنفسه إلى الزبائن كنوعٍ من الاحترام، لكن مع تغييرات طفيفة كأن يقدم الفول إلى الناس في علب بلاستيك بدل الكيس البلاستيكي.

نهاية يومه الذي ينتهي عند الساعة الثانية ظهرًا، يجلس محمد على كرسيّ ويتبادل الحديث مع زبائن قدماء للمحلّ، ويقول إنّ هؤلاء هم من رفعوا اسم المحل؛ لهذا هم جزء منه، يقول ذلك ويفتخر بلقبه الذي يُحب أن ينادى به منذ كان صغيرًا وحين خدم لسنتين في الجيش «حمودة الفوّال».

قديمًا وفي الثقافة العربيّة افتخر الفوّالون بمهنتهم، وقد قال أحد أبنائهم قبل نحو ألف سنة:

أنا ابنُ الذي لا يُنزِلُ الدهرَ قِدْرَه
وإن نزلَتْ يومًا فسوف تعودُ
ترى الناسَ أفواجًا إلى ضوءِ نارِه
فمنهم قيامٌ حولَها وقُعودُ[3]

أجواء السحور في مطعم ياسين الفوال

  • الهوامش

    [1] هند أبو الشعر، إربد وجوارها، ناحية بني عبيد 1850-1928، وزارة الثقافة، مشروع مكتبة الأسرة، 2009 ص 96.

    [2] ما زالت هذه المحال تفتح أبوابها حتّى اليوم.

    [3] الإتليدي، إعلام الناس بما وقع للبرامكة، نسخة إلكترونية، مكتبة الورّاق.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية