سنة على حركة «أنا أيضًا»: مغالطات على طريق الصواب

الأربعاء 07 تشرين الثاني 2018
المصدر: فيكي ليتا، موقع ماشابل.

في الخامس والعشرين من أيار الماضي، دخل منتج الأفلام الأمريكي هارفي واينستاين مركز شرطة منهاتن بعد أن قرر تسليم نفسه للسلطات. ارتدى واينستاين سترة خفيفة تحت بدلته وحمل بيديه كتابين كان أحدهما بعنوان «إيليا كازان»، يحكي سيرة المخرج الأمريكي الشهير. للمرة الأولى ينتقل واينستاين من مكانه خلف الكاميرات ليكون هدفًا لعدسات الصحفيين المرصوصين وراءه، ويظهر كخبر رئيسي في معظم الصحف دون أن تُخطئ العين عدسة هاتف محمول نقلت بالتأكيد تلك اللحظة مباشرة عبر «فيسبوك».

نهاية درامية لم يتمنّها واينستاين ولم يتخيّلها محاميه بنجامين برافمان الذي ينتظره في بهو المركز. يستقبله برافمان وينظر في عينيه نظرة استطاع واينستاين ترجمتها كما ينبغي: «الأمور خرجت عن نطاق السيطرة»، ليخرج بعدها مُكبّل اليدين وعلى وجهه شبح ابتسامة. هزيمةٌ كانت على الطرف الآخر من المدينة انتصارًا منقطع النظير. تدخل أليسا ميلانو على حسابها الشخصي في تويتر لتُسجل هذا الانتصار أمام أكثر من ثلاثة ملايين من متابعيها.

من تويتر، كانت الممثلة الأمريكية ميلانو مُحرّكًا أساسيًا لحركة «أنا أيضًا» عندما اقترحت في واحدة من تغريداتها المبكّرة، وبعد عشرة أيّام فقط من أوّل نشر قامت به صحيفة نيويورك تايمز لتقريرٍ تفصيلي عن اتهامات عديدة بالتحرش الجنسي ضد واينستاين، أن تستخدم جميع النساء اللاتي تعرضن لأي نوع من أنواع الإهانة أو الاعتداء أو التحرش الجنسي وسم #MeToo ليعرف العالم حجم الأذى الذي يطالهم.

فكرة مرّ على نشأتها أكثر من عشر سنوات على منذ أطلقتها الناشطة الحقوقية ترانا بورك (1996) ولكنها لم تتحول من مجرّد حملة لدعم ضحايا التحرّش من النساء السود إلى حركة عالميّة أكثر اشتمالًا وأقوى تأثيرًا سوى في أكتوبر من عام 2017 حين تجاوزت تفاعل ضحاياها النساء لتشمل انخراط الرجال أيضًا.

مرّ عام على تاريخ نشر صحيفة نيويورك تايمز تحقيقها الذي يُتهم فيه واينستاين بالتحرش، ومن ذاك الحين بدأت معركة لم تنته؛ إعلاميون وسياسيون وفنّانون وناشطون وجدوا أنفسهم في مرمى النيران عن أفعال لم يُنكرها غالبيتهم. حاولت «مي تو» في سنتها الأولى منح إجابات لأسئلة عالقة و منح صوتٍ لأصحاب حق، والأهم، ضمان الإستماع لصوتهم دون خوف أو خجل. لكنها طرحت في الوقت ذاته المزيد من التساؤلات عن ماهيّة التحرش والفرق بين أن تكون صاحب جُرم أو «مجرّد رجل يتصرّف، بطبيعة الحال، كبقيّة الرجال»، كما يبرر البعض.

لم تستطع «أنا أيضًا» حسم معركتها كليًا خلال عام واحد، خصوصًا مع الاتهام الموجه لواحدة من أوائل داعمي هذه الحركة الممثلة الأميركية آسيا أرجنتو التي «كسرت قلوب» رفيقاتها من متهمي واينستاين عندما تقدم الممثل الشاب جيمي بينيتّ ببلاغ ضدها بأنها اعتدت عليه جنسيًا في غرفة أحد الفنادق بكاليفورنيا عام 2013، أي عندما كان يبلغ من العمر 17 عامُا بينما كانت أرجنتو في أواخر عامها السابع والثلاثين.

دفعت أرجنتو مبلغًا كبيرًا لشراء صمت بينيتّ وصل إلى 380 ألف دولار وهو ما شكّل المؤشر الأخطر على حقيقة تلك الاتهامات. مع ذلك فإن أرجنتو أنكرتها جميعها وحاولت قلب الدعوة لصالحها عندما اتهمت بينيتّ بأنه هو الذي اغتصبها، متناسية مبدءًا أساسيًا قامت عليه دعوة حركة مناهضة التحرّش وهو: مبدأ تصديق الضحيّة.

خلال السنة الأولى، كُشفت مجموعة من المغالطات التي لا تزال رغم مرور ما يكفي من الوقت عليها تحتاج إلى إعادة التكلّم حولها بشكل يومي ولو كانت الردود عليها من البديهيات، ربما لأن التحرّش كفعل هو أيضًا ممارسة يوميّة بحق النساء.

«نفعل ما يفعله الرجال»

لم يتجاوز عُمر مُرشح المحكمة العليا بريت كافانوه سبعة عشر عامًا وقت حدوث الاعتداء على الدكتورة كريستين فورد (15 عامًا آنذاك). حبسها كافانوه الثمل برفقة صديقه داخل غرفة نوم في المنزل الذي جرت فيه الحفلة التي جمعتهم كلهم ليلتها.

ألقى بها على السرير. ألصق جسده بها. استمر بالاحتكاك. حاول خلع ملابسها. أرادت الصراخ فكتم صوتها بيده. «اعتقدت أنني سأُقتل» قالت فورد. لكن، كيف من الممكن محاسبة مجموعة من الأطفال على حدث حصل منذ أكثر من 35 عامًا (بداية الثمانينيات)؟ بهذا المنطق صدرت تصريحات البيت الأبيض المدافعة عن مرشحه كافانوه غير مبتعدة عن نهج ترامب الذي قال في وقت سابق «عليك أن تُنكر وتُنكر وتُنكر بل وأن تقلب الطاولة على أولئك النسوة. فاذا اعترفت بشيء أو بأي ذنب فأنت في عداد الأموات».

إذن، يحكم الخوف من المصير المشؤوم نظرة المدافعين عن كافانوه والمتحرشين عمومًا، لتتمحور كلها حول مبدأ واحد «إذا كان من الممكن إسقاط شخص ما من خلال اتهامات كهذه، فهذا يعني أنني أنا وأنت وكلّ رجل عليه أن يقلق. جميعنا من الممكن أن نُتهم بشيء ما»، كما جاءت كلمات محامي كافانوه نفسه.

ينطوي هذا الدفاع حقيقةً على خدعة أنيقة للغاية فهو يُزيح ثِقل المسؤولية من على كاهل شخص واحد ليتم توزيعه على آخرين. فبدلًا من التعاطف مع هذا الشخص وحده علينا التعاطف مع الكثيرين ومع أنفسنا كذلك كجزء من الحالة. وهو فعل تكمن خطورته في تطبيعه للفعل الأصلي وفي تحويله له لاستحقاق ذكوري عام فرضه التبرير الذي خُلق خصيصًا من أجله؛ دفاعٌ يحط من خطورة التحرش علاوة على اعتبار تصرفاتٍ بعينها لا ضرر بها لمجرّد أنها تحدث بكثرة.

بمجرد أن يبدأ أحد الطرفين بإكراه الآخر على «اللعب»، فهنا تتحول اللعبة إلى كابوس وفعلٍ مؤذٍ وتعسّفي بغض النظر عن سن المُعتدي والضحية.

يرى المدافعون عن حالات الاعتداء الشبيهة بتلك التي يُتهم بها كافانوه أنّ ما حدث في الماضي قد حدث، وأنه كان جزءًا من أفعال المُراهقة التي تحصل بشكل يومي لا يمكن معه تصوّر معدلاتها أو حجمها الحقيقي، أفعالٌ لا يجب أن يُحاسَب عليها أحد. لكن هل كان هذا التوصيف الحقيقي للأمر؟ أهو «ألعاب مراهقين» أم أنه كان جُرمًا يعاقب عليه القانون أن يحاصر كافانوه الصغير فتاة أصغر منه ويحتك بها وهو ثمل ويمد يده لمناطق جسدها المختلفة ثم يحاول خلع ملابسها وعندما تقاوم يقرر كتم صراخها بكف يده؟

ليس سرًا أن وجود توافق واضح بين الطرفين على ما يحدث هو شرطٌ أساسي لأي «لعبة»، أن تكون ذات معالم وقوانين ملموسة، يقبل بها الطرفان أو يرفضانها منذ البداية. لكن بمجرد أن يبدأ أحد الطرفين بإكراه الآخر على «اللعب»، فهنا تتحول اللعبة إلى كابوس وفعلٍ مؤذٍ وتعسّفي بغض النظر عن سن المُعتدي والضحية.

يتلاعب التساؤل ذاته في موقع الضحية كضحية، ويحاول قلبه بالكامل. فبدلًا من التركيز على فظاعة ما جرى بحق صاحبة الادعاء، يتم التركيز على «فظاعة» توجيه اتهام كهذا بعد أعوام من حدوثه لرجل لم يفعل سوى ما يفعله أي شاب في وقته، ليتحول اتهام رجل واحد من قبل ضحيّة أو أكثر إلى رغبة في الانتقام من الرجال جميعهم الذين لم يرتكبوا جُرمًا واضحًا، بل تصرفوا كبقية الرجال في العالم عندما يكونون تحت ظروف معينة، وكأن التحرّش حتميّة حزينة علينا تقبّلها بصمت.

متى تتكلم الضحية؟

دعونا نروي قصّة قصيرة. فتاة تغادر منزل صديقتها ليقوم والد الأخيرة باصطحابها في سيارته نحو منزلها. قبل أن تنزل من السيارة يبدأ الرجل بالتكلّم معها. يشكو لها من زوجته التي تُسبب له الغضب الشديد إذا لم تُلبّي احتياجاته. تمتد يده نحو صدرها وفمه نحو فمها. بعد ذلك بدقائق ستكون الفتاة في غرفتها والظلام يحيط بها.

بعد سنوات طويلة، روت الصحافية إيميلي يوفي قصتها هذه لمجلة «ذا آتلانتك»، ثم اختتمتها بجملة ترصد حالتها الذهنية بعد الحادث مباشرة: «في اللحظة التي دخلت فيها لمنزلي متظاهرة بعدم حدوث الأمر، تحوّل كل شيء لفراغ». إنها جملة قادرة على الرد بإيجاز على تساؤل سمعناه كثيرًا خلال العام الماضي: لماذا امتنعت الضحية عن التبليغ عن الواقعة في وقتها؟ ولماذا لا يستطيع غالبيتهم استذكار ما حدث معهم؟

يضع التساؤل الأوّل الضحية تحت ضغط مضاعف إذ يفترض أنه، وبعد حدوث أي واقعة اعتداء جنسي، إن لم تقم الضحية بالتبليغ مباشرة لدى الجهات الامنية أو لأحد الوالدين أو كلاهما أو لاي صديق أو صاحب سلطة  فإن هذا يعني أن الواقعة لم تحدث من الأساس متجاهلين عوامل عدّة قد تجعل من التأخّر في الحديث عن الموقف أمرًا حتميًا تفرضه سلطة المتحرّش ذاته.

تشير العديد من بيانات الناجين من اعتداءات جنسية إلى اختيار معظمهم عدم التبليغ عما حدث لهم ليس لأنهم كاذبون أو لأن ما حدث لم يكن ذا شأن كبير، بل لأنه كان بالفعل حدثًا جللًا بالنسبة إليهم، في مقابل نظام اجتماعي ومؤسساتي يتسم بالضعف في التعامل مع مثل تلك القضايا.

يخشى العديد من الناجين والناجيات تبعات إفصاحهم عن واقعة مؤلمة حدثت للتو، لإنهم سيعانون من تكرار الصدمة على يد النظام القانوني بصورة أكثر إذلالًا في ظل خجلهم من الكلام والشعور بوصمة العار ورغبتهم بالانتقام، ناهيك عن صعوبة احتمال ذكر تفاصيل الواقعة مرارًا وتكرارًا في سياق التحقيق، وكلها عوامل لا بد وأن تُؤخذ في الحسبان. إننا هنا نتحدث بالفعل عن التعامل مع الضحايا كآدميين يتعرضون لصدمات ويصمتون ويخافون ولربما ينسون.

نعم، ينسى الضحايا تفاصيل لا يعلمها سواهم عن وقائع التحرش، ذاكرتهم سيّئة السمعة كأي شخص تعرض لصدمة ما. تميل أدمغتهم إلى التركيز المفرط على أجزاء معينة من المعلومات مع تجاهل التفاصيل غير الأساسية. فمثلًا قد تتذكر الضحيّة تصرّفات المُعتدي بشكل واضح، ولكنها تنسى تفاصيل المكان الذي حدث فيه الاعتداء او توقيته الدقيق أو ما جرى في الساعات التي تلته. ما يعني وجود ضرورة ملحّة لتطوير طريقة خاصة للتعامل مع شهادات لضحايا وفقًا لحالتهم النفسية كعامل لا يمكن تجاهله، لا الإصرار على فضح الفجوات في ذاكرة الضحايا كنوع من ممارسة الإرهاب لضحايا آخرين لم يتكلموا بعد ولكنهم سيكونون على الدوام تحت ثقل الذاكرة.

المزيد من التعقيد

كطيف الألوان يمتد «السلوك» من مناطق يكون فيها مقبولًا إلى أُخرى غير لائق. لعل الافتقار للمعنى وراء بعض المصطلحات هو السبب في تلاشي التمايز بينها. فما الذي يعنيه السلوك الجيد وماذا يعني لنا السلوك العدائي؟ ألا ينبغي على التحرشات الجنسية أن تتضمن درجة ما من العدائية؟ أليس من الممكن للمرء أن يكون عنيفًا ولكن غير عدائي في الآن ذاته؟

يعتبر التعارف واحد من الممارسات اليومية في حياة البشر. ولكن هل يعني هذا أن علينا وضع قوانين له؟ هل يجب الاستئذان قبل التعارف؟ تداعب هذه الفكرة ما نشره سلافوي جيجك في شباط الماضي عندما تساءل عمّا إذا كان يجب علينا توقيع عقد قبل ممارسة الجنس من الآن فصاعدًا. يستند جيجيك بالتأكيد إلى طرح مقنع يحمل نظرة تشاؤمية تجاه السلوك الجذري للجماعات النسوية. فاختزال العلاقات الجنسية على عرض وقبول تعاقدي سوف يحوّلها إلى عمليّة معقدة منزوعة من حميميتها المفترضة ومفرّغة من الرغبة.

يعتقد جيجك أنّ الصوابية السياسية والعنف وجهان لعملة واحدة، صعود أحدهما مرتبط بالآخر، وبناءً عليه فإن توقيع عقد للتراضي بين أطراف الممارسة الجنسية لا يحدّ بالضرورة من العنف الجنسي، بل إنه على العكس يضمن قبولًا تعاقديًا لأقصى أشكال العنف مثل السادية والمازوخية طالما أنها جاءت نتاج «تعاقد جنسي».

يتعمد جيجك هنا إثارة الارتباك، كعادته، عبر اللجوء لحيلة قديمة لا طائل من ورائها: «لهدم أي فكرة والتشكيك في رجاحتها، استعن بواحدة من أكثر تمثلاتها تطرفًا ومبالغة وندرة وإثارة للسخرية». بذلك، ينقل جيجك القضية من «اعتداء»، لنكتة يمكن من خلالها الترويج لأفكار أشد ذكورية بل وأشد إجرامًا. قد تحمل حملة مناهضة التحرش معها إمكانات قمعيّة، «لكن تلك الجوانب القمعية تظل عرضًا جانبيًا لمحاولات الضبط». لعلها نشوة ذكورية يشفع لها التاريخ الطويل من الاضطهاد بحق النساء.

لا يفرض «العقد» الذي تروج له حركة مناهضة التحرش على أي شخص نوعًا من الالتزام بما يمكن تسميته أخلاقيات الجنس بقدر ما يخلق قاعدة للتوافق، ليست دينية ولا من موقع فوقي، ولكنها قاعدة مبنية على تفاهم «قانوني»؛ تفاهمٌ يعطي رسمًا أكثر قبولًا لمعنى «الشراكة». ففي ظل الأجواء التشكيكية الصعبة التي يمر بها كل من الرجال والنساء اليوم، لن يكون التعامل الأمثل معها بالمزيد من التشكيك الذي قد يؤدي فقدان أعمق للدقة التي يحاول الجميع تحرّيها.

تستلزم الدقّة طرح بعض الأسئلة على النفس كاختبار ذاتي يوفر الإجابة عن الفرق بين التحرش والغزل، تتعلق كلها بالشخص الذي يتم التغزل به: هل وصل سن الإدراك بعد؟ وهل يقف المتغزل بموقع سلطة بالنسبة إليه؟ هل يستخدم لغة مهينة في غزله؟ وبالتأكيد، فإن المكان الذي يحدث فيه هذا كله مهم للغاية. إذ سيكون معنى هذه الإطراءات مختلفًا إن قالها الرجل في مكان عمل أو مكان عام أو في منزله.

أحيانًا، ما يبدو ناعمًا وبسيطًا يحمل أسفل منه عدوانية وشهوانية تسعى بكل ثقلها لغزو الآخر. هكذا هو الأمر بعين الضحايا.

يعتقد أغلب الذين يظنون أنهم يمارسون الغزل وينتهي بهم المطاف كمتحرشين أن الضحية كان يجب عليها أن تتصرف بطريقة معينة حيال كلماتهم. يفترضون سيناريو خاصًا بهم، لربما هو الأبعد عن الواقع، وما أن تُبدي الضحية عدم تجاوبها وتبدأ أحلامهم بالانهيار، فإنهم يُصابون بالإحباط والغضب في الوقت ذاته. أحيانًا، ما يبدو ناعمًا وبسيطًا يحمل أسفل منه عدوانية وشهوانية تسعى بكل ثقلها لغزو الآخر. هكذا هو الأمر بعين الضحايا.

تقول دراسة إن التحرش الجنسي مرتبط بشكل كلي بحجم السلطة الممنوحة، في حالة زيادة حجم السلطة لهذا الشخص فإن احتمالية استغلاله الجنسي للآخرين تزيد، خصوصًا لو كان ذكرًا، ولكنه أمر ينطبق كذلك على النساء ممن تملكن السلطة بصورة مفاجئة. لا يتحرش الرجال بالنساء جنسيًا لأنهم يسعون إلى الإشباع الجنسي بالضرورة، ولكن رغبةً منهم في تقويض مكانة المرأة في التسلسل الهرمي الاجتماعي نتاج ما يسببه وجودهن في محيطهم أو أماكن عملهم من انعدام أمن متعلق بكفاءتهم المهنية. يمكن أن يشمل ذلك التعليقات والنكات التي يُقصد منها أن تكون مسيئة أو تهكمية أو تعمل كتهديدات عنيفة. غالبًا ما يتم استهداف النساء اللاتي يعبرن عن المثل النسوية العليا بهذه الطريقة، وعلى الرغم من أن هذا واحد من أكثر أشكال التحرش الجنسي شيوعًا في مكان العمل، إلا أنه شيوعه لا يعني أنه أمر عادي، بل من المحتمل أن يُنظر إليه على أنه مضايقة تستوجب المحاسبة.

أو اطرحوه أرضًا

كان الإعلامي الأمريكي الحائز على عدة جوائز، جون هوكنبيري، أحد الرجال الذين فقدوا وظائفهم وسلطتهم ومكانتهم الاجتماعية خلال العام الأول من حركة مناهضة التحرش، قبل أن يجد نفسه مضطرًا لكتابة مقال بعنوان «المنفى» يوضح فيه حجم التغير الذي أصابه بعد الاتهام الموجه له.

«لم أُتهم قط بأي شيء يمكن، في رأيي، أن يُفسّر على أنه إجرامي أو قسري. لكن وفي غمضة عين انتقلتُ من كوني شخصًا معروفًا في شوارع مدينة نيويورك كصحفي ومؤلف ومحامٍ للأشخاص ذوي الإعاقات إلى شخص يخشى أن يتم التعرف عليه». عاش هوكنبيري لمدّة عام كمنبوذ في مواجهة الصمت البارد أو العداء المفتوح. تلاشى الرفاق وأخبره الزملاء أنه لا يمكن أن يستمر في العمل بعد الآن. عاد لمنزله ولم يخرج منه ثانيةً. انتهى كل شيء في غضون أيّام، فيما لا يزال هو يعتقد أنه لا يستحق هذا كله.

يفتح هذا الموقف الباب للتساؤل عن صوابية العقاب الجماعي الذي يتعرض له المتحرش أو المتهم بشيء من هذا القبيل. في الجنايات الأخرى، تكون الأمور أكثر وضوحًا، يدخل المتهم في سلسلة من التحقيقات والمحاكمات ولربما السجن، ولكنه لا يتحول لشيطان في ليلة وضحاها كما يحصل مع المتهمين بالتحرش، لأن حصول هذا يعني حصارًا اجتماعيًا بالأساس يلغي معه أي إمكانية جادة للوصول للحقيقة دون أحكام مسبقة.

بالنسبة للبعض، فإن التحرش تهمة تحتاج لإثبات قطعي بالأدلة الدامغة، كأيّ جريمة جنائية أُخرى، يجب أن تستغرق الضحية وقتها في جمع الأدلة وإثبات ادعائها، ولكن آخرين يرون أن التعامل القانوني الأمثل مع التحرش هو اعتباره جريمة كراهية، وهو مرتبط بأحد مواقف حركة مناهضة التحرش الثابتة والتي تدعو لتصديق الضحية مهما كانت الظروف.

يرى أنصار الموقف الثاني أن التعامل بمبدأ «المتهم بريء حتى تثبت ادانته» لا يؤدي سوى إلى المزيد من التماهي مع الاعتداءات الجنسية، بل يعتبره البعض تشريعًا ناعمًا لتلك الاعتداءات، ولكنه موقف يتناسى بالطبع أن الاتهامات الزائفة قابلة للحدوث، وأن رجالًا أبرياء قد يتعرضون لحملات تشويه قاسية دون جرمٌ ارتكبوه.

على جانب آخر، يبدو أن تصديق الضحية ضريبة يمكن تحملها في مقابل عدد ضئيل من الأبرياء المتهمين، ذلك لأنه يغيّر من قوانين اللعبة التي اعطت وعلى مدار سنين طويلة القوة والحق والسلطة للرجل على حساب المرأة. فإن كانت جميع التقارير تُشير إلى أن التحرش الجنسي لا علاقة له بالجنس بقدر ارتباطه بالسلطة، فإن تصديق الضحية بأثره السلبي المحدود يضمن نقل السلطة إلى الجانب الآخر.

بعد عامها الأوّل يبدو أن التحدّي الأكبر في طريق حركة مناهضة التحرش هو محاولة القضاء على جميع المغالطات، تلك التي تصب في مصلحتها أو في مصلحة الآخرين. قد تكون قضية كافانوه اختبارًا حقيقيًا للحركة ونجاعتها في ذلك، خصوصًا وأنّ موقفًا مشابها حدث قبل ثلاثين عامًا عندما تقدّمت أنيتا هيل للشهادة أمام مرشح المحكمة العليا الأمريكية آنذاك كلارنس توماس الذي استطاع عبر تواطؤ من المحكّمين وتيارات سياسية بقلب القضية والمشهد لصالحه.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية