الاعتداء على المعلمين: منظومة تعزز الاستقواء

الإثنين 14 كانون الأول 2015

في أول أيّام العام الدراسي الحالي، اكتشف عبدالرحمن، الطالب في مدرسة جحيفة الثانوية للبنين في لواء المزار الشمالي، أنه لم يترفّع للصف الأول ثانوي لأنه راسب في مادة الرياضيات ولم يقدّم امتحان الإكمال، فما كان به إلا أن توجّه إلى غرفة المعلمين ليعتدي جسديًا على أستاذ الرياضيات محمود الطلافحة.

نُقل الطلافحة للمستشفى لإصابته بجروح في الوجه وارتفاع في ضغط الدم. أمّا الطالب، فقام بإصابة نفسه بمسمار، بحسب الطلافحة، وحصل على تقرير طبي ثم اشتكى على الأستاذ وعلى معلّميْن آخرين متهمًا إياهم بالاعتداء عليه. (حاولت حبر التواصل مع الطالب لكنه رفض الرد، وأكّد مصدر أمني لحبر وجود شكوى من الطالب ضد المعلمين).

تلك الليلة قضاها الطلافحة في المستشفى، والطالب في النظارة، وعائلة الطالب في منزل عائلة المعلم، وكلتا العشيرتين تتحضران للمفاوضات العشائرية للنظر في الشكوتين المقدّمتين مقابل بعضهما البعض، والبحث في شروط تنازل الطرفين وإغلاق الملف.

القصة أعلاه تتكرر في الكثير من حالات الاعتداء على معلمين، بحسب نقابة المعلّمين، التي رصدت 129 حالة اعتداء منذ آب 2013.

هذه الاعتداءات تسلط الضوء على أزمات متعددة، من الخلل في المنظومة التربوية والتعليمية، إلى البيئة المجتمعية والضغوط العشائرية على المدارس، وليس نهاية التحايل للإفلات من العقاب عبر الشكاوى الكيدية، وغياب السياسات الواضحة طويلة المدى.

teachers2

teachers3

ماذا يحصل بعد الاعتداء؟

يتابع الطلافحة رواية ما حدث في قضيته، التي سحب الشكوى مقابل أن يتنازل الطالب عن شكواه بحق المعلمين الثلاثة، «المشكلة مش أنا لحالي كنت بالشكوى، المشكلة إنه في معلمين زملائي ما إلهم دخل أبدًا، لو أنا ما تنازلت كانوا رح يناموا بالنظارة لأنه الطالب اشتكى عليهم».

ليست وحدها قضية الطلافحة التي تنتهي بسحب الشكوى جرّاء الضغوط العشائرية، إذ يتكرر هذا في عدد كبير من الحالات بحسب ما أكّدته نقابة المعلمين ووزارة التربية والتعليم لحبر.

المعلمين-02رصدت نقابة المعلمين 51 حالة اعتداء منذ حزيران لعام 2013 حتى نهاية 2014، مقابل 78 اعتداء منذ بداية 2015 حتى منتصف تشرين الثاني منه، وذلك من قبل طلبة أو أولياء أمورهم على خلفية قضايا تعليمية. نصف هذه الاعتداءات جسدية على المعلمين، بينما البعض الآخر لفظي، أو اعتداء على مبنى المدرسة، حسبما يوضح الشكل. (لا توضح النقابة في رصدها أسباب الاعتداءات التي تعرض لها معلمون خارج أسوار المدارس التي يعملون بها، بالإضافة لعدم  تمكنها من معرفة ما يحصل بعد الاعتداءات.)

بدأت نقابة المعلمين برصد الاعتداءات في آب 2013، وتزامن هذا مع تحرّك من وزارة التربية والتعليم لملاحقة المعتدين قضائيًا.

وزارة التربية والتعليم رفعت منذ عام 2013 لغاية الآن 61 قضية بحق معتدين على المعلمين، بحسب وليد الجلّاد، الناطق باسم الوزارة، الذي أضاف بأن أكثر من ثلاثين معلمًا سحبوا الشكاوى لكن القضايا ما تزال منظورة في المحاكم لأن وزارة التربية والتعليم تشتكي بناءً على تهمتين: الاعتداء على موظف حكومي خلال عمله، والاعتداء على المرافق العامة وتعطيلها.

«القضايا المنظورة في المحاكم جميعها ضد أولياء أمور»، يقول جلّاد، لأن الطلبة ينالون عقابهم بحسب الأنظمة والتعليمات المعمول بها في وزارة التربية والتعليم لا أمام القضاء.

في قرار اعتبر سابقة مهمة، حكمت محكمة صلح العقبة بإدانة والد ووالدة طالبة اعتديا عام 2014 على معلمة، إذ حكمت على الأب بالسجن لمدة ثمانية أشهر وعلى الأم بالسجن سنة، فيما برأت المعلمة من شكوى «كيدية» قُدمت بحقها من الأهل.

بالعودة إلى المعلم محمود الطلافحة، بعد أن سحب الشكوى في اليوم التالي للاعتداء عليه لقاء تنازل الطالب عن الشكوى ضدّه وضد المعلمين الآخرين، عقد مجلس تأديبي للطالب بحسب تعليمات الانضباط المدرسي المنصوص عليها من قبل وزارة التربية والتعليم، واتخذ المجلس قرارًا بنقل الطالب لمدرسة في مديرية أخرى لمدة عام كامل. إلا أن الطالب لم يداوم في المدرسة المنصوص عليها في قرار العقوبة وانتقل إلى مدرسة أخرى في المزار الشمالي.

العقوبة وجدواها

القرار الأول لمجلس الضبط كان فصل الطالب نهائيًا من التعليم، بحسب ما أكد الطلافحة الذي كان جزءًا من المجلس لكونه مساعد مدير المدرسة. لكن العقوبة خُفّضت بعد النظر لإيجابياتها وسلبياتها.

«شفنا إنه الطالب لو انفصل رح يضل بالشارع، ليش؟ مش هاد هدفنا، فقررنا نخفض العقوبة بحيث إنه يتعاقب بس ما يضيع مستقبله»، يقول الطلافحة. أقر المجلس بالاتفاق اتخاذ عقوبة نقله إلى مدرسة في مديرية بني عبيد لمدة عام بحسب الفقرة ب من مادة 6 من تعليمات الانضباط المدرسي لعام 2007.

تعتبر سميحة عجيلات، مديرة مدرسة خاصة في مادبا، عقوبة النقل التأديبي من حيث المبدأ «خطأ تربوي، قد يكون له مبرر عشائري»، لكنه بنظرها لا يساعد في حل المشكلة التربوية.

هل تم تقييم سلوك الطالب وتحسنت أخلاقه وتلقى تصحيح السلوك المطلوب بعد انتقاله من مدرسة الى أخرى؟ ما الفائدة إذن من النقل؟

تسأل عجيلات المتقاعدة من وزارة التربية والتعليم بعدما أمضت 30 عاما في إدارة مدارس حكومية في مادبا، «هل تم تقييم سلوك الطالب وتحسنت أخلاقه وتلقى تصحيح السلوك المطلوب بعد انتقاله من مدرسة الى أخرى؟ ما الفائدة إذن من النقل؟ ولماذا نعرض الطالب للجنة تحقيق تقيّمه إذا كان مؤدبًا أو غير مؤدب بدلًا من محاولة احتواء الطلبة؟ ذلك يخلق المزيد من الإصرار على ارتكاب الأخطاء».

هذا ما يؤكده طالب تعرّض لعقوبة نقل تأديبي ثلاث مرّات بسبب اعتدائه على معلمين في المرحلة الإعدادية، إذ يرى أن هذه العقوبة «زي لما ولد بنتقل من مدرسة لمدرسة لأنه أهله انتقل بيتهم، عادي». ويضيف «كنت بحب أتحرك وألعب، هُمّه عاد يزعلوا، ممكن ييجي الأستاذ يحكي كلمة أو يسب ويغلط أنا أشعر إنه بهاجمني، فكنت أرد بتعلاية الصوت أو التدفيش».

اعتداء من طرف واحد؟

المعلم ليس بريئًا تمامًا، بحسب حسن الموّاس، أستاذ التربية خاصة ومسؤول غرفة المصادر في مدرسة حكومية بخلدا، وهو الذي تلجأ له إدارة مدرسته في حل الخلافات بين الطلبة والمدرسين، نظرًا لعدم وجود مرشد أكاديمي في المدرسة.

«كثير من الأحيان يكون المعلم غير متمكن من المادة، أو مهزوزًا أمام الطلبة، فيستخدم العقاب المباشر كوسيلة للتغطية على ضعفه»، يقول الموّاس، مضيفًا أن الطالب «يأتي إلى المدرسة محفّظًا منذ الروضة بأنه «إللي بضربك أضربه» فيقابل معلمًا قد يكون غير متقن لمهارات التواصل مع الطلبة، إضافة لظروفه المعيشية التي لا تساعده على العطاء أو ابتكار أساليب تواصل جديدة، فينشأ سوء فهم بينهما، وهو الذي ينتج عنه اعتداء على المعلم».

من جهته يرفض الجلّاد تبرير الاعتداءات على المعلمين نتيجة بعض تصرفاتهم تجاه الطلبة قائلًا: «في الوزارة هناك خط ساخن، أي طالب يتعرض لاعتداء من قبل معلمه عليه أن يقدم شكوى للوزارة، ويتم التحقق منها والتعامل مع المعلم حسب نظام الخدمة المدنية، الذي يشتمل على العقوبات في حال اعتدى فعلًا».

مواسم الاعتداءات على المعلمين ومفاجأة الرسوب

تزداد الاعتداءات على المعلمين في شهري أيلول وحزيران، بداية ونهاية العام الدراسي، حسبما يوضح الشكل أدناه. هذه الاعتداءات ازدادت هذا العام أيضًا بعد إلغاء نظام الترفيع التلقائي، بحسب نقابة المعلمين.

teachers_update

في حادثة الاعتداء على الطلافحة، يوضّح بأن خمسة عشر طالبًا رسبوا في مادة الرياضيات، ولم يحضر امتحان الإكمال سوى أربعة منهم، فرسب الباقون بالسنة الدراسية. لكن مع بداية العام الدراسي، مورست ضغوط عشائرية على المدرسة من أجل إعادة النظر في أمر الطلبة الراسبين، ما استدعى اجتماعًا لمجلس المعلمين الذي قرر عقد امتحان إكمال آخر لهم، نجح فيه جميعهم، بحسب الطلافحة.

مع بداية العام الدراسي، مورست ضغوط عشائرية على المدرسة من أجل إعادة النظر في أمر الطلبة الراسبين

تقلل وزارة التربية والتعليم من تأثير التعديلات الجديدة على نسب الاعتداءات على المعلمين، «قبل أن يكون هناك تنجيح تلقائي كان هناك ترسيب للطلبة الذين لم يستوفوا شروط النجاح، ولم نكن نشهد مثل هذه الاعتداءات حينها»، يقول الجلاد.

وكانت وزارة التربية والتعليم اتخذت قرار إلغاء الترفيع التلقائي في تموز 2014، نتيجة ما أعلنه الذنيبات في نهاية 2013 عن وجود نحو 100 ألف طالب في الصفوف الثلاثة الأساسية الأولى لا يجيدون القراءة والكتابة، ما دفع الوزارة لإعلان خطة لإصلاح التعليم كان إلغاء النجاح التلقائي أحد بنودها.

بنسبة أقل من أيلول، تسجل مواسم امتحانات الثانوية العامة ارتفاعًا لحالات الاعتداءات، لكنها تختلف في مضمونها، حيث يقع الاعتداء، غالبًا، على القاعات والمراقبين، تُحل جميعها «بحسب تعليمات امتحان الثانوية العامة الذي يصل لحدّ الحرمان إذا ما كان الطالب طرفًا في الاعتداء، أو من قبل الأجهزة الأمنية والحكام الإداريين إذا حصل الاعتداء خارج المدرسة» بحسب الجلاد.

ثلاثون عامًا من الإهمال

في مطلع آب الماضي، افتتح رئيس الوزراء عبد الله نسور أعمال مؤتمر التطوير التربوي الثاني، بعد مرور نحو 30 عاما على انعقاد الأول عام 1987، مستهلًا كلمته بالتنويه للإهمال الذي تعرض له قطاع التعليم في الأردن، إذ قال: «لقد سهونا طيلة 30 عاما عن النوع في التعليم وانصرفنا إلى الكم».

تؤكد نقابة المعلمين ما جاء في تصريح النسور، حيث يقول مصطفى صقر، مدير الدائرة الإعلامية في النقابة، أن ما يجري حاليًا من استقواء على الجهاز التعليمي «حصيلة تراكمية لإهمال دام ثلاثين عامًا»، وتهميش لحق بالمعلمين على المستويات المعيشية والاجتماعية.

ما يجري حاليًا من استقواء على الجهاز التعليمي «حصيلة تراكمية لإهمال دام ثلاثين عامًا»

«من ناحية معيشية، راتب المعلم لا يكفيه لحياة جيدة، هو يشعر بالتهميش، حتى بات جزءًا من نكتة شعبية تقول: «الشغل مش عيب». في إشارة إلى تقليل المجتمع من أهمية عمله»، مؤكدًا أن نسبة كبيرة من المعلمين باتوا يعملون في وظائف أخرى كالإنشاءات والمطاعم وغيرها لتوفير حياة ملائمة لأسرهم.

الاستقواء على النظام التعليمي يظهر بأشكال مختلفة. فمثلًا، بعد ثلاثة أشهر على اتخاذ قرار النقل التأديبي بحق الطالب الذي اعتدى على الطلافحة، وصل لمدير تربية المزار الشمالي شكوى حول عدم نقل الطالب لمديرية بني عبيد، فأجرت المديرية تحقيقًا اتضح من خلاله أن الطالب لا يزال على مقاعد مدرسة في مديرية المزار بشكل مخالف للقانون، «واتخذ قرار بمعاقبة مدير المدرسة بحسب أنظمة ديوان الخدمة المدنية وأعيد نقل الطالب للمديرية الأخرى»، يقول حسين الكيلاني مدير تربية المزار.

بالرغم من تأكيدات الكيلاني بأن الطالب حاليًا ينال عقوبته في مدرسة في مديرية بني عبيد، إلا أن بيانات الطالب في وزارة التربية والتعليم، والتي اطلع عليها حبر عن طريق مصدر في الوزراة، تُبيّن أن الطالب يدرس في مدرسة المزار الثانوية الشاملة للبنين في مديرية المزار الشمالي حتى تاريخ 8/12/2015.

لماذا الآن؟

يقول صقر أن «التجييش الإعلامي» الذي مورس ضد المعلمين خلال فترة الإضرابات والاعتصامات التي نفذتها النقابة في المرحلة السابقة ساهم في السلوك السلبي تجاه المعلمين. «هيبة المعلم ضاعت، لما المذيع في البرامج الصباحية بشتم وبحكي على المعلمين، كيف الطالب بده ما يستقوي لاحقًا؟».

إشكالية الإعلام تحديدًا تنظر لها الوزارة من منظور مختلف، وهي لا تعتقد بوجود ارتفاع في عدد الاعتداءات على المعلمين، بل تفسر الأمر بازدياد التركيز الإعلامي على هذه الاعتداءات.

يقر الجلاد بأن قضايا الاعتداءات على المعلمين لاقت تعتيمًا من داخل الوزارة في السنوات الماضية، لكنه يؤكد أن وزير التربية والتعليم الحالي محمد ذنيبات تنبّه للقضية وأوعز لدائرة الشؤون القانونية بمتابعة القضايا في المحاكم بصفته الوظيفية كوزير للتربية، منعًا لوقف المحاكمة في حال أسقط المعلم الشكوى.

ما الحل؟

يصف المعلم حسن الموّاس حال المعلمين بعد تزايد الاعتداءات عليهم، بأنهم باتوا «يختصرون الشرّ»، فالمعلم يعرف «أنه لا أحد سيحميه وأن الوزارة لا تقوم فعلًا بإجراءات رادعة للعنف ضده، فيرفع شعار «تعلم الطالب ولا لأ أنا بسحب إيدي»، حفاظًا على نفسه».

تجد النقابة أملاً في بعض الإجراءات المتوقعة، مثل تغليظ عقوبة المعتدي على معلم، ويوضح صقر أن تعديلات قانون العقوبات الموجود حاليًا لدى ديوان التشريع والرأي تمهيدًا لرفعه لمجلس النواب، تساهم في ردع المعتدين على المعلمين.

النقابة ترى أن المشكلة الأبرز كانت في التعامل مع الاعتداء على المعلمين كالتعامل مع فضّ المشاجرات العادية، وليس كاعتداء وقع على موظف رسميّ خلال عمله، ما يفتح الباب دومًا أمام المعتدي لتقديم شكوى مقابلة لدى الأجهزة الأمنية تحميه من العقاب، كونه يضغط بها على المعلم ليسقط شكواه.

يقول الجلاد إن الوزارة تعاملت مع هذه الجزئية من خلال التعديلات التي أوصت بها على مسودة قانون العقوبات فيما يتعلق بتغليظ العقوبات على المعتدين من المعلمين. إذ عُدلت في مسودة القانون المادة 209 والتي تغلظ العقوبات المتخذة ضد اختلاق الجرائم والافتراء، بحيث أصبح الحد الأقصى للعقوبة سنة بدلًا من ستة أشهر. تأمل النقابة والوزراة أن يساهم هذا في وقف الشكاوى الكيدية بحق المعلمين، والتي تدفعهم للتنازل عن حقوقهم القضائية في الاعتداءات عليهم.

وترى نقابة المعلمين أن هذه التعديلات وحدها لن تكون كافية لوقف الاعتداءات المستمرة، وتطالب باستراتيجية كاملة لتطوير االنظام التعليمي والمحاسبي في الأردن، دون أن يعتمد على شخص بعينه قد يتغير النظام بتغييره.

—-

* تم إعداد هذا التقرير بالتعاون مع منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان (JHR).

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية