رأي

أخبار الجرائم: هكذا تحرّض صحافتنا على العنف

الإثنين 07 تشرين الثاني 2016
newspapers jordan

القتل لحظة تخلٍ؛ تخلٍ عن العقل والإنسانية يتوقف فيها القاتل عن التفكير وتتوقف مع دماغه كافة حواسه، وتتملكه الرغبة في القتل دون أن يفكر في تلك اللحظة في هوية ضحيته أو صلته بها أو بني آدميته. وفي أحيانٍ كثيرة لا يعود للقاتل عقله إلا بعد ارتكابه جريمته بفترة ما، ولعل هذا ما يدفع القاتل أحيانًا إلى التمثيل بجثة ضحيته، أو ارتكاب أي فعلٍ آخر منافٍ للعقل.

هذه الجرائم التي بتنا نسمع أخبارها كثيرًا ليست جديدة، ربما هي متزايدة بسبب ازدياد أعداد السكان وازدياد الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعاتنا وما يتبعها من مشاكل نفسية ولجوء للمخدرات والجريمة، وصرنا نعرف عنها أكثر مع الانفتاح الإعلامي والتكنولوجي وسرعة انتشار الأخبار وعدم القدرة على السيطرة عليها.

لكن اليوم، لم يعد القتل أو الانتحار وحدهما لحظة تخلٍ، بل نشر الخبر هو لحظة تخلٍ أيضًا؛ إذ يبدو أن حمّى مواقع التواصل الاجتماعي وجنون التسابق على الخبر ومرض «الترافيك» الذي أصاب معظم المواقع الإخبارية دفعها للتغاضي عن كثير من المعايير المهنية في نشر الأخبار الصحفية، وأصبح التعامل مع هذه الأخبار وكأنها سلعة يتم فيها تشويه الخبر قدر الإمكان لجلب الجمهور إليه.

في الأسبوعين الأخيرين وحدهما لا أعتقد أنني فتحت موقعًا إخباريًا محليًا دون أن أقرأ خبرًا رئيسيًا عن جريمة قتل أو انتحار مواطن. باتت هذه الأخبار تتصدر العناوين الرئيسة دون أي سبب إلا لأنها تجلب القرّاء.

تنتهك كثيرٌ من المواقع والصحف أخلاقيات العمل الصحفي بطريقة عرضها لأخبار الجرائم؛ إذ لا تتوانى عن نشر صور القتلى والقاتل ومسرح الجريمة، وصور أطفالهم إن وجدوا، وصفحات الفيسبوك الخاصة بهم وآخر ما نشروا على وسائل التواصل الاجتماعي، ولو استطاعت لأخبرتنا عن آخر وجبة تناولوها قبل أن يرتكبوا جريمتهم أو يقدموا على الانتحار، ستخبرنا عن ردود أفعال أهلهم بالتفصيل وعن ردود فعل الجيران وستصف الجريمة كيف تمت وكيف كانت ردة فعل القاتل بعد أن قام بجريمته.

الصحفيون يفعلون كل هذا في لحظة تخلٍ تامة عن دورهم في المجتمع وعن مهنيتهم وعن إنسانيتهم قبل كل شيء، دون التفكير في حق الضحية أن يبقى اسمها وصورتها بمعزلٍ عن وسائل الإعلام، ودون التفكير بعائلة الضحية ومشاعرها. تنسى وسائل الإعلام عائلة الجاني التي لا ذنب لها بالتجييش الذي نقوم به نحن كصحفيين حين نظل نصف مشاهد القتل ونتحدث عن القاتل ونصفه بأبشع الأوصاف، وننسى حق القاتل نفسه كإنسان يحاسبه القانون لا نحن كمواطنين وصحفيين. ننسى أن دورنا يتوقف عند نقل الخبر في كثير من الأوقات ولا يتعداه لننصب أنفسنا قضاة.

كيف لنا أن نخفي هذه الأخبار عن أطفالنا وأن نحميهم من الاعتياد على كل هذا العنف؟

قبل أيام وقعت في عمّان جريمة «قاتل والدته» التي انشغل فيها الإعلام الأردني؛ وسائل الإعلام الأردني سارعت لنشر تفاصيل الخبر، بعضها نشر صورة القاتل واسمه ومكان سكنه وصفحته على الفيسبوك، وبعض المواطنين قاموا بتصوير الضحية وتداول صورتها، فيما قامت معظم المواقع بتوصيف الجريمة توصيفًا دقيقًا يغني عن الصورة. إحدى الصحف اليومية انتقدت هذه الانتهاكات الصحفيّة من خلال مقال لأحد «كتّابها»، لكن المقال شكّل مجرد صفٍّ للكلام حين جاء فوق عنوان عريض لمادة صحفية أخرى في الصفحة نفسها يشرح حادثة «تفاصيل قاتل والدته».

هذه الحادثة ليست الوحيدة؛ قبل أسبوع تقريبًا تسابقت أيضًا المواقع الإخبارية على نشر خبر رئيسي لانتحار أربعيني من إحدى طوابق مستشفى الملك عبدالله المؤسس. بعض المواقع غفلت عن أن الميت كان قبل لحظات شخصًا له حياة وأن له عائلة، ونشروا صورته ملقىً على الأرض. هذه الانتهاكات تتكرر بشكلٍ يومي تقريبًا دون أي ضابط من المؤسسة الإعلامية أو من الصحفي نفسه، ومن المؤسف أن يكون الرادع الوحيد الذي يمنع بعض المؤسسات الإعلامية من نشر هذه التفاصيل أو الصور هو المدعي العام.

قبل أقل من شهر شاركت في ورشة عمل في بيروت بتنظيم من مؤسسة أديان بعنوان «صحافيّون من أجل المواطنة الحاضنة للتنوّع وحرية المعتقد». في إحدى الجلسات تمت مناقشة ما إذا كان من الأخلاقي نشر صور القتلى وأسمائهم أم لا. اتفق الصحفيون أن من غير المهني نشر أسماء الضحايا والمجرمين على حد سواء، مختلفين على السبب، بعضهم لأسباب إنسانية وبعضهم لأسباب تتعلق بعدم عرقلة التحقيقات القضائية وبعضهم الآخر للسببين معًا. لكن الغريب في الأمر أن بعض الصحفيين وجدوا أنه من المقبول نشر صور القتلى، ورأوا أنها وسيلة ردع، أو وسيلة لتنبيه الناس من خطر ما.

هل نحمي المجتمع فعلًا حين ننشر صور المجرمين الذين وقعوا في قبضة الشرطة وحين ننشر صور الضحايا وتفاصيل الجريمة، أم أننا نُدخله في أزمة نفسيّة ونفاقم أكثر من الخلل الموجود في المجتمع؟ لست خبيرة في علم الاجتماع ولا في علم النفس، لكنني لا أدري لماذا يتوجب علي أن أستيقظ يوميًا على أخبار جرائم وحوادث تتربع في داخلها صورٌ تعبيريةٌ ليدٍ ملطخة بالدم، أو جثة هامدة؟

أعلم أن هناك من يهتم بقراءة هذه الأخبار، وأن هذه الأخبار لا بد أن يتم نشرها من باب نقل الخبر، لكن ألا يمكن أن يكون نقل الخبر في زاوية لا تتصدر الصفحة الرئيسة وألّا يكون فيها مشاهد عنفٍ تعبيرية وصورية؟ في صحفنا ومواقعنا الإخبارية أخبار يتم تناولها بصورة مثيرة للصدمة، يتم رفع صور قبل التفكير بمدى تأثيرها على الناس، ومَن يشاهدها من الفئات العمرية المختلفة. هناك إرهاب نفسي يومي وأحيانًا هناك صحافة مثيرةٌ للاشمئزاز.

كل هذه الجرائم لن تنتهي، لكن ما الحكمة من نشرها بهذه الطريقة؟ وما الهدف من تشويش عقول الناس وتعطيل حياتهم بالخوف؟ والأسوأ من ذلك كيف لنا أن نخفي هذه الأخبار عن أطفالنا وأن نحميهم من الاعتياد على كل هذا العنف؟

مما لا شك فيه أن الإصرار على نشر هذه الأخبار والصور بمثل هذه الطريقة في مكان بارز هو نوعٌ من العنف الإعلامي الذي لا يقل خطورة عن المواد الإعلامية الأخرى القادمة إلينا من أفلام العنف أو الألعاب الإلكترونية المليئة بالقتل. تعرّضنا الدائم لمثل هذه المواد يقوم بشكل تلقائي بتغيير طريقة الدماغ في معالجة الصور البصرية والتعبيرية العنيفة التي يتلقاها، وتؤدّي بنا إلى أن تكون أكثر قدرة على السيطرة على ردود فعلنا العاطفية تجاه العنف الذي نقرأه ونسمع عنه ونشاهده عبر الوسائل الإعلامية كل يوم، الأمر الذي يجعل عملية ارتكابه أسهل أيضًا بطبيعة الحال.

نحن اليوم نجعل من المجرمين أبطالًا دون أن نلحظ ذلك، نسلط الضوء عليهم وعلى جرائمهم لأيام متتالية، وننشر صورهم وكل ما يتعلق بهم، فيصبحون حديث الناس في كل وقت، ودون أن أن ندري تصبح الجريمة مجرّد حدث عادي نتحدث عنه دون أي تأثر. وندرك أننا فقدنا هشاشتنا وجزءًا من إنسانيتنا حين تتحول الجريمة إلى نكتة سمجة نتداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، ونهزأ بها من الواقع، حيث تصبح صورة الضحية سبقًا صحفيًّا نتراكض للبحث عنها، وحين تصبح أدق التفاصيل مجرد تسلية نستكمل بها أحاديث المساء.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية