رأي

وأخيرًا، حُذفت قصيدة شاعري المفضل من المنهاج

الخميس 13 تشرين الأول 2016
بورتريه لبدر شاكر السيّاب، من لوحة عُرضت في معرض أقيم تكريمًا له في بابل بالعراق. عن موقع القرطاس نيوز.

بقلم محمد محمود

بمحض الصدفة عرفت مؤخرًا أن قصيدة «أنشودة المطر» للشاعر العراقي بدر شاكر السياب قد أُخرجت من الخدمة في كتاب مهارات الاتصال باللغة العربية للمرحلة الثانوية (التوجيهي)، وبمحض الصدفة عرفت أيضًا أن قصيدته «غريب على الخليج» أُدخلت الخدمة في نفس الكتاب المدرسي.

لم أعرف على وجه التحديد متى حدث التعديل الجوهري الذي أطاح بالسياب وأعاد تنصيبه. ما أعرفه أن سعادةً غامرةً انتابتني لمعرفتي بالحدث الجلل، وجعلتني أقول في نفسي «وأخيرًا، ها أنا أنتصر».

حقًا انتصرت، وشعرتُ بنشوة الانتصار المؤجلة سبعة عشر عامًا، يوم قلتُ لأستاذ اللغة العربية الذي وبخني بشدة ورماني بالكفر «اشطبوا القصيدة من الكتاب أفضل»، بعدما أدركتُ يومها استحالة إزالة التشوه.

كان السياب شاعري المفضل. عرفته في بداية المرحلة الإعدادية من خلال قصيدته «رحل النهار» التي عثرت عليها بعيدًا عن الكتب المدرسية، ومنها توغلت في القراءة للشاعر الذي ما يزال للآن شاعري المفضل.

وجدتني وفي وقت مبكر أحفظ غالبية أشعاره عن ظهر قلب، ومن بينها «أنشودة المطر» التي أحببتُ أكثر منها -على عبقريتها- «المومس العمياء» و«إرم ذات العماد» و«حفار القبور» و«رئة تتمزق»، وذَهبتُ أكثر من ذلك لأنحاز إليه في جدل ريادة الشعر الحر، مقتنعًا أو مقنعًا نفسي أن قصيدة «الكوليرا» لنازك الملائكة لم تسبق قصيدته «هل كان حبًا».

من فرط افتتاني بالشاعر الذي قرأت سيرة حياته المضطربة، كنت أتقمص مشاعره وأنا أتنقل بين القصائد، فأسقط في وحل الألم واليأس، وأتذوق مرارة الغربة، وقلق الاغتراب، والخوف من الأمل الذي يبرق خجولًا ويخبو سريعًا، كل ذلك في السياق الإنساني للشاعر واللحظة التاريخية التي عاشها وعبّر عنها بكل إرهاصاتها السياسية.

كلا المعسكرين يتنافسان على مساحة شطب وإلغاء النصوص والآيات المحكومة غالبيتها، إن لم يكن كلها، بالنسيان.

أدين للشاعر أنه نبهني للاطلاع على الميثولوجيا الإغريقية والبابلية لأمتلك ناصية فهم الرمزية في شعره. فشكرًا للسياب الذي حرصت في العام ٢٠٠٠، خلال وجودي في العراق، على زيارة تمثاله المنتصب على كورنيش شط العرب في مدينة البصرة، لأقول له شكرًا.

موقفي من شاعري، تشكل واكتمل على ذلك النحو في العام ١٩٩٩ الذي كنت فيه طالبًا على مقاعد التوجيهي، حين نهرني أستاذ اللغة العربية ظهيرة أحد أيام ذلك العام الدراسي لأقف أمام زملائي كبهلوانٍ أشاركهم مهزلة تسمى «تسميع النص»، وهي وقتٌ مناسبٌ لينعم الأستاذ بإغفاءة سريعة أو يقف شارد الذهن أمام النافذة التي تفصله وتفصلنا عن حرية تنتظر قرع الجرس.

دون أن أعرف عدد الأسطر المطلوب حفظها لأغراض الإمتحان، رحت أنشد «عيناكِ غابتا نحيلٍ ساعةَ السحَرْ، أو شُرفتان راح ينأى عنهما القمر…. كأن صيادًا حزينًا يجمع الشِّباك، ويلعن المياه والقَدَر»، وقبل أن أكمل صرخَ الطلاب مع ضربات محدودة على الأدراج «غلط، غلِطِت، خربط يا أستاذ». تنبه الأستاذ، حملق بفزع، وسألني «من وين جبتها هاي؟»، قاصدًا «ويلعن المياه والقَدَر».

أجبته بتلقائية «من القصيدة يا أستاذ».

رد بلهجة صارمة «هذا المقطع مش موجود في القصيدة».

قلت بإصرار «أنا قرأتها بالقصيدة يا أستاذ».

جذبني إلى طاولته حيث كتاب اللغة العربية «ورجيني إياه».

بنظرة سريعة لم أعثر عليه في الكتاب، فدافعت «لكنه موجود في ديوان الشاعر يا أستاذ».

فردّ باحتقار واضح «بس تفلح بدروسك وتقرأ كتبك بتقلي ديوان الشاعر. واحد مفلسف، اللي حكيته كفر، ما بتعرف أنه القدر هو الله، كيف بتلعنه، أنت كافر؟».

«لا، أنا مش كافر يا أستاذ، بس أنا هيك بعرف القصيدة».

رد بشكل قاطع «القصيدة مثل ما هي في الكتاب، هذا المقطع محذوف لأنه كفر».

قبل أن يطردني من غرفة الصف، أجبته «طيب اشطبوا القصيدة من الكتاب أحسن».

خرجت ناقمًا على الأستاذ، وعلى زملائي الذين حوّلوني إلى مادة للضحك، وعلى مؤلف الكتاب الذي شوه القصيدة، مدركًا في قرارة نفسي أن الشاعر لو كان على قيد الحياة لقاوم الجريمة التي اقترفتها وزارة التربية والتعليم بحقه، وعزّيت نفسي بأنني قاومت ذلك نيابة عنه.

لاحقًا عدت إلى حصة اللغة العربية، دون أن أسلمَ من عبارات السخرية العابرة التي راح الأستاذ يرميني بها بين الحين والأخر، ورحت أعلفُ ما في الكتاب كما قرر لي ولزملائي، وأعتقد أن آلاف الطلبة ما زالوا يُعلفونَ.

هذا التذكير بالشطب/الإلغاء الذي طال شطرًا من قصيدة «أنشودة المطر» على يد أعضاء لجان التأليف تحت تأثير مرجعياتهم أو التزامًا منهم بمرجعية سائدة، ليس إعلان اصطفاف إلى جانب معسكر على حساب آخر في معركة التعديلات التي طرأت على الكتب المدرسية، فكلا المعسكرين يتنافسان على مساحة شطب وإلغاء النصوص والآيات المحكومة غالبيتها، إن لم يكن كلها، بالنسيان.

ما نحتاجه اليوم ليس أن تضع المعركة أوزارها لصالح معسكر على حساب الآخر، بل دخول معسكر ثالث إلى غمارها، يتجاوز تجاذبات الشطب والإلغاء ليدير نقاشًا واسعًا للنهوض بالعملية التعليمية بكافة عناصرها، باتجاه الإعلاء من قيمة التفكير وتحفيز مهارات البحث والتحليل وتنمية ثقافة الحوار. وقتها، تصبح الكتب المدرسية خطوة على طريق المعرفة وليست نهايتها، وتكون هذه المعركة جانبية، لا مركزية.

تذكرت كل هذا وأنا أراقبُ المعركة التعليمية المشتعلة التي يتنافس فيها الخصوم على كميات العَلَف، وأنشدته كما عرفته، لا كما عَرَّفتنِي به الكتب المدرسية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية