المناهج المدرسية المعدّلة والتطرف: أغلفة جديدة لكتب قديمة

الأحد 31 أيار 2015

(الصورة بعدسة رزان الخطيب)

يتعلم الأطفال في كتاب اللغة العربية للصف الأول، أن المسلم الحقيقي هو الذي لا يؤذي بكلامه أو فعله «مسلمين» آخرين1، وفي كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث يتعلمون أن «المسلم يحب المسلمين جميعا، ويحافظ على أرواحهم وأموالهم، ويحرص على عدم إيذائهم بقول أوفعل (…) فالمسلم لا يخيف المسلمين برفع صوت أو تهديد بعصا أو سلاح»2. كما يتعلم الأطفال في الكتاب ذاته أنه من بين الكتب السماوية الثلاثة: القرآن والإنجيل والتوراة، فإن القرآن هو الكتاب الوحيد الذي «حفظه الله  تعالى من التغيير والتحريف»3.

هذه أمثلة على القيم التي تتضمنها الكتب الدراسية الجديدة للصفوف الثلاثة الأولى، التي أطلقتها وزارة التربية والتعليم بداية العام الدراسي الحالي، بوصفها المرحلة الأولى من مشروع تغيير المناهج الدراسية لكامل الصفوف. وهو تغيير يأتى على وقع الجدل المتصاعد بخصوص علاقة المحتوى القيمي للكتب المدرسية في التعليم العام،  بظاهرة التطرف الديني، وارتفاع الأصوات المنادية بمحتوى تعليمي يكرّس التسامح الديني.

لكن قراءة أولية في الكتب الجديدة التي تقول صراحة لأطفال في السادسة والسابعة أن الكتب المقدسة لأتباع الأديان السماوية الأخرى «محرّفة»، وأن التعايش السلمي  قيمة مطلوبة بين المسلمين حصرا، تؤشر على أن العقلية القديمة هي التي أنجزت الكتب الجديدة.

أول ما تلفت إليه القراءة في هذه الكتب هو الشحنة الدينية الهائلة، لا في كتب التربية الإسلامية فقط، وهذا مفهوم، ولكن أيضا في كتب تُدرّس للجميع، مثل اللغة العربية والعلوم ومنهاج التربية الوطنية والاجتماعية4.

ليست المشكلة هنا في ربط القيم بالإسلام، بل في ربطها الحصري بالإسلام، ما يخرجها من عموميتها الإنسانية، ويجعل الأمر يبدو كما لو أن الإسلام هو مصدرها الوحيد.

على سبيل المثال، فإنه من بين 46 درسًا في كتب اللغة العربية للصفوف الثلاثة، هناك 20 درسا اشتملت على محتوى ديني، ثمانية منها هي نصوص دينية بالكامل، أي بنصها والتدريبات والأنشطة الملحقة بها، في حين اشتمل 12 درسا على محتوى ديني، هو آيات أو أحاديث نبوية تتعلق بالقيم التي تطرحها الدروس، طُلب من الأطفال حفظها.

ويُقدّم لكل درس في كتب العلوم بآية قرآنية يتعلق مضمونها بالحقيقة العلمية موضوع الدرس، وفي منهاج التربية الاجتماعية والوطنية، تٌربط القيم التي تطرحها الدروس، ومنها الصدق والتسامح والعدالة والمساواة والأمانة واحترام الآخرين بآيات أو أحاديث نبوية أو قصص دينية، وينطبق الأمر ذاته على كتاب اللغة العربية. وليست المشكلة هنا في ربط القيم بالإسلام، بل في ربطها الحصري بالإسلام، ما يخرجها من عموميتها الإنسانية، ويجعل الأمر يبدو كما لو أن الإسلام هو مصدرها الوحيد.

في هذه الكتب، ما زال الآخر غائبا، وباستثناء قصة القبطي التي ضربه ابن عمر بن العاص لأنه سبقه، فأنصفه الخليفة عمر، وقصة أديسون مخترع المصباح، وصورة لكنيسة في منهاج التربية الاجتماعية والوطنية للصف الأول،  فإن الآخر في هذه الكتب، بالتحديد في كتب التربية الإسلامية، يقتصر على الكفار والروم والأعداء. ومع كل هذا الكلام عن الضلال والهداية، وربط الهداية بالإسلام، والضلال بكل ما عداه، فإن هذه الكتب ما زالت تطرح المسلمين في وعي الأطفال، لا بوصفهم جزءا من العالم، بل في مواجهته، وفي صراع معه.

السؤال هنا هو عن الذهنية التي وقفت وراء هذا التغيير، والآلية التي تمّ وفقها.

هذه الكتب ما زالت تطرح المسلمين في وعي الأطفال، لا بوصفهم جزءا من العالم، بل في مواجهته، وفي صراع معه.

قبل إطلاق الكتب المدرسية الجديدة، لم يكن لشخص لا يملك غير وسائل الإعلام مصدرا للمعلومات، أن يعرف على وجه التحديد موقف الوزارة من الدعوات التي تتهم الكتب المدرسية بتكريس التطرف. فمن بين الكلام الكثير عن القضية في الإعلام، سواء كان ذلك في المقالات، أو تغطية الندوات التي ناقشت القضية، ليس هناك سوى القليل الواضح مما هو منسوب لمسؤولي الوزارة.

لكن من هذا القليل يمكن القول إن التطرف في كتب المدارس ليس هاجسا لمسؤولي الوزارة، ففي منتصف شباط (فبراير) الماضي، غطّت صحيفة «الغد» ندوة  بعنوان «نحو إستراتيجية شاملة لمحاربة التطرف… فرص التوافق الوطني وتحدياته»، ونقلت عن وزير التربية والتعليم، محمد الذنيبات قوله إن التطرف «لم يدخل بلدنا عن طريق التعليم وإنما عن طريق الفضاء المنفتح ووسائل التواصل الاجتماعي ونقل أفكار وممارسات خارجة عن مجتمعنا الى الداخل»، ونقلت “الدستور” في تغطيتها للندوة ذاتها عن الوزير أن الوزارة أجرت «مسحا» للمناهج المدرسية بهدف حذف كل ما يمكن أن «يدعم الغلو والتطرف والإرهاب»، لكنه يخلص إلى أن «المناهج الأردنية حيادية وليست مسيسة وزاخرة بالمفاهيم التي تحث على الاعتدال واحترام الآخر». ثم بعدها بأيام، يصرح الوزير في ندوة أخرى أنه «يتحدى أن يعثر أحد على عبارة أو كلمة واحدة تشجع على التطرف والإرهاب في المناهج المدرسية».

التصريحات السابقة للوزير، بالتحديد تصريحه الأخير تكشف أن مفهوم وزارة التربية للتطرف ربما يقتصر على خطاب الكراهية الفجّ والمباشر، وهو ما يتحدى أن يعثر أحد على نماذج عليه.

ورغم أن اتهام الآخرين بالضلال، هو خطاب كراهية فج، لكن، ومع التسليم جدلا بأن كتب المدارس تخلو من هذا الخطاب، فإن المشكلة الجوهرية في المحتوى التعليمي ليست دائما في ما يفصح عنه، بل في ما يضمره. فللمحتوى التعليمي مستويان: ظاهري، ستجد فيه الكثير من الإنشاء عن العدل والمساواة والتسامح وتقبل الآخرين، لكن هذا يترافق مع تعظيم للذات وتحقير للآخر المدموغ دائما بالضلال، أو في أخف الأحوال، الآخر الغائب الذي تتعامل معه الكتب كما لو أنه غير موجود في هذا العالم. ودائما فإن هذا الآخر ينفرز عن الذات على أساس ديني.

المستوى الداخلي للكتب المدرسية يتمثل في تقديم تأويل واحد للنص الديني، ثم تقديم هذا التأويل بوصفه الحقيقة المطلقة، يمثل الإسلام وفقها المصدر الوحيد للقيم السامية، وكل ما يطرح من حقائق، إما نابع منه او منسجم معه.

ويتمثل المستوى الداخلي أيضا في هذا الاحتفاء الهائل برموز قتالية إسلامية، يغرق الأطفال في الحنين إلى زمن الحروب الإسلامية، التي نٌشر فيها الدين بالقوة. كما يتمثل في هذا التعظيم للدين بوصفه أساس التكتل بين الناس، وهو أمر يُقال للأطفال صراحة، ففي كتاب التربية الإسلامية، للصف السادس، وهو من الكتب المقرر تغييرها العام القادم، يتعلم الأطفال أن هناك أنواعا مختلفة من الروابط  تجمع البشر، منها القرابة والنسب والجيرة، لكن الرابطة التي هي “أقوى من تلك الروابط5 هي رابطة الدين، التي يسميها الكتاب “أخوة الإسلام”، وبذلك يتعلم الأطفال أن مسلما في الصين، هو أقرب إليه من مسيحي في المنزل المجاور.

لقد فشل الإعلام إلى حدّ كبير في خلق نقاش عام حقيقي في هذه القضية، فهو لم يخرج عن نقل العموميات التي لم تدخل في التفاصيل، فلم يكن هناك نقاش حقيقي مثلا في مواضع محددة في الكتب يجب إعادة النظر فيها، ولا كان هناك تحديد حقيقي للقيم التي تُدرّس في المدارس ويُعتَقد أنها تكرس التطرف، ذلك أن الحقيقة هي أن الخوض في التفاصيل، سيعني، شئنا أم أبينا، مواجهة ما يتعامل معه كثيرون بوصفه ثوابت إسلامية. لكن حساسية القضية لا تعني الصمت عن الخوض فيها، بل تعني ضرورة التوصل إلى إدارة صحية لهذا النقاش.

إن حتمية فتح نقاش عام حقيقي في هذه القضية هو الوسيلة الوحيدة لإنجاز محتوى تعليمي يُكرس القبول الحقّ للآخر، ويعرض البشر كائنات متساوية، بمعزل عن انتماءاتهم الدينية، وهو أمر لا يمكن أن يتمّ بين يوم وليلة، ولا يمكن أن يتم بقرار فوقي، إذ في وقت يمثّل المحتوى التعليمي في أي بلد منظومة قيمه المتوافق عليها اجتماعيا. فإن الانقلاب الجذري المفاجئ على هذه المنظومة في مجال بالغ الحساسية مثل التعليم، لن يكون حكيما، حتى لو امتلكت جهة ما فرضه بالقوة، فما سيحدث هو أن هذا التغيير سيُقابل بمقاومة عنيفة من المجتمع، بآبائه وأمهاته ومعلميه.

أي تغيير في القيم التي يمررها التعليم للناشئة يجب أن يكون حصيلة حوار حقيقي مباشر فيها،  حوار يقول فيه الناس ما يعتقدونه فعلا، الأمر الذي يشكل في قضية كهذه تحديا كبيرا، لكننا إذا توصلنا إلى إدارة نقاش صحي، فإن هذا سيكون هو الخطوة  الأولى لتغيير متدرج في كتب المدارس، الأمر الذي كان مأمولا في هذه المرحلة من مشروع تطوير المناهج، لكن ما هو واضح أن المناهج الجديدة، بدلا من أن تكون خطوة أولى في الرحلة نحو تعليم، يرعى العقلانية والانفتاح والقبول، فإنها كانت خطوة فعلا، لكن في رحلة بالاتجاه المعاكس.

—-

1 “لغتنا العربية”، الصف الأول، الفصل الأول، ص 31

2 “التربية الإسلامية”، الصف الثالث، الفصل الأول، ص 22

3 “التربية الإسلامية”، الصف الثالث، الفصل الثاني، ص 5

4 لم يعد طلبة الصفوف الثلاثة الأولى ابتداء من العام الدراسي الحالي يتسلمون كتبا خاصة بمادة التربية الوطنية والاجتماعية، لكن تدريس هذه المادة ما زال قائما، والمحتوى التعليمي موجود في أدلة خاصة توزع على المعلمين.

5 “التربية الإسلامية”، الصف السادس، الفصل الأول، ص 49

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية