ملف المناهج المدرسية: المواجهة بين أفكار لا بين أشخاص

الأحد 12 تموز 2015

مع استثناءات قليلة، فإنه لا يمكن وصف ردود الفعل على الدعوات المطالبة بمراجعة القيم المتطرفة التي تتضمنها الكتب المدرسية، والمطالِبة بتعليم يؤسس لثقافة قبول الاختلاف الديني والفكري، بأنها انخراط في حوار، بقدر ما هي هجوم، يُقوّل فيه أصحاب هذه الدعوات ما لم يقولوه، ويقفز فيه المهاجمون عن مناقشة الأفكار المحددة التي طرحتها هذه الدعوات، إلى الطعن في ذوات أصحابها والتشكيك في نواياهم.

تُتهم هذه الدعوات بأنها «سطّحت» ظاهرة التطرف، عندما صوّرت التعليم المدرسي بوصفه العامل المؤسس لظاهرة التطرف، والمحرّك الوحيد لها. ولا أدري من قال هذا، فمثل أي ظاهرة إنسانية، التطرف ظاهرة معقدة، أسست لها وتذكّيها عوامل يتشابك فيها الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والنفسي. وأن يكتب أحد من واقع علمه وخبرته في ما يعتقد أنه أحد العوامل المساهمة في إذكاء التطرف، فإن هذا لا يعني (ما لم يقل هو ذلك) أنه يعدّ هذا العامل السبب الوحيد والأوحد لهذه الظاهرة. إنه ببساطة يكتب في المنطقة التي يستطيع الاجتهاد فيها، ويمكن لآخرين أن يقاربوا جوانب أخرى، بحيث يقدم مجموع هذه النقاشات فهما متكاملا لهذه الظاهرة.

أيضا، يُتهم أصحاب هذه الدعوات بأنهم يستندون إلى أمثلة مجتزأة من الكتب المدرسية، ومنزوعة من سياقها للتدليل على أن هذه الكتب تروّج للتطرف. وهذا يعني أن إعادة هذه الأمثلة إلى هذا السياق، يؤدي إلى نتيجة مناقضة، لكن هذا ليس صحيحا.

لنأخذ على سبيل المثال النصوص التي يتعلم فيها الأطفال أن المسلم الحقيقي هو الذي يحب «المسلمين»، والذي لا يؤذي بكلامه «المسلمين»، والذي لا يرفع السلاح في وجه «المسلمين». التي استُخدمت أمثلة للتدليل على أن المدارس تعلّم الأطفال أن التعايش السلمي مطلوب بين المسلمين حصرًا.

ستكون هذه الأمثلة، منتزعة من سياقها فعلا إذا كانت هذه الكتب تتضمن ما يشير إلى أن هذا العالم متنوع، يتبع الناس فيه عقائد مختلفة، هي بالنسبة لأصحابها «حقائق» بقدر ما هو الإسلام حقيقة بالنسبة لأتباعه. وأن للناس بغض النظر عن اختلاف انتماءاتهم الدينية الحق ذاته في الوجود. لكن واقع الحال هو نقيض ذلك، فهذه الكتب في الحقيقة تعلم الأطفال أن أي عقيدة أخرى غير الإسلام هي عقيدة فاسدة، وأتباعها ضالون. وهذا يعني أن التعليم، وفي مرحلة عمرية مبكرة جدًا، يقسم العالم في وعي الأطفال إلى قسمين: مهتدين وضالين. وهذا لا يؤسس لنظرة إيجابية للعالم، بل لنظرة عدائية صدامية، لا يمكن لها بأي حال أن تقود إلى تعايش سلمي.

وهنا، يحتج المدافعون بمواضع في بعض الكتب المدرسية تتحدث عن «تسامح» الإسلام مع أصحاب الديانات السماوية الأخرى، ولكن هذه المواضع بالتحديد، تكرّس فكرة «التفوق» الإسلامي. لأنها أولًا تحدد العقائد التي «يسمح» المسلمون لأصحابها بالوجود في دولتهم، وتعلن «ضمنا» الحرب على كل ما عداها.

مع كتب تكرّس نظرة صدامية إلى كل مختلف دينيًا، لا تكون الأمثلة السابقة منتزعة بشكل مضلل من سياقها، بل هي في الحقيقة ممثلة بجدارة لهذا السياق.

ثم هي ثانيا، لا تتعامل مع أتباع هذه العقائد المحددة، بوصفهم مواطنين كاملين، بل بوصفهم «فئة» داخل الدولة المسلمة، فُرز المنتمون إليها على أساس ديني، وحرموا استنادا إلى هذا الفرز من حقوق المواطنة الكاملة. ففي اللحظة التي يتعلم فيها التلاميذ عن حرمان غير المسلمين من حق تولي مناصب رسمية معينة، لا بوصفه تاريخا، بل قانونا إسلاميا للحاضر، فإن كل الإنشاء اللغوي الذي تتضمنه تلك الكتب عن كون هؤلاء مواطنين كاملين، لن يغير من حقيقة أنهم ليسوا كذلك.

إذن، مع كتب تكرّس نظرة صدامية إلى كل مختلف دينيًا، لا تكون الأمثلة السابقة منتزعة بشكل مضلل من سياقها، بل هي في الحقيقة ممثلة بجدارة لهذا السياق.

من ناحية أخرى، يقفز المهاجمون، بشكل عام، عن نقاش الأفكار المحددة التي تطرحها هذه الدعوات، إلى الطعن  في ذوات أصحابها، والتشكيك في نواياهم  بالقول إنهم يتخذون قضية المناهج المدرسية ذريعة للنيل من الإسلام نفسه.

وهذا الطرح، عدا أنه دخول في النوايا، وغير مسنود في هذا الاتهام المجاني بأي دليل،  هو أيضا، يحسم أن «الدين» الذي تعلمه هذه الكتب للتلاميذ هو الإسلام، وفي هذا تضليل، لأن الخطاب الديني في هذه الكتب يرتكز على «تأويل» للنصوص الدينية، يقابله تأويلات أخرى، أصحابها علماء دين، ومنهم من يعترض على ما يقدّمه التعليم الرسمي للناشئة بوصفه الإسلام، ويدعو إلى إعادة النظر في المناهج. لكن هؤلاء لا ترد أي إشارة إليهم في الهجوم.

في الأثناء، لا يناقش المهاجمون الأفكار المحددة التي تطرحها هذه الدعوات، فلا يعلنون مواقفهم، مثلا من تزييف التاريخ، وتشويه الذاكرة، الذي يمارسه التعليم الرسمي، عندما يحذف جزءا أساسيا من تاريخ المنطقة، هو التاريخ المسيحي. ولا يقولون رأيهم في تزييف الحاضر الذي يمارسه هذا التعليم، بتغييب حقيقة تنوع المجتمع الأردني، وتصديره في هذه الكتب للناشئة مجتمعا إسلاميا خالصا. ولا يناقشون إخراج الأخلاق من سياقها الإنساني، وجعلها تبدو في هذه الكتب كما لو أنها ولدت من الإسلام، وتستمر بفضله وحده.

إن مناقشة ما سبق تحتّم على المدافعين عن التعليم المدرسي بصيغته الحالية إعلان مواقف محددة وواضحة من القيم التي يروّج لها هذا التعليم. إن عليهم مثلا أن يعلنوا موقفًا واضحًا من تعليم رسمي يقول للأطفال في عمر الثامنة إن الكتاب المقدس لشركائهم في الوطن «محرّف».

لا يعلن المهاجمون مواقف محددة، لأن مسألة التحديد هذه، والدخول في التفاصيل، هي مقاربة جديدة لنقاش قضية التطرف في المناهج المدرسية. فخلال العشرين سنة ماضية، ستجد أن كثيرين كتبوا عن تكريس المناهج المدرسية لثقافة التعصب والانغلاق والعداء للآخر، لكن الطرح كان دائما عامًا وفضفاضًا. لقد كان طرحًا غير مفيد، ولا مؤذ، تحول بمرور السنين إلى كليشيهات فقدت أي تأثير، ولهذا لم تثر ردود أفعال حقيقية. في حين يثير النقاش الذي يُسمي الأشياء بأسمائها ردودا قوية.

التحدي الأكبر في إدارة هذه القضية، هو أن يكون النقاش فيها صحيًا، ولن يكون كذلك إلا إذا افترض كل طرف صفاء نية الطرف الآخر (ما لم يثبت العكس). وقتها سيكون هذا النقاش مواجهة بين أفكار، لا بين أشخاص.

(الصورة بعدسة رزان الصالحي)

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية