النسوية كواجب أخلاقي في عالم تسوده العولمة

الخميس 09 تموز 2015

بقلم أريان شاهفيسي*

(نشر هذا المقال في العدد الأول من مجلة كُحْل لأبحاث الجسد والجندر، صيف 2015، وهو متوفر كذلك بالإنجليزية).

دعوني أبدأ معكم بهذا السؤال: ما مشكلة هذا العالم؟ شاهدوا التلفاز هذا العام وقولوا لي ماذا ترون؟ غياب دور المرأة، مستبدون متوحشون، متدينون متطرفون، مجموعة أشخاص تقتل لكي تنتقم، جنود احتلال غاشم. السؤال هنا: أين النساء؟ ألن يكون من الأفضل أن تقوم النساء بتحريض المتظاهرين على القتل والقيام بالمطالبة بقيام نظام ديني متشدد واحتلال أراضي أجنبية والدعوة إلى الإبادة الجماعية؟ هل هكذا نستطيع أن نحصل على المساواة بين الجنسين؟ أليست المساواة هي ما نسعى إليه؟ بالطبع لا.

بالتالي، النقطة الأولى التي أريد أن أسجلها بسيطة: إن النسوية لا تكون بوضع النساء في مراكز القوة وصنع القرار التي يسيطر عليها حاليًا الرجال. هذا النوع من النسوية هو بتعبير آخر «هراء نسوي». وأقول هذا لأنني تعبت من هذا النوع من النسوية التي تبدو مثيرة لجيل جديد من الشابات الوصوليات من الطبقة الوسطى (خصوصًا في الجامعات) والتي تهتف لزيادة عدد النساء في مجالس الإدارة. إننا نرى ازدهارًا في هذا النوع من النسوية التي تدعو إلى وجود النساء في مراكز القوة ومناصب العمل كرئيسة مجلس أو مديرة منظمة غير حكومية أو تكون مديرة تنفيذية. هذا النوع من النسوية يكرس مفهوم أنه يجب على المرأة أن تحصل على نصيبها من الكعكة/المجتمع العملي القائم.

بالنسبة لي، إن حث النساء على تبوء المناصب العليا ليس بالموضوع الهام وهو لا يختلف عن السعي لزيادة عدد النساء في صفوف جيش الاحتلال الإسرائيلي القاتل، ولا يختلف أيضًا عن مشاركة النساء في التخطيط الاستراتيجي للطموح الأمريكي الإمبريالي. كل هذا لا يفيد، فوجود النساء في السلطة واتخاذ مواقف مشابهة للسلطة هو تورط مباشر في معاناة النساء والرجال على حد سواء. إن هذا النوع من الحركات النسوية ليس واسع الانتشار ولكنه خبيث ولا يعود بالنفع على أحد.

لا تسيئوا فهمي، فهذا ليس مقالًا ضد النسوية، بل ما أسعى إليه هنا هو أن أُسلط الضوء على بعض المشاكل والصعوبات التي نواجهها كنسويات في عالم معولم وأحاول التركيز على الأسس الأخلاقية التي نشأت عليه الحركة النسوية.

النسوية: التعريف والدوافع

أولًا، ماذا أعني بالنسوية؟ تقوم النسوية على عنصرين: عنصر وصفي وعنصر معياري. يقول العنصر الوصفي بأننا نعيش في عالم أبوي حيث المرأة عرضة لاضطهاد منهجي لكونها امرأة. أما العنصر المعياري فيعلن أن هذا الاضطهاد غير مقبول أخلاقيًا وأن علينا العمل لتحدي وإضعاف هذا النظام الأبوي.

يعتمد النظام الأبوي/الذكوري على ركيزتين أساسيتين: أولًا، أن النساء هن مانحات الرعاية الأساسية في عالم لا يعطي قيمة للرعاية. وثانيًا، أن النساء عبارة عن جسد وهن مفرطات الجنس في عالم يعتبر الجنس أمرًا سيئًا وقذرًا. إضافة إلى هذا، يعلمُنا النظام الأبوي أن النساء، بطبيعتهن، يملكن هذه الصفات.

لكن هذه التركيببات الأبوية لا تقف بمفردها. إذ تساندها القوى الاقتصادية بشكل كبير، فتربط الاعتبارات المالية بالاجتماعية وتثبت الاثنين معًا. إن الرأسمالية قد استعادت النسوية واستولت عليها. تحصل هذه الاستعادة (ديبورد، 1975) عندما تقوم الأيديولوجية السائدة بالاستيلاء على فكرة ذات إمكانية راديكالية وتشويهها. إن الجندر، وكل المعايير القمعية المرتبطة به، أصبح يطرح على أنه مشكلة فردية يتم التعامل معها حسب خيارات كل شخص. أي، إذا كان جندري يؤذيني فهذه مشكلتي، وإذا آذاك جندرك فهذه مشكلتك. والنتيجة أن جندر الشخص يصبح ملكية خاصة ينبغي التعامل معها على حدة، وينبغي تحمّل المسؤولية الفردية عندما نفشل بأن نوقف أو نبعد العواقب الوخيمة أو الآثار الضارة.

إذا لم تعد النسوية وتتصل بجذورها الأخلاقية قريبًا، فستخسر مطالبها الملحة لتصبح مساحة قافرة وأنيقة من نظريات ما بعد الحداثة المكررة والمبتذلة. 

ترتكز النظريات النسوية في سياق ما بعد الحداثة بشكل رئيسي على خصوصية تجارب النساء وتتحدى فكرة أن «المرأة» مفهوم متجانس ذات صوت واحد. ولكن رغم أحقية هذه الأطروحة، فإنه ينتج عنها تقليل من أهمية التضامن على حساب انعزال غير مجدي يؤدي إلى عدم فهم النظام الأبوي كظاهرة عالمية واسعة الانتشار ومتطورة في ظل الرأسمالية.

وهكذا تم إعادة صياغة مصطلح الجندر من أساس سياسي إلى مصطلح فارغ لشيء جيد (فريزر، 2009، ص.4) وتم وضعه بشكل خاص في حملة علاقات عامة للليبرالية الجديدة. أصبحنا نسمع الآن جندر هذا وجندر ذلك، وكيفما أُدخِل هذا المصطلح في مكان ما، نحس بأننا قمنا بواجب مبهم لكن مهم. هذا المنطق يدّعي أنه يحترم الإختلاف وتنوع الثقافات. لقد أصبح المعنى الحقيقي لـ«تكافؤ الفرص» فرصًا متكافئة لزيادة تراكم رأس المال للآخرين، وصار من المصطلحات التي تحمل مشكلة اقتصادية مزدوجة، لأن السياسات التي تستهدف عدم المساواة بين الجنسين في الحقيقة تتوافق مع إعادة التنظيم الإقتصادي الذي يضع أعباء جديدة وإضافية على المرأة. في هذا النموذج، الناس الذين يطالبون بالمساواة الجندرية على صعيد السياسة العالمية يعملون في الواقع في خدمة حملة أشمل للحث على المنافسة والتسويق.

تمر النسوية حاليًا بمرحلة هامة جدًا، فإذا لم تعد النسوية وتتصل بجذورها الأخلاقية قريبًا، فستخسر مطالبها الملحة لتصبح مساحة قافرة وأنيقة من نظريات ما بعد الحداثة المكررة والمبتذلة. ويتحمل الأكاديميين بعض المسؤولية هنا. فبالطبع، علينا أن نصقل أدوات التحرير بالعمل النظري والنقد الدائم. ولكن علينا أن نحذر من أن تصبح مصقولة جدًا فتصبح أداة قمع جديدة. العمل النظري في الجندر يجب أن يكون جزءًا لا يتجزأ من الواقع والممارسة وإلا سيفقد كليًا القوة لإيجاد الحوافز من أجل تحقيق الأهداف النسوية.

كأكاديمين/ات ونشطاء نسوييات ونسويين، علينا أن نكون أكثر وضوحًا حول طرق بذل جهودنا النسوية. لا يمكن للحركة النسوية أن تركز فقط على إدراج النساء ووضعهن في المواقع الحالية للرجال، إما لنستبدلهم أو أن نكون مرافقين لهم. قد تكون هذه الاستراتيجية جيدة لو استحقت هذه المواقع الدفاع عنها ولو كانت مفيدة للمجتمع بشكل عام. ولكن عمومًا، معظمها ليس كذلك. لا يمكن أن تستمر النسوية بتمكين المرأة من أخذ حصتها من السلطة أو الثأر للمظالم الماضية والحالية. والحركة النسوية لا تقتصر على دراسة الجندر بشكل غير مجسد ومنفصل عن سياقه، فالجندر بدون شك هو أداة للظلم، لكنه يعمل من خلال اتصاله بأدوات أخرى للظلم. لذا علينا أن نستوعب النظام الحالي بكامله وكل ما ينتجه وكيف نوقف إنتاج هذه الأدوات. لذلك أولويتنا أن لا تكون النسوية منعزلة: إنها تحتاج إلى حلفاء ناشطين في الإيديولوجيات التي يتمثل هدفها في إعادة بناء الاقتصاد العالمي على نحو أكثر إنصافًا وتحدي إمبريالية الحدود والعنصرية.

لا يكون التحرر في جعل نساء عاملات يحققن أجرًا مساويًا لرجال من طبقتهن هم أيضًا في وضع سيء.

لا يكون التحرر في جعل نساء عاملات يحققن أجرًا مساويًا لرجال من طبقتهن هم أيضًا في وضع سيء فيشاركن في إبقاء النظام الاقتصادي على حاله. إن مشاركة النساء في صنع القرار للشركات ليس تحررًا، ففي الكثير من الأحيان، ما يوصف بأنه تحرر من القهر هو مجرد استعانة بمصادر خارجية ونقل الظلم واللامساواة بين الجنسين من موقع إلى آخر بينما تبقى السلطة الأبوية العالمية على حالها. إن النسوية الحقيقية من المستحيل أن تقبل بتسوية تحقق العدالة لبعض النساء على حساب أخريات.

في الأجزاء المتبقية من هذا المقال، أريد أن أوضح نقطة شديدة الاهمية: إن النضالات التي علينا خوضها في سبيل الجندر هي عالمية لأن حياتنا، بشكل أو بآخر، متورطة في العولمة. إن تحقيق بعض المكاسب على حساب المجتمعات الفقيرة أو المهمشة عنصريًا ليس نصرًا أو تحررًا، ولا يتناسب مع النسوية وأهدافها وأخلاقها.

عولمة القهر

في العقود القليلة الماضية، تمت عولمة التجارة من خلال تشكيل المنظمات الحكومية الدولية والمصارف العالمية، منتجة بنية فوقية هدفها إيجاد الأسواق الدولية. إن آثار هذه العولمة بلا شك سلبية، وخصوصًا على المجتمعات الأكثر فقرًا في العالم، فهي تعمق الفقر وإن ارتفع الحد الأعلى للثروة في تلك البلدان.

ما زلنا نرى ظواهر العولمة، من تزايد تركز الثروة ضمن طبقة معينة، إلى التهرب من الضرائب وممارسة التجارة الحرة، بالإضافة إلى انخفاض الإنفاق العام واتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء. وقد حلّت النزعة الاستهلاكية محل المواطنة. وتفككت المجتمعات وهُمِشت بسبب الهجرة الاقتصادية في سبيل تنمية الاقتصاد العالمي، وقد أصبحت الشركات هي التي تطالب بالعدالة، فلم يعد من المنطقي للفرد أو للجماعة المطالبة بالإنصاف.

وهنا سأناقش ستة من المواضيع والنقاط التي أثرت سلبًا على النساء في الدول الفقيرة بسبب العولمة، معتمدةً على العمل المبتكر والشامل لأليسون جاغر (2014).

أولًا: تأنيث العمل

مع توسع التجارة، نُقل عدد من الوظائف من دول الشمال إلى مناطق ذات أجور منخفضة في دول الجنوب. فنشأت طبقة عمال صناعية جديدة تتألف من نساء فقيرات تتجمع في منطقة الصادرات. في آسيا عمومًا، كان للعنصرية والتعصب الجنسي دور مهم في تسهيل هذه الخطوة. وقد ساهم إغراء المستثمرين الأجانب للشركات في جعل الحكومات الآسيوية سهلة الانقياد. تقوم هؤلاء النساء الفقيرات بعمل شاق وغير مجزي على الإطلاق وتقبلن بأي مقابل، ونراهن أيضًا يعرضن أجسادهن بكل يأس للصناعة العالمية لإنتاج المواد الإباحية.

الأمر ذاته ينطبق على القطاعات الجديدة من العاملات المهاجرات إلى دول الشمال. فهذا المنطق الرأسمالي (إذا استطعنا أن نسميه منطقًا) هو أيضًا منطق أبوي، حيث يُعتبر عمل هؤلاء النساء تكميليًا لا أساسيًا، بافتراض أنهن فقط يضفن على أجور أزواجهن الذين هم مصدر الرزق الرئيسي لعائلاتهم. ولكن في معظم الأحيان، ليس لهؤلاء العاملات زوج معيل. لذلك عادة ما تكون هذه الوظائف بدون أي تأمين أو تعويض وبدون عقود تحدد ساعات العمل، وبالطبع أجورها منخفضة للغاية. في ظل هذه الظروف يكون التحرش الجنسي جزءًا يوميًا من الحياة. وبسبب الفقر في بظل غياب أي جهة نقابية يمكن أن تحمي أو تدافع عن حقوق العاملات، تستمر كل هذه التجاوزات بدون أي رقيب وبدون أي عقاب.

ثانيًا: تصدير الزراعة

بعد أن تمت عولمة التجارة، أصبح تصدير المزروعات صناعة دولية كبرى. وبسبب ذلك، أزيلت العديد من القيود مما أدى إلى مرونة قوانين التجارة والسماح للشركات ببيع المؤن الزراعية الرخيصة لدول الجنوب. وبما أن معظم فلاحي العالم هم نساء، فقد تأثرن بشكل حاد. لكن هناك قسمًا معينًا تأثر بدرجة أكبر، فاضطرت النساء إلى اعتزال الزراعة والتوجه إلى وظائف جديدة نشأت في ظل الوضع الاقتصادي الجديد حيث الأجور منخفضة وظروف العمل سيئة. وللنجاة، كان الخيار الوحيد للعديد من النساء هو الدخول في مجال عمل الجنس.

ثالثًا:  تغيير البنية الهيكلية

إن معظم دول الجنوب مدينة بقروض هائلة لدول الشمال والمؤسسات المالية العالمية. وتحتاج هذه البلدان لكي تستطيع تلبية حاجاتها وتسديد ما عليها من قروض إلى المزيد من القروض. وهنا يبدأ تغير البنية الهيكلية لدول الجنوب. فلكي توافق دول الشمال على إعطاء القروض لدول الجنوب، تشترط عليها أن تصبح أقرب إلى السوق المفتوح وعادةُ ما يعني هذا تخفيض الأجور ورفع أسعار المواد الغذائية والقضاء تمامًا على الخدمات العامة. وبما أن المجتمعات تحمّل النساء مسؤولية الرعاية الأساسية، فالنساء أكثر من يتحملن عبء هذا التغيير الهيكلي للاقتصاد. إن القضاء على الخدمات العامة لا يجعل الرعاية الأساسية مهمة سهلة بل على العكس، وعلاوة على ذلك إن الكثير من الفتيات الصغيرات تتوقفن عن الدراسة لكي يساعدن أمهاتهن، وهنا تبدأ كارثة نشوء جيل كامل من الفتيات بدون تعليم يعشن في دوامة الفقر.

توضح الإحصاءات كيف أن تغيير البنية الهيكلية تعود بالفائدة فقط للبلدان المانحة. فقد أظهر مركز النزاهة المالية العالمية للأبحاث الاقتصادية عام 2013 أننا إذا جمعنا كل التدفقات المالية (سواء المشروعة أو غير المشروعة) بما فيها الاستثمار و التحويلات المالية والإعفاء من الديون والموارد الطبيعية وحتى الصادرات، فإن العالم يدين لإفريقيا. يجب ألا يخفى علينا أن دول الجنوب «الفقير» هو سبب تطور باقي العالم. وفوق طريق ظروف العمل القريبة للعبودية والأجور المنخفضة للرجال والنساء في دول الجنوب، فإن هناك جهدًا وقيمة اجتماعية مستغلة في العمل بلا أجر الذي تقوم به النساء للحفاظ على الأسر والمجتمعات المحلية حتى يظل العمل المأجور ممكنًا.

رابعًا: العسكرة

تستمر تجارة السلاح العالمية بالازدهار، فحالة الحرب هي حالة دائمة في العالم. إن الرجال هم المقاتلون الأساسيون في معظم هذه الحروب، لكن معظم الضحايا هم من النساء والأطفال الذين لا يكسبون شيئًا من النزاعات لكنهم يشكلون 80% من اللاجئين. بالإضافة إلى ذلك، ترتفع أثناء الحرب نسبة الاغتصاب والعنف المنزلي. وعندما ينتهي الصراع، تخضع النساء دومًا لمعايير قمعية على أساس التعصب الذكوري وغالبًا ما تكون معايير أكثر قمعًا من تلك التي كانت قبل الحرب.

خامسًا: الجنسنة

سهّلت العولمة نمو صناعة الجنس العالمية وكرّستها، وأصبح إنتاج المواد الإباحية يٌعتبر من أكثر الصناعات ربحًا في العالم، وقد ساهمت شبكة الإنترنت بإازدهار هذه الصناعة بلا شك. ساعد تسارع ازدهار وانتشار المواد الإباحية على جعل المرأة مادة جنسية. وتُعتبر التجارة الجنسية التي تستخدم النساء والأطفال وتستغلهم جنسيًا أكبر حركة إجرامية في العالم (98% من الضحايا هم من النساء والفتيات). في بعض الدول الأسيوية ومنطقة البحر الكاريبي، يعتمد الاقتصاد المحلي على تجارة الجنس والعمل في مجال الجنس كمصدر أساسي للدخل. ورغم أن مهنة الجنس ليست حديثة بالتأكيد، ولكن تفكك المجتمعات الريفية والهجرة إلى المدن، بالإضافة إلى الفقر وتفاقم اليأس، يجبر النساء على العمل بالدعارة والاستمرار بذلك.

سادسًا: التدهور البيئي

في السنوات الخمسين الماضية، شهد كوكبنا تدهورًا بيئيًا خطيرًا، شمل تلوث الهواء والتربة والماء والتصحر، بالإضافة إلى خلل في النظام البيئي وحالات انقراض في الحياة البرية. وبالطبع، سبب هذا التدهور هم البشر، والمتهمون الأساسيون في هذا الخلل هم أصحاب الصناعات الرابحة بشكل خيالي وسريع في دول الشمال والنشاط العسكري/الحربي الذي تديره تلك الدول. وللأسف، إن النساء الفقيرات هن مجددًا الضحايا، لأنهن مضطرات للتعامل مع نتائج التدهور البيئي من نقص للغذاء والماء والوقود، بالإضافة إلى الأمراض الناتجة عن سكنهن بالقرب من التلوث والسموم.

دراسة حالة إقليمية: عاملات المنازل المهاجرات في لبنان

العمالة المنزلية للنساء الأجنبيات في لبنان هي المثال النموذجي للطريقة التي ترتكز عليها تحرير المرأة في ظل الرأسمالية، وهو يتمثل بإنشاء قوة عمل جديدة أساسها الاستعانة بعمالة خارجية. تحت النظام الرأسمالي، يبدو أن قضية المرأة تظل معلقة كما قضية الفقر. ففي عالم معولم، تصبح النساء الأكثر فقرًا هم نساء العالم.

يتميز لبنان بمعاييره الاجتماعية التقدمية والتحررية نسبيًا في المنطقة، وخصوصًا بما يتعلق بعمل وتعليم المرأة. وفي لبنان كما في العديد من البلدان، فإن اللواتي يستمتعن بهذا هذا التحرر هن نساء الطبقة الثرية ذات السلطة. وتعتمد أعمال ونشاطات هذه الفئة على وجود العمالة المنزلية للنساء الأجنبيات اللواتي أجبرهن الفقر على أن يتخذوا هذا العمل كمصدر رزق. إن الظلم الفادح المتمثل في خدمة مجموعة من النساء لمجموعة أخرى هو أمر يصبح ممكنًا عبر العنصرية المصانة بحذر تجاه هؤلاء النساء، ويبرر عبر الخطاب الرأسمالي البارد (الذي يُختصر بعبارة «على الأقل لديها وظيفة») الذي يكرّس النظام الاقتصادي العالمي.

«عملية زراعة قلب عالمية»، هكذا وصفت العالمة الاجتماعية أرلي هوستشايالد العمالة المنزلية للمهاجرات الأجنبيات. فقد أصبح الحب والرعاية في ظل الرأسمالية سلع يتم استيرادها من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية. هذه العمالة تؤدي بالتأكيد إلى تغيير التركيبة السكانية في البلدان الغنية، أما البلدان الفقيرة فقد تستفيد من التحويلات المالية المرسلة والضرائب الناجمة عن هذه التحويلات. حلّت العمالة المنزلية للأجنبيات أزمة الرعاية بالنسبة للبلدان الغنية، ولكن هذه العمالة تركت وراءها في البلدان الفقيرة عجزًا في الرعاية وخلقت مجالات عمل ذات أجور منخفضة أو بدون أجرة على الإطلاق للنساء اللاتي لم يستطعن العمل خارج البلاد، وهذا يكرّس بلا شك الضرر الأخلاقي الواقع على البلدان الفقيرة المصدِرة للرعاية.

إن البلدان المرسلة للعمالة والرعاية المنزلية تتكبد خسارة كبيرة مقارنة مع البلدان المستقبِلة. تعاني دول  الجنوب طوال الوقت في محاولتها لسد القروض الوطنية نتيجة تغيير البنية الهيكلية. ويؤدي هذا إلى التقصير في الخدمات العامة التي تتضمن توفير الرعاية للأطفال ورعاية المسنين والبنية التحتية الأساسية مثل وسائل النقل العام. وتتحمل النساء العبء الأكبر في هذا التغيير الهيكلي، على اعتبارهن مانحات الرعاية الاساسية، لأن عليهن أن يسعين دومًا إلى تعويض النقص عن طريق إعادة تنظيم الحياة الأسرية بموارد قليلة والعمل بكد لتلبية جميع الاحتياجات الأساسية. نتيجة هذه الظروف ونقص الأطراف المعيلة يبقى خيار العمل في بلدان القسم الشمالي فرصة جيدة للنجاة.

يستضيف لبنان ربع مليون من عاملات المنازل المهاجرات. وقد تجاوزت هذه الظاهرة القبول الاجتماعي ليصبح طموح الطبقة المتوسطة امتلاك عاملة مهاجرة. ومن خلال نظام الكفالة القانوني، يتم استيراد العمال الأجانب حيث تبقى العاملة مقيمة في منزل صاحب العمل بدون أي نوع من الحقوق الأساسية مثل الإجازة المرضية أو ساعات العمل الثابتة، ومن دون أي حق قانوني يسمح لها بالبقاء في البلد إذا تم إنهاء عقد العمل. وطبعًا، يكون الأجر منخفضًا جدًا رغم هذه الظروف السيئة. تدعو الإحصاءات في لبنان حول العمالة الأجنبية للخجل الوطني، حيث تُحرم 99% من العاملات من مغادرة المنزل ومن أي حرية بالتنقل (مع وجود حالات حرمان من جواز السفر وتحديد أوراق قانونية أخرى، وثلث هذه الحالات تبقى أسيرة في المنزل). ثلثا العاملات الموجودات في لبنان يعملن لمدة إحدى عشر ساعة يوميًا، وأكثر من نصف العاملات أُسيء إليهن لفظيًا. ثلث العاملات يعملن كل أيام الأسبوع بدون أي يوم إجازة. ويقدّر مركز حقوق الإنسان أن عاملة تموت كل أسبوع في لبنان وأن معظم الوفيات تُصنف على أنها حالة انتحار أو حالة موت ناتجة عن حوادث أثناء الهروب من أرباب العمل أو الهروب من الحبس.

أن التنظيم النقابي للعاملات المهاجرات له أهداف واقعية تستحق النضال على المدى القصير بدون شك، (..) لكن استقدام نساء مهاجرات مشكلة أخلاقية يبقى في جوهره.

أثناء كتابة هذا البحث، كانت عاملات المنازل المهاجرات في لبنان يناضلن من أجل نقابة عمالية شكَلنها حديثًا، وهي تُعتبر الأولى من نوعها على صعيد المنطقة. في حال نجحت هذه الخطوة ستكون انجازًا كبيرًا في مجال حقوق عاملات المنازل المهاجرات في جميع أنحاء العالم.

أن التنظيم النقابي للعاملات المهاجرات له أهداف واقعية تستحق النضال على المدى القصير بدون شك، خصوصًا أن ظروف العمل في لبنان سيئة جدًا وبحاجة ماسة إلى تحسين. لكن برأيي الشخصي، بغض النظر عن طريقة تحسين ظروف عمل العاملات المهاجرات، يبقى استقدام نساء مهاجرات مشكلة أخلاقية في جوهره. إن العمل المنزلي الذي يتضمن الإقامة الدائمة هو عمل عاطفي بامتياز ويعتمد بالأساس على الحالة العاطفية للعاملة، بغض النظر عن ظروفها أو رأيها الشخصي. فهي توفر الرفاهية العاطفية لرب العمل وعليها أن تحضر دومًا بطلة لطيفة ووجه مبتسم ومريح يملأه البهجة تجعل رب العمل مرتاح/ة ومسرور/ة. لكن واقعيًا، فإن هذا الأمر يخفي علاقات القوى ووعيها له. فهي مضطرة أن تقوم بدورها في محيط جماعي يُعتبر فيه شخصها ثانويًا مقارنة بالذين حولها. فتصبح هي ونساء دول الجنوب مثلها وسيلة لغاية لا يمكن عكسها.

لهذه الأسباب فإن بعض التحسينات القانونية والتشريعية لن تكون سوى مخدّر قصير الأمد لألم كبير سيستمر خصوصًا في ظل الظروف المخزية في لبنان، حيث يتحالف التعصب العرقي والجنسي والعنصري والهرمية الموجودة بهدف إنكار حقوق الأشخاص والمحافظة على تعبئة وحماية رأس المال على حساب المواطنين والضعفاء.

النسوية ضرورة أخلاقية

علينا أن نرفض قوى السوق التي تحاول دومًا أن تجعل موضوع الجندر مسألة شخصية من خلال نسوية مشوهة تتألف من نساء الطبقة الوسطى البيض. هؤلاء النساء، بسبب قصر نظرهن ومعاييرهن، يستعملن منابرهن من أجل نظريات نسوية أكاديمية مشوشة أو لأجل تلبية طموحات شخصية. أكثر من أي وقت مضى، نحن بحاجة إلى تأكيد الهوية الحقيقية للنسوية، حيث الشخصي هو سياسي بطريقة شمولية وراديكالية، وهذا يعني أن ندرك أن كل نواحي حياتنا متورطة في هذه الدراما العالمية المركبة، وأن المأساة ما زالت تحصل في مكان ما.

إن كل من هذا المقال غالبًا ما يستخدم هاتفه المتطور أو كومبيوتره الشخصي الذي تم تصنيعه أو تجميعه في مصنع عماله من النساء الكادحات. الجميع يرتدي بنطال أو قميص أو أي قطعة ثياب غالبًا ما يتم صناعتها في بنغلادش من قبل امرأة تنام في غرفة مع 16 امرأة أخرى وتعمل لمدة ستة عشر ساعة باليوم مقابل القليل من المال (أقل من دولار بالساعة). جميعنا يأكل طعام جاهز أو اصناف متعددة من الطعام تم تحضيرها أو تحضير مكوناتها من قِبل امرأة ليست من اصحاب البشرة البيضاء. جميعنا اليوم يحظى بمكان عمل أو مكان دراسة نظيف ومهيأ بشكل رائع ويمنحنا الشعور الجيد لكي نعمل أو ندرس ونحظى برفاهية وهذا بفضل امرأة عاملة مهاجرة من دول الجنوب. والكثير من قراء هذا المقال ربما نشؤوا في منزل أو بيئة تتواجد فيها عاملة منزلية مهاجرة عملت بكد وكافحت لكي تستطيع أن تتقاضى أجرها وتحول القسم الأكبر منه إلى بلدها لكي تعيل عائلتها. المشكلة الأكبر تكمن في أن معظم هؤلاء النسوة لا يملكن نفقة الإلكترونيات أو الملابس أو المواد الغذائية التي يصنعنها، وأن جل ما يقدمن من خدمات يختصر أعظم وأكبر خدع الرأسمالية.

نحن بحاجة إلى تأكيد الهوية الحقيقية للنسوية، حيث الشخصي هو سياسي بطريقة شمولية وراديكالية.

إن العالم الذي نعيش فيه والذي تسوده العولمة والذي يقدم لنا الكثير من الخدمات والراحة هو عالم يعتمد على الأشخاص الذين يتقاضون أجورًا زهيدة لأعمال كثيرة، وهذا ما يساعد على نمو البروليتاريا. وهو عالم يعتمد على جهود النساء الفقيرات الملونات (العاملات المهاجرات من دول الجنوب). بالطبع، أنا لا أقصد أنهن وحده من يعملن في كل العالم، ولكن الفكرة هي أنه لا يوجد فعلاً أحد يعمل بهذه الشروط وبهذه الظروف وبهذه الأجور الزهيدة والحالة غير المستقرة، بالإضافة إلى العنف الممارس وسوء المعاملة، ورغم كل هذا يبقى العالم متجاهلاً لهذه الطبقة وناكرًا لمعروفها. إن هذه الطبقة من النساء العاملات التي أتكلم عنها تحديدًا هي التي، حرفيًا، تبدع وتنتج العالم الذي نعيش فيه.

إن النسوية التي لا تأخذ بعين الاعتبار الظلم العالمي بين الجنسين هي حركة يجب أن نرفضها رفضًا قاطعًا. هذا لا يعني أنه لا يجب علينا أن نكافح ونخوض في بعض القضايا المحلية الأخرى. ولكن النظام الأبوي الذي يتحكم بنا جميعًا ليس قضية صغيرة أو تافهة. لذلك علينا أن نتأمل دومًا وأن نُراكم خبراتنا ونهيئ شبكات تضامننا لنستطيع من خلالها أن نقاوم الشكل الأكثر شراسة من النظام الأبوي الذي يدعمه اقتصاد الليبرالية الحديثة والذي يرى أن الأرباح أهم من الناس.

إذن، ماذا أعني بالواجب الأخلاقي؟ سأعقد مقارنة للتوضيح. أنا أراهن أن كل امرأة أو رجل يقرؤون هذا الكلام سيدعون أنهم يعتبرون العنصرية أمرًا فظيعًا. لكن ذلك مثالي وغير واقعي بالتأكيد: جميعنا عنصريون بطرقنا الخاصة (وهذه الطرق كثيرًا ما تتقاطع، لأن تلك هي الطريقة البنيوية التي تعمل بها العنصرية)، لكنني آمل أن كل من يقرأ هذا المقال يدعي أنه ضد للعنصرية، وأننا نسعى جميعا لمكافحتها. رهاني الثاني هو أن القارئين يدعون كذلك أنهم ضد الفقر، فمكافحة السجن الذي تشكله سياسات التجويع وسوء التغذية والمرض والمِلل وبدون شك حالة القلق المادي الدائم الذي يعاني منه ثلثا العالم في ظل النظام الاقتصادي العالمي الحالي، كل ذلك أمر لا خلاف على أخلاقيته. رغم ذلك، فإن الكثير من الناس ذوي النويا الحسنة لا يسمون أنفسهم نسويين/ات، إما لأنهم لم يتعرفوا إلا على النسوية التي تكلمت عنها في البداية، أو بسبب عدم فهمهم لحقيقة ومعنى النسوية، أو بسبب عدم رغبة بعض الاشخاص بخسارة الامتيازات التي يقدمها لهم النظام الحالي. لست أدري تمامًا أي هذه الأسباب أقرب للواقع، ولكن ما أعرفه تمام المعرفة هو أننا عندما نفهم النسوية بحقيقتها وأهدافها، وعندما ندرك وضع العالم، سنعرف تمامًا لماذا دعم النسوية ضرورة أخلاقية.

* أريان شاهفيسي أكاديمية وكاتبة وناشطة كردية-بريطانية. تلقت التدريب في العلوم والفلسفة من جامعات أكسفورد وكامبريدج، وحازت على درجة الدكتوراه في فلسفة العلوم. ترتكز أبحاثها واهتماماتها الحالية على أخلاقيات البيولوجيا، والمنهجية العلمية، ونظريات المعرفة النسوية، وتسويق التعليم العالي، واليد العاملة الأجنبية، وتبادل النفايات العالمي. هي أيضًا أستاذة مساعدة في مادة الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت.

** الصورة أعلاه من مسيرة عاملات النازل المهاجرات في بيروت، في الأول من أيار 2015.


المراجع

Debord, G. (1957) “Report on the Construction of Situations and on the International Situationist Tendency’s Conditions of Organization and Action,” Paris.
Fraser, N. (2009) “Feminism, Capitalism, and the Cunning of History,” in New Left Review, 56, pp. 97-117.
Jaggar, A. (2014) Gender and Global Justice, Polity Press.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية